(201)
    قال : يا رسول الله ما أنا إلا من قومي . !
    قال : فاجمع لي قومك في الحظيرة ...
    قال : فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ...
    فجاءه رجال من المهاجرين ، فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم ، فلما اجتمعوا إليه أتاه سعد فقال :
    قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله (ص) فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل .
    ثم قال : يا معشر الأنصار ما ـ قالة ـ بلغتني عنكم ؟
    وموجدة (1) وجدتموها في أنفسكم !؟
    ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة (2) فأغناكم الله ، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم .؟
    قالوا : بلى ـ لله ولرسوله المن والفضل ...
    فقال : إلا تجيبوني يا معشر الأنصار .؟
    قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ، لله ولرسوله المن والفضل ...
    قال : أما والله ، لو شئتم لقلتم : فصدقتم ولُصُدّقتم ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، ...
    وجدتم في انفسكم يا معشر الانصار في لعاعة (3) من الدنيا ، تألفت بها قلوب قومٍ ليسلموا ، ووكلتكم إلى اسلامكم !؟
(1) المعروف عند اهل اللغة ـ الموجدة اذا اردت الغضب .
(2) عالة : جمع عائل ... وهو الفقير .
(3) لعاعة : بالضم ... بقلة ناعمة ...



(202)
    أفلا ترضون يا معشر الأنصار ان يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله الى رحالكم .
    فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت إمرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً (1) وسلكت الأنصار شعباً ،لسلكت شعب الأنصار ... ثم قال :
    « اللهمَّ ارحم الانصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار » .
    قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا :
    « رضينا برسول الله قسماً وحظاً » ثم انصرف رسول الله (ص) ، وتفرقوا » (2) .
    بقيت الزهراء (ع) إلى جانب أبيها بمكة حوالي شهرين وبعض الأيام ...
    فقد جاءت مع ابيها وزوجها وجيش المسلمين الى البلد الحرام ، في شهر رمضان من العام الثامن للهجرة ، وغادرتها مع ابيها وزوجها والأنصار الى المدينة المنورة في آخر شهر ذي الحجة من العام نفسه .
    لقد سعدت الزهراء (ع) عامين كاملين ، ونعمت بالهدوء والاستقرار ، تستجلي طلعة أبيها النبي (ص) في الغدو والآصال تلك الطلعة البهية المشرقة .
    وقد ابتسمت لها الأيام ، فاستردت بعض قواها ، التي ذهبت بها الصدمات التي لاقتها في حياتها الأولى ، واستعادت نشاطها فعكفت توفر الراحة لزوجها الإمام علي (ع) . وتبذل ما في وسعها لتربية أولادها « أحفاد الرسول وأحبابه وذريته وامتداد نسله » .
(1) الشعب : الطريق بين جبلين .
(2) كما ذكر هذه الرواية الطبري في تاريخه ، كذلك ذكرها ابن هشام في سيرته ، وغيرهما من أهل التاريخ والسير ...



(203)
    تاركة شؤون الدار وخدمته لجاريتها ( فضة ) التي جاء بها الإمام علي (ع) من الغنائم التي نالها في المعارك .

الزهراء (ع) واليقظة المروِّعة :
    امتد الحلم الهنيء ... وابتسمت الأيام ... وراحت « فاطمة » عليها السلام تنعم في غيبوبة من السعادة والحبور ...
    ثم أفاقت من حلمها على ما هز كيانها وكانت اليقظة المروعة .
    اشتكى النبي (ص) من مرض ألَّم به في أواخر شهر صفر في السنة الحادية عشر للهجرة .
    وكان عليه وآله الصلاة والسلام قد جهز جيشاً لمحاربة الروم وأعدَّ لقيادة هذا الجيش العظيم « اسامة بن زيد » وكان في مطلع شبابه .
    أمر النبي جميع المهاجرين والأنصار ان ينضموا إليه ... وجعل يستحثهم على الخروج ... ويلح ... ويقول : « نفذوا جيش اسامة » .
    وظن اكثر المسلمين وبنو هاشم انها وعكة طارئة لا تلبث ان تزول ولم يفكر أحد أو يخطر على باله أنه مرض الموت .
    ويشتد المرض بالنبي العظيم ... يوماً بعد يوم ولكن سيدة النساء الزهراء لم تكد تسمع بشكوى أبيها ، حتى أجفلت وارتج قلبها ... وانهارت اعصابها ... وكأنها والموت على ميعاد .
    ألم تسمعه عليه وآله الصلاة والسلام وقد وقف بين أصحابه يعظهم ويقول : أوشك أن ادعى فأجيب .


