مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 71 ـ 80
(71)
تعالى : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (1) في حق الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هو : أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم .. أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ .
    9. ما دار بين رجل و الإمام جعفر بن محمد الصادق عليمها السَّلام .. قال الرجل : يابن رسول اللّه دلّني على اللّه ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّ ـ روني.
    فقال له الإمام : « يا عبد اللّه هل ركبت سفينة قط؟ » قال : نعم ، قال : « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك؟ » قال : نعم.
    قال : « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ » قال : نعم.
    قال الصادق ( عليه السَّلام ) : « فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث » (2).
تنبيه
    دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد ، وهي تواكب جميع مراحل حياته ، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره .. ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى : ( وَاللّهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (3).
    1 ـ الغاشية : 21.
    2 ـ بحار الأنوار : 3/41 ، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.
    3 ـ النحل : 78.


(72)
    فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها ، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.
    والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي : انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية ، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.
    أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا ، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر ، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهن هـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع ، وكذا القول في بقية الحواس.
    فالمدركات على قسمين : ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
    والقسم الثاني ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النظرية ، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.
    وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية (1).
    والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها ، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلاّ قوة العلم
    1 ـ راجع مفاتيح الغيب للرازي : 5/349.

(73)
وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه ، ولامس الحقيقة الخارجية ، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.
    وصفوة القول : إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.
    وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك .. أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.


(74)

(75)
الفصل الثاني
اللّه وعالم الذر


(76)
ما هو عالم الذر وما هو الميثاق؟
    1. استعراض الآيات أوّلاً.
    2. نقاط جديرة بالاهتمام.
    3. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».
    4. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.
    5. انتقادات على هذه النظرية.
    6. النظرية الثانية.
    7. إشكالات على هذه النظرية.
    8. النظرية الثالثة.
    9. أسئلة حول هذه النظرية.
    10. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.


(77)
استعراض الآيات أوّلاً
    قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور ، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية ، أوّلاً ، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.
    وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (1).

نقاط جديرة بالاهتمام
    1. لقد وردت لفظة (الذرية) في (18) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً .. والمقصود بها في كل تلك الموارد هو : « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف ، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا؟
    1 ـ الأعراف : 172 ـ 174.

(78)
    فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق ، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى : المخلوق.
    وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.
    وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة (1).
    2. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى : ( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (2).
    وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (3).
    كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه : ( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (4).
    وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً (5).
    وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :
    1 ـ راجع في هذا الصدد : مفردات الراغب مادة « ذرو » ، ومجمع البيان : 1/199 تفسير آية ( قال ومن ذريتي ).
    2 ـ البقرة : 266.
    3 ـ الأنعام : 84.
    4 ـ آل عمران : 38.
    5 ـ ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (مريم : 6).


(79)
( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (1).
    3. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية ....
    فالآية تفيد أنّ اللّه أخذ من ظهور كل أبناء آدم ، أنسالهم وذرياتهم ، وليس من ظهر آدم وحده.
    وذلك بدليل أنّ اللّه تعالى يقول : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ).
    ولم يقل : وإذ أخذ ربك من آدم .. وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.
    4. تصرح الآية بأنّ اللّه أخذنا شهداء على أنفسنا ، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا ، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.
    5. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين ، فلا يحق لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة ، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه : ( أو تقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل ... ).
    من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.
    فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.
    1 ـ الأعراف : 173.

(80)
    فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق ، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية : ( أن تقولوا يوم القيامة إنّا كُنّا عن هذا غافِلين ).
    أي أن لا تقولوا. (1)
    في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :
    كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا؟!
    وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً؟!
    وبعبارة أُخرى : إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي ، في حين أنّ الآية (172) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد : إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق ... فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى : ( أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ) ؟
    6. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية أمّا موجه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأمّا إلى
    1 ـ إنّ للمفسرين في أمثال هذه الآية مذهبين :
    أحدهما : تقدير لا ، ففي مثل قوله سبحانه :
    ( يُبَيّن اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) (النساء : 176) قالوا : إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.
    فهم جعلوا قوله : ( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين ، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن اللّه لكم لأجل أن لا تضلوا ».
    الثاني : عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه ، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.
    فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين اللّه لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها ، فيجوز فيها وجهان.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس