(191)
    وقف ابو سفيان يتحرق لوعة وتوجه الى الباب لينصرف وقد اظلمت الدنيا في عينيه ، والتبست عليه الامور ، ثم لم يلبث ان وقف وقال بأنكسار :
    « يا أبا الحسن ، اني ارى الأمور قد اشتدت علي ، وأرى الزمان الذي كنت في آمراً ...و ناهياً قد ولى ، فلا تبخل عليًّ في ارشادي ونصحي » ..
    ولاحت لابي سفيان بارقة أمل اخرى ، لماذا لا يكلم الزهراء ... ألم تشفع اختها زينب لزوجها ابي العاص بن الربيع يوم كان مشركاً ...
    ان الزهراء ابنة محمد ، واحب خلق الله اليه ، ذات القلب الرحيم ، وتوجه الى فاطمة ، وكان الحسن والحسين يدبان بين يديها ، ويعثران فقال لها :
    « يا ابنة محمد ، هل لك ان تأمري احد ولديك هذين فيجير بين الناس ؟ ... و يكون سيد العرب الى آخر الدهر . اجابت الزهراء (ع) بكل هدوء ووقار : والله ما بلغ ولدي هذا أن يجير بين الناس . وما يجير أحد على رسول الله (ص) .
    وابت الزهراء أن تتدخل مع أبيها في مثل هذه الأمور ولكن أبا سفيان ظل يلح عليها ويتوسل اليها بولديها ، ونبرات صوته تتقطع من الفشل والخيبة وفاطمة «ع» بقيت على موقفها السلبي منه .
    وعاد زعيم المشركين يتحدث مع علي ، وقلبه يتفطر ويقول له بكل انكسار : لا أدري بأي لسان ارجع إلى قريش ، وقد عقدت علي الأمال ، واوفدتني إلى محمد ، وهي ترجو ان لا ارجع اليها أجر أذيال الخيبة والخسران .
    قال له الإمام (ع) : والله لا أرى لك مخرجاً غير ان تقوم على ملأ من الناس ، فتجير بين الفريقين من سادة كنانة ، ومع هذا فإني لا اظن ان


(192)
ذلك يجديك نفعاً .
    خرج أبو سفيان حتى انتهى إلى جمع من المسلمين ، فصاح : ألا اني قد اجرت بين الناس ، ثم دخل على النبي وقال : لا اظنك ترد جواري يا محمد ... فلم يزد النبي (ص) في جوابه على قوله : انت تقول ذلك .
    واتجه أبو سفيان نحو مكة ، وهو يتعثر باذيال الفشل والخذلان .
    حدث كل هذا وفاطمة «ع» واقفة تسبح الله وتمجده . وهي ترى ابا سفيان رأس الشرك ، يتململ ذليلاً بين أيدي المسلمين ، ويرجع أخيراً بالفشل والخسران المبين .
    وقفت عليها السلام مزهوة بانتصار الحق على الباطل والإيمان بالله ... على الشرك والضلال . وعادت بها الذاكرة يوم كانت مع أبيها بمكة قبل سنوات ثمان ، فتذكرت الزهراء مواقف قريش ، كيف كانت تطارد النبي وأصحابه المسلمين ، بشتى أنواع الاساءة والأذى .. حتى خرج صلوات الله عليه في جوف الليل متجها نحو يثرب التي وجد فيها أنصاراً له مخلصين عاهدوه على بذل المهج والأرواح ، ليمنعوه من قريش وأحلافها ، ومن كل من يضمر للاسلام كيداً .

    دخول جيش المسلمين مكة
    سار النبي (ص) في عشرة آلاف من المسلمين ، ميمماً شطر مكة المكرمة ، ولواؤه مع ابن عمه وصهره ووصيه علي ابن ابي طالب (ع) .
    ومن قبل كان عليّ حامل « العقاب » في خيبر وهي اول راية للرسول