(204)
    وسمعته في حجة الوداع على جبل عرفات وقد وقف بين المسلمين يقول لهم : ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) .
    ورأته مراراً يخرج الى زيارة القبور ويخاطبهم بكلمات تشعر بدنو أجله .
    وما ان سمعت شكواه حتى أسرعت وقلبها يرتجف وقد استولى عليها الحزن ... والخوف ، ولكنها كانت تتجلد صابرة .
    رأته (ص) يجمع اصحابه ، ويوصيهم بأهل بيته خيراً بنصوص كثيرة وفي كتاب ظلال الوحي قوله :
    « على ان حياة النبي كانت مفعمة بتلك النصوص ، منذ يوم الانذار في دار ابي طالب فما بعده من الأيام حتى سجي على فراش الموت والحجرة غاصة بأصحابه فقال :
    أيها الناس ، يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا وإني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض » (1) .
    ورأته عليه الصلاة والسلام يطلب من أصحابه دواة وقرطاساً ، ويلح في طلبه ويكرر قائلاً : « آتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي ابداً ...» .
    وخانها تجلدها واصطبارها ، وقد رأت اباها الرسول يتململ من شدة الألم ويأخذ الماء بيده الشريفة ليمسح به رأسه لعله يخفف وطأة الألم . ثم يتأوه قائلاً : واكرباه ...
(1) عن كتاب في ظلال الوحي ـ للسيد علي فضل الله الحسني .


(205)
    انكبت عليه ( الزهراء ) تشمه وتصيح ... واكربي بك يا أَبتاه واكربي لكربك يا ابتاه .
    وينظر إليها بكل عطف ... وحنان ... وإشفاق . ينظر إليها نظرة مودع لهذه الدنيا الزائلة ، المليئة بالهموم والأحزان .
    ثم يقول : لا كرب على أبيك بعد اليوم . ويوصيها عليه السلام بالصبر وتقوى الله سبحانه ، وأسرَّ إليها أنه قد حان اجله وأنها أول اهل بيته لحوقاً به . وقال لها : « أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة . فتجلدي ... واصبري ».

الزهراء (ع) يوم وفاة النبي (ص) :
    نزل القضاء الذي لا مفر منه ، ولحق الرسول العظيم بالرفيق الأعلى ، وبقيت الزهراء عليها السلام حزينة كئيبة يتيمة ، لا تجد للسلوان منفداً إلي قلبها ، ولا تجد الى العزاء سبيلاً .
    وعلا الصراخ ... والعويل من البيت النبوي الشريف ، فعلم أهل المدينة بالمصاب الفادح الأليم ، وراحت الزهراء في غيبوبة أفقدتها الوعي .
    ولما أفاقت من غيبوبتها ، وجدت الناس كالبركان الثائر سكارى من وقع المصاب ، حيارى من أمرهم ، فقد انصرف جماعة من الصحابة ، الى « سقيفة بني ساعدة » حيث الانصار قد اجتمعوا يتداولون في امر الخلافة ، وذلك بعد ما تأكدوا ان المهاجرين قد اجتمعوا يبرمون الأمر حسب ميولهم وتخطيطهم ، ضد أصحاب الأمر الشرعيين ، الذين نصَّ عليهم الرسول الكريم ...
    وكان بين المهاجرين والأنصار حوار واسع وكلام كثير ، وأخذ ورد ، وكانت النتيجة لصالح « أبي بكر » .


