(171)
    قالت عائشة (رض) : يا بنت أبي أمية ، انت اول مهاجرة من أزواج رسول اللّه (ص) وأنت كبيرة امهات المؤمنين ، وكان رسول اللّه (ص) يقسم لنا من بيتك ، وكان جبرائيل أكثر ما يكون في منزلك ، فقالت أم سلمة : لأمر ما قلت هذه المقالة !؟ فقالت عائشة : « ان عبد اللّه ابن اختي اخبرني أن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائماً في شهر حرام ، وقد عزمت الخروج الى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ، فاخرجي معنا ، لعل اللّه ان يصلح هذا الأمر على ايدينا ، وبنا (1) .
    وكانت الذكريات ، تسرع بام سلمة وتعود بها الى عهد رسول اللّه (ص) ، حيث كانتا معاً هي وعائشة ، تريان بأم عينهما منزلة علي بن ابي طالب عليه السلام عند رسول اللّه (ص) يخلو به دون غيره من الصحابة ويناجيه ويسايره ويؤثره بعظيم حبه ، وينشر بين المؤمنين ما لعلي عليه السلام من درجات الفضل الرفيعة والمنزلة العالية .
    ثم تمثلت علي بن ابي طالب وبطولته وتفانيه في الجهاد في سبيل اللّه وهو يضرب بسيفه يدافع عن الرسول الكريم ، ويلقي بنفسه في لهوات الحروب ، فيخوض المعارك ويغوص في دماء المشركين ويحصد الكفار حتى يفرق جمعهم فلا يبالي في سبيل نصرة الدين أوقع على الموت او الموت وقع عليه .
    تمثلت ام سلمة العلم الجم الذي عند علي المقتبس من الرسول الأعظم المحيط الزاخر يملأ الآفاق والأكوان وذكرت قول النبي (ص) أنا مدينة العلم وعلي بابها .
    وتمثلت في علي بن ابي طالب روح العدل التي تجري في عروقه .
    وتمثلت عليه السلام في تقواه وورعه وزهده .
(1) تاريخ اليعقوبي ـ ص . 169 .


(172)
    وتمثلته عليه السلام في توجيه الناس الى سنن الخير ، وصرفهم عن الاندفاع في شهوات الدنيا وحثهم على طريق الخير وسلوك سبل الهدى والإيمان وعبادة الرحمان .
    وتمثلته عليه السلام في إرساء قواعد العدل ، وتثبيت دعائم الحق ، وإزهاق الباطل .
    وتمثلت الرسول (ص) حيث قال في حق علي : « علي مع الحق والحق مع علي ـ يدور معه حيثما دار » .
    وتمثلت أم سلمة أيضاً علياً وهو في كنف النبي عليه الصلاة والسلام وتحت رعايته .
    وتمثلت خلق عليّ الكامل في روحه الإنسانية الشاملة .
    وما أن وصلت السيدة أم سلمة الى هذا الحد من التصورات ، واستعادة الذكريات حتى التفتت الى رفيقتها السيدة عائشة ، وأجابتها بكل هدوء :
    يقول الاستاذ عمر رضا كحالة : (1) قالت أم سلمة : إنك كنت بالامس تحرضين على عثمان ، وتقولين فيه أخبث القول .. وانك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول اللّه (ص) .
    أفأذكرك ؟ قالت : نعم . قالت : أتذكرين يوم اقبل النبي (ص) ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعلي يناجيه فأطال ... فأردت أن تهجمي عليهما ، فنهيتك ، فعصيتني ، .. فهجمت عليهما ...
    فما لبثت أن رجعت باكية ؛ فقلت : ما شأنك ؟. فقلتِ : إني هجمت عليهما
(1) اعلام النساء : عمر رضا كحالة .