(193)
الأعظم ـ كما ورد في طبقات ابن سعد .
    وكذلك حمل ـ علي ـ راية الرسول في غزوة بني قريظة ... وحمل لواء المهاجرين يوم أحد . وحمل بعد ذلك لواء الرسول (ص) يوم حنين (1) .
    وذكر الطبري في تاريخه : « أمر رسول الله سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء (2) .
    وقال سعد حين توجه داخلاً : « اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة » فسمعها رجل من المهاجرين فقال :
    يا رسول الله اسمع ما قال سعد بن عبادة ، وما نأمن أن تكون له في قريش صولة !
    فقال رسول الله (ص) : لعلي ابن أبي طالب أدركه فخذ الراية منه ، فكن أنت الذي تدخل بها » .
    ودخل رسول الله من اذاخر ، حتى نزل باعلى مكة ، ضربت له قبة هناك قريبة من مثوى خديجة .
    كانت الزهراء معه ، خرجت فيمن خرج من النساء المؤمنات ، ترافق أبيها وتشاهد فتح مكة والنصر المبين ، وقد أنساها الفرح الأكبر كل ما ألم بها من تعب وعناء .
    ولكن أطياف الماضي أخذت تحوم حولها وتتراآى لها .
(1) طبقات ابن سعد الكبرى .
(2) كداء ـ جبل بأعلى مكة
المرأة في ظل الاسلام (13)


(194)
    تذكرت أمها خديجة (رض) ... وعمها أبا طالب ، واختيها زينب ورقية وقد هاجرتا مثلها من مكة ، ولكن إلى غير رجعة .. لقد رقدتا تحت ثرى المدينة المنورة .
    وها هي ( الزهراء ) ترجع وحدها مع أبيها الفاتح العظيم وزوجها البطل الكبير ، وكم تمنت لو أن أمها ... وعمها وجميع الأحباب المفقودين يشاركونها الفرحة الكبرى بالنصر المبين .
    انهملت الدموع من عينيها غزيرة ، فقد هاجت بنفسها الأشجان ، وبقيت مع أطيافها وهي تقترب من أم القرى وفي غمرة شجونها وأساها ، صحت من تأملاتها على صوت الحق المنبعث من حناجر المسلمين الفاتحين .
    كادت الجبال تتصدع خشية ورهبة .. من هتاف عشرة آلاف مسلم قائلين :
    «الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلا الله والله أكبر » .
    وقفت عليها السلام وهي تنظر إلى أهالي مكة ، وطواغيت قريش ... وهم يفرون من وجه تلك الجموع الدافقة ... وقد استولى عليهم الذعر والخوف والجزع . وكاد قلبها يطير فرحاً عندما شاهدت أباها النبي العظيم (ص) بين أصحابه ، يحفون به وهو منحي الرأس تواضعاً لله وشكراً له على ما أنعم عليه سبحانه .
    ودخل الرسول (ص) على هذه الصورة ، حتى لتكاد جبهته الشريفة تمس رحل الناقة ... ورأته عليه الصلاة والسلام يوصي قادة جيشه بعدم مقاتلة أحد . ويعلن العفو عن الجميع مستثنياً أفراداً قلائل من الرجال والنساء ،


(195)
سماهم بأسماهم ، وأمر بقتلهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة (1) .
    وقفت الزهراء (ع) فخورة مزهوة بنصر الله ، وكأن السماء ترعى ذلك الحشد الضخم من المسلمين المجاهدين ، وتحفظ تلك الجموع الملتفة حول القائد الرسول ...
    « وطافت الملائكة تبارك انتصار حزب الله على حزب الشيطان قال تعالى : « فإن حزب الله هم الغالبون » (2) .
    وذكر الطبري في تاريخه وابن هشام في سيرته ، أن رسول الله (ص) قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .
    الا كل مأثرة (3) او دم او مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ... إلى قوله (ص) :
    يا معشر قريش ، إن الله قد اذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم خلق من تراب . ثم تلا رسول الله (ص) : « يا أيها الناس إنا خلقناكم
(1) تحت استار الكعبة : مراده عليه الصلاة والسلام لعظيم الذنوب التي اقترفوها . منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح لأنه كان قد اسلم وارتد مشركاً . ومنهم عبد الله بن خطل من تميم ، لأنه قتل مسلماً وارتد مشركاً . وكانت له قينتان تغنيان بهجاء الرسول (ص) .
    والحويرث بن نقيذ كان ممن يؤذي الرسول (ص) .
    ومقيس بن صبابة لأنه قتل الانصاري الذي قتل اخاه خطأ ورجع الى قريش مرتداً . وعكرمة بن ابي جهل ... وغيرهم ... ومن النساء : هند بنت عتبة « أم معاوية » التي مثلت بشهداء أحد ولاكت كبد الحمزة ... وسارة مولاة عمر بن هاشم بن عبد المطلب وغيرهم .
(2) سورة المائدة ـ آية ـ 56 .
(3) المأثرة : هي الخصلة ـ او العادة التي تتوارثها الناس ويتحدثون بها .



(196)
من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم » .
    يا معشر قريش ويا أهل مكة ، ما ترون إني فاعل بكم ؟ قالوا خيراً ... اخ كريم ... وابن أخ كريم .
    ثم قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ...
    وكانت الزهراء واقفة وعيناها معلقتان بأبيها وقد رأته عليه وآله الصلاة والسلام وسط الجموع الزاخرة وطاف بالبيت الحرام سبعة اشواط ثم جلس برهة يستريح ، ريثما يطمئن الناس اثر موجة الفتح الدافقة .
    وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه : « ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله (ص) على الإسلام فجلس لهم على الصفا » .
    ولما فرغ رسول الله (ص) من بيعة الرِّجال بايع النساء واجتمع إليه نساء من نساء قريش ، فيهن هند بنت عتبة بن أبي ربيعة وكانت متنقبة . متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها ( بحمزة ) يوم أحد .
    فهي تخاف أن يأخذها رسول الله (ص) بحدثها ذلك .
    فلما دنون منه ، ليبايعنه ، قال رسول الله (ص) : تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً ؟ فقالت هند :
    والله إنك لتأخذ علينا امراً ما تأخذه على الرجال ! وسنؤتيكه . قال : ولا تسرقن ؟ قالت : والله إن كنت لأصيب من مال ابي سفيان الهنة والهنة ، وما أدري أكان ذلك حلاً لي أم لا ؟ .
    فقال رسول الله (ص) : وإنك لهند بنت عتبة !؟
    فقالت : انا هند بنت عتبة ، فاعف عما سلف ... عفا الله عنك .


(197)
    قال : ولا تزنين ـ قالت : يا رسول الله هل تزني الحرة ؟! قال : ولا تقتلن أولادكن ؟ قالت : ربيناهم صغاراً ، وقتلتهم يوم بدر كباراً .
    قال الرسول : ولا تأتين ببهتان تفترينه بين ايديكن وأرجلكن . قالت والله إن إتيان البهتان لقبيح ... ولبعض التجاوز امثل .
    قال : ولا تعصينني في معروف ؟ قالت : ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف ... الخ .
    أقبل المساء بعد نهار حار ، مشحون بالتعب ؛ فرجع الرسول البطل الظافر الى قبته ، حيث كانت تنتظره ابنته الزهراء عليها السلام بفارغ الصبر .

احلام ... وتصورات ... وذكريات :
    لقد تمثلت روح امها الطاهرة تطل من عُلاها ؛ ترعى زوجها الحبيب النبي العظيم في هذا اليوم المشهود ... يوم النصر .
    التفت الزهراء عليها السلام ، فرأت أبيها النبي بابتسامته المشرقة وعطفه وحنانه ، فهبت تتلقاه مرحبة مهنئة ، ثم تنفست الصعداء وأردفت تقول :
    ألا ليت أمي ( خديجة ) التي بذلت جميع أموالها ، وضحت بالنفس والنفيس لتقوية الإسلام ، ودعم محمد ... وإرساء قواعد الرسالة المقدسة .
    ليتها بقيت الى هذا اليوم المشهود لتقر عينها بمرأى تحطيم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ؛ وجميع الاصنام التي كانت داخل الكعبة المشرفة وعلى سطحها ، وقد تكسرت تحت أقدام المسلمين ، وتحطمت بيد علي أمير المؤمنين .
    وليت أمي ( خديجة ) بقيت الى هذا اليوم : لتشهد معي الفرحة الكبرى ،


(198)
وترى اولئك الطغاة ، وقد تركتهم قبل سنوات قليلة يلاحقون النبي العظيم وأصحابه المسلمين المؤمنين ، ويكيلون لهم أنواع الأذى والاستهزاء .
    ليتها تراهم اليوم كيف ضرب الله عليهم الذلة . يلوذون بالنبي عليه وآله الصلاة والسلام ، يتململون بين يديه بكل انكسار مخافة العقاب والقصاص .
    ليتها بقيت الي هذا اليوم، لتسمع صوت (بلال) تتجاوب اصداؤه في شعاب مكة، و هو يهتف من علي سطح الكعبة المشرفة ... « أشهد أن لا إله إلا اللّه ... و أشهد أن محمداً رسول اللّه ... » .
    ليت ( خديجة ) بقيت الى الآن ، حتى تسمع صوت بلال يؤذن لصلاة الصبح من فوق الحرم الأقدس فيخشع الكون لجلال الأذان وروعة الدعاء ... وهيبة المكان ... ويهب المؤمنون من مضاجعهم ، بكل نشاط ، ساعين الى المسجد الحرام بقلوب طافحة بالايمان ونفوس قوية بالعقيدة ، يسبحون للخالق الدَّيان وألسنتهم تلهج بالتهليل والتكبير ، ليؤدوا للمرة الأولى فريضة الإسلام في البيت العتيق والكعبة المشرفة المطهرة من الأوثان ... تجلت عظمة الخالق الديان .
    لكن مشيئة الباري تعالى قضت على ( خديجة ) أن ترحل عن الدنيا الزائلة وفي قلبها حسرة ... وفي نفسها لوعة ، ولكنها رضي الله عنها لشدة إيمانها على ثقة بأن النصر في النهاية حليف الإسلام والنبي محمد . وأن الناس سيدخلون في دين الله افواجاً .
    وتحلو الأيام للزهراء عليها السلام ، لتقضي مع الرسول في ( مكة ) أياماً حافلة .
    وتسعد لترى معاقل الشرك تنهار تحت اقدام ابيها الرسول وترى ايضاً فلول المشركين لا تجد بديلاً لها عن قبول الدعوة الإسلامية .


(199)
    جاء نساء الأنصار الى الزهراء يتساءلن ... هل سيقيم النبي بمسقط رأسه ( مكة ) وينسى المدينة وأهلها الأنصار ؟؟
    إن ابتهاج الرسول (ص) بالفتح وإسلام قريش وحرصه على تآلفهم وغبطته بالرجوع الى ( مكة ) بعد الهجرة والاغتراب مما يثير بالأنصار نوازع القلق والحيرة .
    خصوصاً بعدما رأى رجال الأنصار عفو النبي العظيم عن طواغيت قريش ومن والاها .
    فقال قائلهم :
    « لقد لقي والله رسول الله (ص) ... قومه !! »

عتب الانصار على الرسول (ص) :
    أنشد الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري « يعاتب الرسول (ص) إيثاره قريشاً وغيرها من قبائل العرب « بالعطاء والفيء » دون الأنصار قال حسان ذلك في قصيدة منها :
وأت الرسول وقل يا خيـر مؤتمن علام تدعى « سليم » وهي نازحة سماهم اللـّه أنصـاراً بنصـرهم وسـارعوا في سبيل اللّه واعترفوا للمؤمنيــن إذا ما عُدِّد البشــر قدام قوم هموا آوو وهم نصـروا دين الهدى وعـوان الحرب تستعر للنائبات وما ضاقوا وما ضجروا

(200)
والناس ألب علينا فيك ، ليس لنا فما ونينا ، وما خنا ، وما خبروا إلا السيوف وأطراف القنـا وزر منا عثاراً وكل الناس قد عثروا !
    وبلغ سمع سيدة النساء ( فاطمة ) ما قاله حسان ... وما أشار إليه من الوجد الذي خامر نفوس الأنصار ... فقدرت أن لهذا العتاب الصريح تفاعلات ... له ما بعده ، وقفت واجمة حيري .
    ولكنها عليها السلام كانت مطمئنة إلى أن أباها الرسول (ص) سوف يجد له مخرجاً ولا يدع الأنصار إلا أن يجعلهم في اطمئنان قريري العين .
    ذكر الطبري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال :
    « لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة (1) وحتى قال قائلهم :
    « لقي والله رسول الله قومه » .
    فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في الفيء الذي أصبت .
    قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً من قبائل العرب ، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء .
    قال (ص) : فأين أنت من ذلك يا سعد ..؟
(1) القالة : الكلام المتداول ـ السيء .