(206)
    وافتقدت الزهراء زوجها علياً عليه السلام ، وأين هو من هذا الخضم ؟ الذي تتعالى أمواجه ، وتتقاذف الناس من المسلمين حسب الأهواء ... والأغراض ...
    وإذا به عليه السلام قد انصرف مع جماعة ، من خيار الصحابة عن كل شيء ، ولم يعد من هم لهم إلا تجهيز النبي لمثواه الأخير .
    حدث كل هذا و« فاطمة » يغشى عليها ساعة بعد ساعة ، لكنها أخيراً جمعت كيانها المشتت ... وتحاملت على نفسها ، وذهبت تسعى الى قبر الحبيب أبيها الرسول (ص) .
    ويا له من منظر يفتت الأكباد ، ويتصدع له الصخر الأصم .
    ألقت بنفسها على القبر ، ووقعت مغشياً عليها ، ولما أفاقت من غشيتها صاحت من قلب كئيب :
    يا أبتاه ... أجاب ربا دعاه ... يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه .
    وفي طبقات ابن سعد : أن فاطمة قالت : يا أبتاه ، إن جبريل ينعاه ، يا أبتاه ، مِن ربه ما أدناه ، يا أبتاه من جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه ، أجاب رباً دعاه .
    وخنقتها العبرات ، فبكت عليها السلام ، حتى تقرحت أجفانها ، وبكى الناس لبكائها ، ثم استرجعت وقالت :
اغبرَّ آفـاق السـماء وكـورت فالأرض من بعد النبـي كئيبـة فليبـكه شـرق البـلاد وغربها وليبـكه الطـود المعظم جوده يا خاتم الرسل المبارك ضوءه شمس النهار وأظلم العصران أسفاً عليـه كثيرة الرجفـان ولتبكه مضر وكل يمــاني والبيت ذو الأستار والأركان صلى عليــك منزل القرآن


(207)
    واستعبرت باكية ، فبكى الناس رفقاً بها وتقطعت قلوبهم حزناً عليها ، وهم ينظرون اليها ، وهي تقلب التراب بين أناملها ، في حركة يائسة ، كمن فرغت من الدنيا ، ثم تأخذ حفنة من تراب القبر ، وتدنيها من عينيها اللتين قرحهما البكاء ثم راحت تشم ذلك التراب وهي تقول متفجعة :
ماذا على من شم تربة احمد صُبَّت عليّ مصائب لو أنها ألا يشم مدى الزمـان غواليا صبت على الأيام عدن لياليا
    ورجعت عليها السلام ، مع بعض النسوة الى البيت ، والناس تتبعها بعيون دامعة ، وقلوب متصدعة ، حتى إذا بلغت دارها ، استأذن عليها أنس بن مالك وراح يسألها الصبر والعزاء ، فقالت له معاتبة :
    يا أنس ، كيف طابت نفوسكم ، أن تحثوا التراب على رسول الله ؟؟
    ثم قالت وقد شرقت بدمعها :
إِنا فقدناك فقد الأرض وابلـها فليت قبلك كان الموت صادفنا وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب لمـا نعيت وحـالت دونك الكثب
قال ابن شهر اشوب في مناقبه : إن الزهراء عليها السلام ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة : تقول لولديها : أين ابوكما (1) الذي كان يكرمكما ويحملكما ؟ أين ابوكما الذي كان من أشد الناس حباً لكما وشفقة عليكما !!
(1) ابوكما : تعني جدهما رسول الله (ص) . كان يحبهما كثيراً وكان لهما بمنزلة الاب . و كان يقول : ولداي هذان سيدا شباب اهل الجنة .


(208)
ولا تزال تعدد معاملته لهما ، وموافقه منهما ، حتى يغشى عليها .
    جاء في كتاب الأمالي « للصدوق » عن الإمام الصادق (ع) : قال : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ويوسف ، وفاطمة بنت محمد (ص) وعلي بن الحسين زين العابدين (ع) .
    فأما آدم : فإنه بكى خوفاً من ربه لما خرج من الجنة .
    وأما يعقوب : فإنه بكى على ولده يوسف حتى ذهب بصره ، وقيل له : « تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً او تكون من الهالكين » (1) .
    وأما يوسف : فإنه بكى على ابيه حتى تأذى منه من كان معه في السجن .
    وأما فاطمة بنت محمد (ص) فقد بكت على ابيها حتى تأذى منها أهل المدينة ، وقالوا لها : لقد آذيتنا بكثرة بكائك .
    فكانت تخرج الى المقابر ، فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تعود الى بيتها .
    وأما علي بن الحسين : فقد بكى على ابيه عشرين عاماً ـ وقيل اربعين عاماً ـ وما قُدم له من طعام وشراب ، إلا اشتد بكاؤه ، فيقال له : ألا تأكل ؟ فيقول : كيف آكل ، وأبو عبد الله مات جائعاً ، وكيف أشرب ، وأبو عبد الله مات عطشاناً ... الخ .

بيت الأحزان :
    وقد روى كثير من المؤرخين أن الإمام علي عليه السلام ، لما تضايق أهل المدينة من كثرة بكاء فاطمة ، بنى لها بيتاً في البقيع ، كانت تأوي إليه في
(1) سورة يوسف آية 85 .


(209)
ساعات من الليل والنهار ، تبكي اباها الرسول (ص) ما شاء لها . وسمي هذا البيت بيت الأحزان .
    وفي كتاب ( أهل البيت ) (1) ان بيت الأحزان ، هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة ، من جهة قبة مشهد الحسن ، والعباس ، الى أن يقول : وإليه أشار ابن جبير بقوله : « ويلي القبة العباسية بيت فاطمة الزهراء بنت الرسول ، ويعرف ببيت الأحزان ويقال انه هو البيت الذي آوت إليه والتزمت الحزن فيه ، منذ وفاة ابيها الى ان لحقت به » .
    وجاء بنو هاشم وخيار الصحابة الى الزهراء عليها السلام ، يسألونها الصبر ... والعزاء ومن أين لها بالصبر والعزاء ... وكيف ؟!
    « وكل مصاب بعد مصابها لمم !! »
    وجلس بنو هاشم والصحابة الأخيار ، يتحدثون مع علي والزهراء وما كان من أمر البيعة ... وكيف تمت لأبي بكر (رض) في سقيفة بني ساعدة .
    ولم يكد يمضي على وفاة الرسول إلا يوم وساعات ، وأهله مشغولون عن كل شيء وهم منصرفون لتجهيزه لمقره الأخير . ونسمع علياً عليه السلام يقول : وفي نبرات صوته حزن عميق ، وألم دفين : « أفكنت ادع رسول الله في بيته مسجى ... بلا غسل (2) ... ولا تكفين ، ... وأخرج أنازع القوم الخلافة » .
    أليست الخلافة هي حق شرعي لي على ما نصه الرسول (ص) ؟
(1) تراجم اهل البيت ـ توفيق ابو علم .
(2) ذكر ابن سعد في طبقاته ـ ج ـ 2 ص ـ 60 كان علي رضي الله عنه ، هو الذي تولى غسل الجسد الشريف .
المرأة في ظل الإسلام م ـ (14)


(210)
    وهنا تكلمت فاطمة عليها السلام وقالت : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ان يصنع ... ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم .
    تقول الدكتورة بنت الشاطئ : وأخذ الجمع يتذاكرون بلاء علي في نصرة الإسلام ، ومكانه من رسول الله : لقد شهد علي مع الرسول مشاهده كلها :
    كان يحمل لواء المهاجرين يوم أحد ، ولواء الرسول يوم غزوة بني قريظة ، وحمراء الاسد ، ويوم حنين .
    وحمل يوم خيبر ، اول راية في الإسلام ... وكان (ص) ، قد اتخذها من برد لزوجه « عائشة » ام المؤمنين وقال : « لأدفعنَّ الراية الى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ويفتح عليه .. ».
    فتطاول عمر بن الخطاب لها واستشرف ، رجاء أن يدفعها الرسول اليه ، فلما كان الغد ، دعا الرسول ( علياً ) ودفعها له .
    ويوم الفتح كانت الراية مع ( سعد بن عبادة ) فقال الرسول لـ (علي) «ادركه فخذ الراية منه ، فكن انت الذي تدخل بها » .
    وقاد سرايا الرسول الى « فدك » في شعبان من السنة السادسة للهجرة . والى « الفلس : صنم طئ » في السنة التاسعة .
    والى اليمن في السنة العاشرة .. وعاد منه جميعاً مظفراً منصوراً ...
    وعلى « القصواء » ناقة الرسول المباركة ، خرج « علي » الى الحج بعد الفتح بعام ...
    ويوم آخى بين المهاجرين والانصار ، اصطفى « علياً » اخاً له ...
    ويوم خرج الى « بدر » غازياً ، ومعه أصحابه ، كل ثلاثة على جمل ، اختار