مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 81 ـ 90
(81)
عامة البشر.
    وحتى لو كان صدر الآية موجهاً إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلاّ أنّ ذيلها ـ لا ريب ـ موجه إلى عامة البشر.
    إنّ القرآن يريد بهذا الخطاب أن يلفت أنظارنا إلى حادث حدث قبل الخطاب لا حينه ولا بعده بدليل مجيء إذ في مطلع الآية.
    ف ـ « إذ » تستعمل فيما إذا كان ظرف الحادثة هو الماضي ، ومعناها « واذكر إذ » وقعت هذه الحادثة في الماضي. (1)

آراء العلماء حول الميثاق في عالم الذر
    إنّ غاية ما يفيده ظاهر آية الميثاق المطروحة هنا على بساط البحث هو أنّ اللّه أخذ من بني آدم ميثاقاً وعهداً على الإقرار بربوبيته .. وأمّا كيفية هذا الميثاق فلم يرد ـ في الآية المذكورة ـ أي توضيح بشأنها ... ولأجل هذا اختلف المفسرون المسلمون حول حقيقة هذا الميثاق.
    وفيما يلي عرض للآراء المطروحة حول هذا المطلب :

النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث
    وتقول هذه النظرية ـ والتي لها سند حديثي ـ إنّ اللّه أحضر أبناء آدم عند خلقه ، من صلبه على هيئة كائنات ذرية صغيرة الحجم جداً وأخذ منهم الميثاق
    1 ـ تقدير « اذكر » في هذه المواضع لإراءة ماضوية الحادثة ، وإن كان غير محتاج إليه حسب القواعد الأدبية فإنّ « إذ » ظرف مهمل غير مقيد بشيء.

(82)
قائلاً لهم : « ألست بربكم؟ فقالوا : بلى » (1) ثم أعادهم إلى صلب آدم ( عليه السَّلام ) ، وقد كانت هذه الكائنات الدقيقة الحجم ذات شعور وعقل كافيين آنئذ ، وقد سمعت ما قال اللّه لها وأجابت على سؤاله ، وقد أخذ هذا الإقرار من بني آدم ليغلق عليهم باب الاعتذار والتعلّل يوم القيامة.
    وهذه النظرية اتخذت باعتبار أنّ لفظة « ذرية » مشتقة من مادة « ذر » واختارها جمع من المفسرين.

انتقادات على هذه النظرية
    1. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية ، لأنّ ظاهر الآية ـ كما قلنا في النقطة الخامسة ـ يفيد أنّ اللّه أخذ من ظهور كل أبناء آدم ذرّيتهم ، لا من آدم وحده.
    ولأجل هذا قال سبحانه : ( من بني آدم ) ولم يقل من آدم.
    كما أنّ الضمائر جاءت في صيغة الجمع : ( من ظهورهم ) ، ( ذرّيتهم ) لا المفرد.
    وعلى هذا الأساس لا تطابق هذه النظرية مفاد الآية في هذه الناحية.
    2. إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل وعيهم ، فلماذا لا يتذكره أحد منّا؟
    وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ ما هو منسي ومغفول عنه هو « وقت هذا
    1 ـ راجع مجمع البيان : 3/497 طبع صيدا ، وتفسير الفخر الرازي : 4/320 طبع مصر عام 1308 هـ .

(83)
الميثاق والإقرار » وليس نفس الميثاق والإقرار والاعتراف ، بدليل ما يجده كل إنسان في ذاته من ميل فطري إلى الإذعان بوجود اللّه وربوبيته ، ولا شك أنّ هذا هو امتداد طبيعي لذلك الإقرار المأخوذ في عالم « الذر ».
    لكن هذا الجواب ليس بوجيه جداً كما تصوّر أصحابه ، لأنّه ليس من المعلوم أنّ ما نجده من « الميل الفطري » إلى اللّه في ذواتنا يرتبط حتماً بمثل ذلك الميثاق .. بل ربما يكون نتيجة « فطرية وجود اللّه وربوبيته » وبداهتهما.
    وما يقال من أنّ الفاصل الزمني الطويل هو الذي كان سبباً لنسيان الميثاق المذكور ليس بصحيح كما يظهر.
    لأنّ طول هذا الفاصل لا شك أقل ـ بكثير ـ من طول الفاصل الزمني بين الإنسان في الدنيا ويوم القيامة على حين نجد أنّ الإنسان لا ينسى ما شاهده من حوادث في الدنيا فهاهم أهل الجنة ـ مثلاً ـ يقولون لأهل النار : ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ ). (1)
    ونظير ذلك قول بعض أهل الجنة : ( إنّي كَانَ لِي قَرينٌ [أي في الدنيا ] * يقول ءَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ). (2)
    ومثله قول بعض أهل النار : ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ [أي في الدنيا ] مِنَ الأشْرَارِ ). (3)
    1 ـ الأعراف : 44.
    2 ـ الصافات : 51 ـ 52.
    3 ـ ص : 62.