(173)
وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول اللّه (ص) إلا يوم من تسعة أيام ....( أفما تدعني يا بن أبي طالب ويومي ؟! ) فأقبل رسول اللّه (ص) وهو غضبان محمر الوجه فقال : ارجعي وراءك ... واللّه لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان ... فرجعت نادمة ساقطة ...
    قالت عائشة : نعم اذكر ذلك .
    قالت أم سلمة : وأذكرك ايضاً ـ كنت أنا وأنت مع رسول اللّه (ص) وأنت تغسلين رأسه ، وأنا أحيس له حيسا ، وكان الحيس يعجبه ، فرفع رأسه وقال : يا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الاذنب ، تنبحها كلاب الحوأب ، فتكون ناكبة عن الصراط ؟
    فرفعت يدي من الحيس فقلت : أعوذ باللّه وبرسوله من ذلك ! .. ثم ضرب على ظهرك وقال إياكِ أن تكونيها ثم قال : يا بنت أبي أمية إياك ان تكونيها . أما أنا فقد انذرتك ...
    قالت عائشة : نعم أذكر هذا ...
    قالت وأذكرك ايضاً : كنت أنا وأنتِ مع رسول اللّه (ص) في سفر له ، وكان علي يتعاهد نعلي رسول اللّه (ص) فيخصفها ـ ويتعاهد اثوابه فيغسلها ، فنقبت له نعل ، فأخذها يومئذٍ يخصفها ، وقعد في ظل شجرة ، وجاء ابوك ومعه عمر فاستأذنا عليه ، فقمنا الى الحجاب ، ودخلا عليه يحادثانه فيما ارادا . ثم قالا له : يا رسول اللّه انا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعاً .
    فقال لهما : اما اني قد ارى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو


(174)
إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ... ثم خرجا .
    فلما خرجا خرجن نحن الى رسول اللّه (ص) ، فقلتِ له : ( وكنت أجرأ عليه منا ) من كنت يا رسول اللّه مستخلفاً عليهم ؟ فقال : خاصف النعل ...
    فنزلنا فلم نر احداً إلا علياً فقلت يا رسول اللّه : ما أري إلا علياً ... فقال : هو ذاك ... يا عائشة ....
    فقالت عائشة : نعم اذكر ذلك ...
    عندما قالت السيدة ام سلمة : فأي خروج تخرجين بعد هذا ؟! فقالت : إنما اخرج للإصلاح بين الناس (1) .
    ولما رأت السيدة ام سلمة ان موقف رفيقتها السيدة عائشة موقف عناد ... وإصرار ـ وقد أزمعت الخروج الى البصرة ، التي كانت فيها وقعة ( الجمل ) الشهيرة ـ ولم يثنها عن عزمها شيء كتبت اليها رسالة طويلة تعبر فيها عن مدى اسفها ... وعدم الأخذ بالروية والتعقل والحكمة (2) .
    والسيدة ام سلمة راوية جليلة من راويات الحديث وقد روت عن النبي (ص) وعن فاطمة الزهراء عليها السلام وروى عنها جل مشايخ المسلمين وكثير من الصحابة المعروفين .
    وقد توفيت بالمدينة المنورة ( يثرب ) عن عمر يناهز الأربع وثمانين سنة ، ودفنت بالبقيع رضوان اللّه عليها .
(1) اعلام النساء ـ عمر رضا كحالة .
(2) ان رسالة السيدة ام سلمة الى رفيقتها السيدة عائشة قد ذكرها بالتفصيل اكثر المؤرخين ، وأصحاب السير .



(175)
فاطمة بنت الرسول (ص)
    في مناخ الايمان والعقيدة يسمو الانسان ، وتتهاوى سدود انانيته ، وتتحطم حدود فرديته وحواجز المادة الطاغية .
    فاذا تجرد الانسان من الادران والشوائب ، يشف اهاية ، وتشع نورايته ، ويتجاوز الزمان والمكان الى الديمومة والخلود .
    وبالعقيدة الراسخة ، والايمان القوي ، والاخلاق الفاضلة ، ترتفع اعمدة الحضارة والتمدن والرقي ، وتبنى قصور القيم ، وتتألق الحقيقة ويعم الوجود فيض من النور .
    أجل في مناخ الإيمان والعقيدة ، نشأت فاطمة الزهراء عليها السلام ، وترعرعت في كنف ابيها الرسول الاعظم (ص) ، ورعاية أمها خديجة أم المؤمنين (رضى) . وقد اغدقا عليها العطف والحنان مما يفوق الوصف .
    رضعت عليها السلام من ثدي الإيمان ، وربيت في حجر الاسلام ونهلت من المعين الصافي ، فكان الرسول الاعظم (ص) الوالد العطوف ، والمربي الشفوق ، والمعلم الكريم ، والمؤدب الحليم .
    كانت حياة فاطمة (ع) مليئة بالاحداث ، حافلة بالمصاعب والمتاعب ، مشحونة بالمحن والآلام .
    منذ طفولتها ذهبت مع ابويها العظيمين إلى شعب ابي طالب ، ولاقت هناك على طفولتها من شظف العيش ، وشدة الحصار ، واذية قريش ، ما لا يتحمله


(176)
جسمها الصغير ، وينؤ تحت عبئة الشيخ الكبير .
    ولكن الخطب الفادح الذي ألَّم بها وهي بعد لم تتهيأ للأحداث ، هو موت امها خديجة (رض) على مرأى منها ومسمع ، فقد اقض مضجعها ، وترك جرحاً عميقاً في القلب ، وحسرة ولوعة في النفس ، وعبرة حرّى تترقرق في العيون .
    بكت الزهراء عليها السلام عند موت والدتها ، بحسرة ولوعة ، لا سيما عندما شاهدت ذلك النور .. ينطفئ ... ورأت وميض الحياة يخبو في عينيها ، بعدما احتدم اعواماً متتالية بالكفاح في سبيل الاسلام .
    بكت الزهراء (ع) لرحيل امها التي نامت مستقرة تحت ثرى مكة وخلفت الدنيا من وراءها ، وقد امتلأت بالنفاق والشنئآن . والتاريخ مشغول باعظم حدث اهتزت له اركان الجزيرة بل العالم اجمع ألا وهو الاسلام والرسالة المحمدية ...
    اجل رحلت خديجة وخلفت التاريخ يرصد الساعات بل الدقائق من حياة الزوج الكريم وللرسول العظيم تلك الحقبة الحافلة بمشاق اعباء الرسالة والجهاد الاكبر في سبيل الدعوة الى الاسلام وتعاليمه .
    بكت الزهراء امها خديجة احرَّ بكاء ، بكتها من قلب ملهوف وفؤاد مكلوم ، حتى تقرحت اجفانها ...
    ولكن الذي هون عليها الخطب هي ان تجد والدها الرسول الكريم يحنو عليها ، ويغمرها بعطفه الفياض ، ويجعلها كنفسه حيث يقول : ( فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها ويبسطني ما يبسطها وان الانساب تنقطع يوم القيامة


(177)
غير نسبي وسببي وصهري (1) .

الهجرة الى المدينة ( يثرب )
    هاجرت فاطمة عليها السلام الى المدينة لتلتحق بأبيها النبي (ص) حيث كانت لا يقر لها قرار إلا بقربه ، ولا يهدأ لها بال إِلا بظله . ولا غرابة في ذلك فالنبي العظيم (ص) في ابوته الرحيمة ، وانسانية العالية ، وحنانه الفياض ، قد غمر الزهراء مزيداً من العطف والحب حتى ينسيها ذلك الشعور المرير المشحون بالوحشة لفراق امها .
    ذكر أكثر أهل السير وأصحاب التاريخ : أن النبي (ص) أمر علياً (ع) قبل هجرته بالمبيت على فراشه . وأوصاه ان يلحق به مع النساء بعد تسليم الودائع والامانات الموجودة عند الرسول لأهلها .
    وبعد هجرة النبي (ص) الى المدينة ، نفذ الامام علي (ع) امر الاموال والودائع ، ثم هيأ للنساء الرواحل ، واخرجهن من مكة في طريقه الى المدينة ، واشار الامام علي (ع) على المؤمنين ان يتسللوا ليلاً الى ذي طوى ، حيث يتوجه الركب منها باتجاه المدينة .
    ولكن الامام علي (ع) خرج بالفواطم في وضح النهار غير مبال بالمخاطر اعتماداً منه على شجاعته واتكاله على اللّه .
    وكان معه الفواطم وهن ... فاطمة الزهراء بنت محمد عليه الصلاة والسلام ...
1 ـ ينابيع المودة ـ للقندوزي الحنفي ـ ص ـ 219 .
المرأة في ظل الأسلام « 12 »


(178)
وفاطمة بنت الحمزة ... وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب . وكان معه ايضاً : ام ايمن وابو واقد الليثي ...
    فجعل أبو واقد يجد السير مخافة ان تلحق بهم قريش ، وتحول بينهم وبين اتمام المسير . فقال له علي (ع) :
    أرفق بالنسوة يا أبا واقد وتمهل .. وارتجز علي يقول :

ليس إلا الله فارفع ظنكا      يكفيك رب الخلق ما اهمكا

    وقد روي عن هجرة الزهراء (ع) الى المدينة غير هذا النحو تقول الدكتورة بنت الشاطئ : (1) .
    « هاجر النبي الى يثرب وعلى أثره هاجر علي بن ابي طالب وكان قد تمهل ثلاثة أيام بمكة ريثما أدى عن النبي المهاجر الودائع التي كانت عنده للناس .
    وبقيت فاطمة واختها ام كلثوم حتى جاء رسول من ابيهما فصحبهما الى يثرب ، واغلقت دار محمد بمكة كما أغلقت دور المسلمين فيها هجرة ، ليس فيها ساكن .
    ولم تمر رحلتها بسلام : فما كادتا تودعان أم القرى وينفصل الركب بهما ، مستقبلاً طريق الشمال ، حتى طاردهما اللئام من مشركي قريش ، وباء الحويرث بن نقيذ بن عبد بن قصي ، وكان ممن يؤذي أباهما النبي بمكة باثم اللحاق بهما حتى نخس بعيرهما فرمى بهما الى الأرض .
1 ـ تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ : وقد ذكروا هجرتها (ع) على عدة أوجه والله العالم .


(179)
    وكانت فاطمة (ع) يومئذ ضعيفة نحيلة الجسم قد أنهكتها الأحداث الجسام التي لقيتها قبل ان تمتلئ شبعاً ورياً .
    وترك الحصار المنهك أثره في صحتها ، وان زاد في معنويتها قوة على قوة . فلما نخس بها « الحويرث القرشي » فرمى بها واختها على اديم الصحراء الاوعث ، سارت بقية الطريق متعبة الى ان بلغت المدينة ـ وما تكاد ساقاها تنهضان بها .
    فلم يبق هناك من لم يلعن الحويرث . وسوف تمر السنوات وابوها الرسول (ص) لا ينسى الفعلة الشنعاء الآثمة ، بل سنراه في العام الثامن للهجرة . يذكر « الحويرث » يوم الفتح الاكبر . ويسميه مع النفر الذين عهد النبي إلى امرائه ان يقتلوهم وان وجدوا تحت استار الكعبة .
    وكان علي بن ابي طالب احق هؤلاء الامراء بقتل الحويرث وقد فعل . » .


(180)
    زواج فاطمة من علي عليهما السلام :
    في المدينة المنورة ، وفي بيت الرسول العظيم أقامت فاطمة عليها السلام ، تملأ بيت أبيها بعد الوحشة ، وتسهر على راحة ، ذلك الوالد العظيم ، بكل سرور واعتزاز . وقد سبحت عليها السلام شاكرة الباري سبحانه وتعالى على نعمه وآلائه وهي ترى أباها النبي عليه وآله الصلاة والسلام في أعز موضع مع أصحابه الذين يفدونه بالمهج والأرواح .
    وكان رسول الله (ص) قبل وصول الزهراء إلى المدينة بمدة وجيزة آخى بين المهاجرين والأنصار وذلك لحكمة بالغة حتى لا يشعرون بوحشة الاغتراب وتجتمع كلمتهم ويشد ازر بعضهم بعضاً .
    وفي السنة الثانية للهجرة من شهر رمضان المبارك ، زوج النبي (ص) ابنته فاطمة من علي عليه السلام وبذلك أصبح علي صهر النبي .. وابن عمه . وأخاه .
    ويذكر أهل السير ، انه لما عزم النبي على تزويج علي بن ابي طالب من ابنته فاطمة الزهراء عليهما السلام ، جمع الصحابة وخطب فيهم قائلاً (1) « الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع سلطانه ، المرغوب عن عذابه وسطوته النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته وميزهم باحكامه وأعزهم بدينه وأكرمهم بنبيه محمد (ص) وإن الله تبارك وتعالى اسمه وتعالت عظمته ، جعل المصاهرة سبباً لاحقاً وأمراً مفترضاً وانتهج بها الارحام وانتظم بها الانام وقال عز من قائل : « وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان
(1) ينابيع المودة ـ للقندوزي ـ الحنفي ـ ص ـ 207 .