(84)
    وغير ذلك من الآيات الدالة على تذكر أهل القيامة لما جرى لهم في العالم الدنيوي ممّا يدلّ على عدم نسيان الحوادث رغم طول الفاصلة الزمنية.
    3. انّ الهدف من أخذ الميثاق ـ أساساً ـ هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق ، والعمل فرع للتذكّر ، فإذا لم يتذكّر الشخص أي شيء من هذا الميثاق ، فكيف ترى يصح الاحتجاج به عليه ، وكيف يمكن دفعه إلى العمل وفقه؟
    على أنّنا بعد أن كتبنا هذا ، وقفنا على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في (أماليه) وهو ينص على ما ذكرنا حيث أبطل هذا الرأي إذ قال :
    « وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده ، أنّ تأويل هذه الآية : أنّ اللّه استخرج من ظهر آدم ( عليه السَّلام ) جميع ذريته وهم في خلق الذر ، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم.
    وهذا التأويل ـ مع أنّ العقل يبطله ويحيل هـ مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم ) ولم يقل من آدم وقال : ( من ظهورهم ) ولم يقل : من ظهره ، وقال : ( ذرّيّتهم ) ولم يقل : ذريته.
    ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة أنّهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم ، وأنّهم نشأوا على دينهم وسنتهم ».
    ثم يقول الشريف المرتضى :
    « فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية ـ التي استخرجت من ظهور آدم ( عليه السَّلام ) فخوطبت وقررت ـ من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون ، فإن كانت بالصفة الأُولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم


(85)
وإنشائهم ، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال ، وما قرّروا به واستشهدوا عليه ، لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وأن بعد العهد وطال الزمان وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير.
    على أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية ، وذلك لأنّ اللّه تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلاّ يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه ، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها ، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثاً قبيحاً يتعالى اللّه عنه ». (1)
    4. انّ هذه النظرية تؤول إلى نوع من القول بالتناسخ الذي بطلانه من ضروريات الدين ، لأنّه يعني ـ على أساس هذه النظرية ـ أنّ الإنسان أتى إلى هذه الدنيا قبل ذلك ، ثم بعد العيش القصير ارتحل ثم عاد بصورة تدريجية إلى هذهالدنيا مرة ثانية .. وهو التناسخ الذي أبطله المحقّقون والعلماء المسلمون. (2)
    ويبقى ها هنا سؤال وهو : إذا كانت هذه النظرية تواجه تلك الإشكالات وتعاني من هذا القصور ، فما هو مصير الأحاديث والروايات التي تسند هذه النظرية؟! وسيوافيك حق المقال فيها.
    1 ـ الأمالي : 1/28 ـ 29.
    2 ـ هذه الانتقادات الأربعة نقلها صاحب مجمع البيان من المحققين الإسلاميين في : 4/497. وذكرت أيضاً في الميزان بالإضافة إلى انتقادات أُخرى ، راجع لذلك : 8/325 ـ 327 ، كما وذكرت هذه النظرية في تفسير الرازي مع اثني عشر إشكالاً فراجع : 4/221 ـ 222.


(86)
النظرية الثانية
    يحمل بعض المفسرين (وعلى رأسهم : الرماني وأبو مسلم وفريق آخر) هذه الآية على : التوحيد الفطري ، ويفسرونها بهذا التفسير.
    فهم يقولون : يحط الإنسان قدميه في هذه الدنيا ، وهو ينطوي على سلسلة من الغرائز والاستعدادات ، وسلسلة من الحاجات الطبيعية والفطرية إلى جانب سلسلة من المدركات العقلية.
    فهو [أي الإنسان ] عند نزوله من صلب أبيه إلى رحم أُمّه ، وعند انعقاد نطفته لا يكون أكثر من ذرة ، ولكن هذه الذرة تنطوي على استعدادات وقابليات جديرة بالاهتمام .. ومن جملة تلكم الاستعدادات هي قابليته لمعرفة اللّه التي تنمو وتتكامل مع تكامل هذه الذرة وجنباً إلى جنب مع تكامل سائر استعداداته الأُخرى حتى تنتقل في الم آل من مرحلة « القوة » إلى مرحلة « الفعلية » والكمال.
    وبعبارة أُخرى ، فإنّ الإنسان يولد وقد أُودعت في كيانه « غريزة معرفة اللّه » والتوجه إلى ما وراء الطبيعة بشكل سر إلهي مزروع في أعماق البشر بحيث لو لم تنله يد خارجية لنمت غريزة « الميل إلى معرفة اللّه » في فؤاد الإنسان ولما انحرف عن جادة التوحيد مطلقاً إلى درجة أنّ علماء النفس اعتبروا « الشعور الديني » هذا أحد أبعاد الروح الإنسانية ووصفوه بمثل هذا البعد ، إذ قال أحدهم في تعريف الإنسان بأنّه « حيوان ميتافيزيقي ».
    وفي الحقيقة أنّ هذا الشعور الديني الغريزي رسم في ضمير الإنسان بقلم التكوين على غرار بقية الغرائز والأحاسيس الموجودة في الإنسان وهي [ أي غريزة الشعور الديني ] تنمو وتنضج مع نمو الإنسان وتكامله.


(87)
    وبعبارة ـ ثالثة ـ : فإنّ اللّه أخرج أبناء الإنسان من ظهور آبائهم إلى بطون أُمهاتهم وقد جعل تكوينهم بنحو خاص بحيث يعرفون ربهم دائماً ، ويحسّون باحتياجهم إليه تعالى.
    وعندما يحس الإنسان باحتياجه إلى اللّه ، ويجد نفسه غارقاً في التوجه إليه سبحانه فساعتئذ يكون وكأنّه يقال له : ألست بربكم؟ فيقول البشر : بلى أنت ربي. (1)
    خلاصة القول : إنّ الإنسان خلق مؤمناً باللّه بمقتضى الفطرة الإلهية السليمة الموهوبة له ، وسيظل بمعونة العقل الهادي إلى اللّه يبحث عن اللّه ويطلبه ويسأل عنه ، ويظل يواصل هذه المسيرة ما لم يعقه عائق ولم يمنعه مانع.
    وعلى هذا فإنّ الميثاق المذكور في الآية لم يكن ميثاقاً تشريعياً وعلى نحو الخطاب والجواب اللفظيين ، بل هو ميثاق تكويني فطري ، وجواب هـ كذلك ـ تكويني فطري.
    على أنّ مثل هذا النوع من الحوار والاستيثاق شائع جداً في القرآن الكريم وكذا في محاوراتنا اليومية.
    ففي المثال يقال : إنّ اللّه أعطانا البصر وأخذ منّا الميثاق بأن لا نسقط في البئر.
    أو كما يقال : إنّ اللّه أعطانا العقل وأخذ منّا العهد بأن نميّز به الحق عن
    1 ـ راجع لمعرفة هذه النظرية : الميزان : 8/333 طبع طهران ، وتفسير الفخر الرازي : 4/322 ومجمع البيان : 4/498 ، طبع صيدا ، وفي ظلال القرآن : 9/58 ـ 59 ، وقد جعل الأخير وقت استقرار الخلية البشرية في رحم الأُمّ موعد ذلك الميثاق.

(88)
الباطل.
    ويقول القرآن الكريم حول السماوات والأرض : ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). (1)
    وهذا النوع من الكلام وتوجيه الخطاب إلى السماوات والأرض الفاقدة للشعور والإدراك والعقل ليس إلاّ عن طريق التكوين .. فيكون معنى هذه الآية هو أنّ السماء والأرض خاضعتين ـ تكوينياً ـ لمشيئة اللّه وإرادته ، وأنّهما تجريان وفق سننه التي شاءها لهما (2).
    ونقل من بعض بلغاء العرب وخطبائهم مقال من هذا القبيل إذ قال :
    « سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك ، وأينع ثمارك ، فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً ». (3)
    ولهذا الرأي شاهد قرآني وحديثي :
    أمّا الشاهد القرآني فهو قوله سبحانه : ( فطرة اللّه التي فطر الناس ) الذي يمكن أن يكون مبيناً لهذه الآية.
    وغاية التفاوت ما بين الآيتين هي : أنّ آية ( فطرة اللّه ) تقول بإجمال : أنّ الشعور الديني عجن بفطرة البشر وخلقته من دون أن تعين الآية زماناً ، في حين أنّ الآية ـ المبحوثة هنا ـ تتحدث عن تحقّق هذا السر الإلهي في كيان الإنسان في بدء تكوينه وظهوره ، أي أنّ الإنسان كان ينطوي فطرياً وتكوينياً على هذا السر الإلهي
    1 ـ فصلت : 11.
    2 ـ سيوافيك حق المقال في الآية في فصل سريان العلم في الموجودات.
    3 ـ مجمع البيان : 4/498 طبع صيدا.


(89)
منذ أن كان موجوداً ذرياً صغيراً في رحم أُمّه .. وكأنّ أوّل خلية إنسانية تستقر في رحم الأُم تنطوي على هذه الوديعة الإلهية وهي « غريزة الميل والانجذاب إلى اللّه ».
    وإذا أردنا أن نتحدث عن ذلك بلغة العلوم الطبيعية لزم أن نقول :
    إنّ جينات الخلية لدى كل إنسان تحمل بين جوانحها هذه الخاصية الروحية ، وإنّ هذه الخاصية تنمو وتتكامل مع تكامل الخلية ونموها.
    هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تنطبق مع ما جاء في حديث معتبر السند من أنّ عبد اللّه بن سنان يقول سألت أبا عبد اللّه ـ الصادق ـ ( عليه السَّلام ) ، عمّا هو المقصود من الفطرة؟ فقال :
    « هي الإسلام فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ألست بربكم و فيهالمؤمن والكافر ». (1)
    وإنّ للشريف الرضي كلاماً لعله يشير إلى أنّه اختار هذه النظرية إذ قال :
    « إنّه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيباً يدل على معرفته ويشهد بقدرته ، ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات ، والدلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفت هـ على الوجه الذي أراده اللّه تعالى وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالت هـ بمنزلة المقر المعترف وان لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (2) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهم جواب ، ومثله
    1 ـ تفسير البرهان : 3/47 في تفسير آية ( فِطْرَة اللّه ) الحديث 7.
    2 ـ فصلت : 11.


(90)
قوله تعالى : ( شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) (1) ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم وإنّما لما ظهر منهم ظهوراً لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ومثل هذا قولهم :
    « جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة بإحسانك ». (2)
    ثم إنّ سيدنا الحجة شرف الدين ممن ذهب إلى هذا المذهب إذ قال رحمه اللّه :
    « واذكر يا محمد للناس ما قد وثقوا اللّه عليه بلسان حالهم التكويني من الإيمان باللّه والشهادة له بالربوبية وذلك ( إذ أخذ ربّك ) أي حيث أخذ ربك جل سلطانه ( من بني آدم ) أي ( من ظهورهم ذرّيتهم ) فأخرجها من أصلاب آبائهم نطفاً ، فجعلها في قرار مكين من أرحام أُمهاتهم ثم جعل النطف علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأ كلاً منهم خلقاً سوياً قوياً في أحسن تقويم سميعاً بصيراً ناطقاً عاقلاً مفكّراً مدبّراً عالماً عاملاً كاملاً ذا حواس ومشاعر وأعضاء أدهشت الحكماء ، وذا مواهب عظيمة وبصائر نيرة تميّز بين الصحيح والفاسد والحسن والقبيح وتفرق بين الحق والباطل فيدرك بها آلاء اللّه في ملكوته وآيات صنعه جل وعلا في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ... وبذلك وجب أن يكونوا على بيّنة قاطعة بربوبيته ، مانعة عن الجحود بوحدانيته فكأنّه تبارك وتعالى إذ خلقهم على هذه الكيفية قررهم ( وأشهدهم على أنفسهم ) فقال لهم : ( ألست بربكم ) وكأنّهم ( قالوا بلى شهدنا ) على أنفسنا لك بالربوبية .. نزولاً على ما قد حكمت به عقولنا وجزمت به بصائرنا حيث ظهر
    1 ـ التوبة : 17.
    2 ـ الأمالي : 1/30
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس