مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 221 ـ 230
(221)
ذاتياً ـ ذلك الفهم والفكر والشعور الهادي وتكون ـ هي بذاتها ـ موجدة للأفكار التي تعين تلك الأحياء على الاهتداء إلى سبل حياتها.
    وحيث إنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون وارداً وصحيحاً ، لذلك لابد أن نسلك طريقاً آخر بأن نقول :
    2. انّ طبيعة البناء الميكانيكي والتركيب المادي لهذه الأحياء تكفي ـ دون شيء آخر ـ لإيقاع هذه الأعمال ، ونقول بالتالي : إنّ اهتداء هذه الأحياء وما سوى ذلك من الأعمال التي ذكرناها والتي نشاهدها في عالم النمل والنحل وحشرة الموروفيل أو الاسفنج البحري ، كل ذلك إنّما هو نتيجة انتظام الأجزاء والعناصر الجسمانية لهذه الأحياء وانضمامها إلى بعض بنحو يؤدي ذلك النظم والتركيب الخاص إلى صدور هذه العمليات والأفعال من هذه الأحياء بصورة تلقائية لا إرادية.
    وبعبارة أُخرى : أنّ الخواص الفيزياوية والكيمياوية لخلايا هذه الأحياء هي التي تقتضي وتوجب هذه السلسلة من الأعمال والنشاطات دون تدخل من خارج.
    وفي هذه الصورة لن يكون موضوع « اهتداء » هذه الأحياء إلى سبيل حياتها دليلاً مستقلاً على وجود اللّه ، بل يندرج تحت عنوان « برهان النظم » لكونه مسألة ترجع إلى النظم ، فقد جهّزت خلقة هذه الأحياء بجهاز متين على نظم خاص رصين يقدر معه وبفضله على القيام بشؤون حياته كالأشجار فيكون اهتداؤها ليس إلاّ مقتضي كيفية تركيب أجزائها.
    3. أن نختار ما اختاره بعض المحقّقين إذ قال ما خلاصته : إنّ الحركات


(222)
والفعّاليات الصادرة من أي جهاز من الأجهزة إنّما يمكن التنبّؤ بها من قبل ما دامت ترتبط بنفس ذلك الجهاز وتركيبته ، بمعنى أنّ نفس الجهاز المادي وتشكيلاته الداخلية تكون كافية لأن تكون الإحاطة به سبباً للتنبّؤ بأعماله وفعالياته.
    وبعبارة أُخرى : انّ ما تقوم به هذه الحشرات من الأعمال البديعة إنّما تصح نسبتها إلى الجهاز الميكانيكي إذا كان ذلك الجهاز كافياً في صدور تلك الأعمال منها بأن يكون نفس نظام ذلك الجهاز وكيفية تركيبه كافياً في القيام بهذه الأعمال.
    وأمّا عندما يصل الأمر إلى موضع لا يجب أن يقوم ذلك الجهاز فيه بفعل مخصوص بل يواجه مفترق طريقين ، ومع ذلك يختار أحد الطريقين مما يكون موصلاً إلى الهدف فهناك لابد من الإذعان بأنّ مجرد النظم المادي لذلك الجهاز غير كاف لاختيار أحد الطريقين دون سواه ، بل انّ هذا النوع من الاهتداء والانتخاب كاشف عن وجود رابطة خفية بين الجهاز المذكور وبين مصيره ، وأنّ هذه الحقيقة ، أعني : الابتكار والابتداع ، دليل على الهداية من النوع الثاني « أي الذي لا يرتبط بنفس الجهاز ونفس نظامه وتركيبه العضوي » بل يرتبط بهداية عليا.
    إنّ آلة حاسبة يمكن أن تصنع وتنظم بشكل تؤدي كل عمليات الجمع والطرح والضرب والتقسيم الحسابية بدقة متناهية ، ولكن من المستحيل أن تقدر هذه الآلة الحاسبة على القيام بابتكار وابتداع قاعدة رياضية واحدة.
    وهكذا الأمر بالنسبة إلى آلة ترجمة فإنّها قادرة على ترجمة كلام شخص أو مقالة ، ترجمة دقيقة متقنة ، ولكن نظمها لا يقدر ـ أبداً ـ على تصحيح أخطاء ذلك


(223)
القائل والقيام بعمل ابتكاري ، وابداعي من هذا النمط. (1)
    ونستخلص مما سبق أنّ القدرة الغيبية الخفية التي تهدي هذه الأحياء ، قوة واسعة مطلقة تحيط علماً بكل الحشرات ، إحاطة شاملة كاملة وهي عنده بمنزلة سواء.
    وتلك القوة الهادية العظيمة ليست سوى اللّه تعالى أو سائر القوى الغيبية المدبّرة لأُمور الكون العاملة بإذن اللّه ومشيئته ، التي أُنيطت إليها هداية هذه الحشرات وإرشادها وتوجيهها.
    وأخيراً لابد من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي :
    أنّ هذا البرهان سواء رجع إلى برهان النظم بمعنى أنّ أعمال هذه الأحياء ما هي إلاّ نتيجة النظم المادي الحاكم على تركيبتها المادية ، وتشكيلاتها الداخلية ، أو قلنا بأنّ هناك قوة هادية هي التي تقوم بهداية هذه الحشرات إلى تلك الأعمال والمواقف العجيبة ، وتساعدها في هذه الابتكارات والإبداعات فيكون هذا برهاناً مستقلاً بنفسه.
    أقول : سواء كان هذا أم ذلك فإنّ مما لا شك فيه انّ دراسة « الأحياء » في حد ذاتها واحدة من سبل معرفة اللّه وإحدى الطرق للتعرف عليه.
    وقد اعتمد القرآن على ذلك في غير الآية المذكورة ـ في مطلع بحثنا هذا ـ إذ يقول ـ في موضع آخر ـ مخبراً عن اللّه بأنّه : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ). (2)
    1 ـ راجع تعاليق أُصول الفلسفة للأُستاذ الشهيد مرتضى مطهري : 49 ـ 51.
    2 ـ الأعلى : 2 ـ 3.


(224)
    والجدير بالذكر أنّ الإمام علياً ( عليه السَّلام ) أشار إلى هذا البرهان ذاته عندما تحدّث عن خلقة النمل قائلاً :
    « و لو فكروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة!
    ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر ؟
    انظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبتّ على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدّها في مستقرها ، تجمع في حرّها لبردها ، وفي ورودها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس!
    ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ، ولقيت من وصفها تعباً! فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها! لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه في خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ».
    وفي سياق هذا الكلام يقول الإمام ( عليه السَّلام ) :


(225)
    « وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان »؟. (1)
    وتبعه في ذلك الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حيث ذكر في أماليه التي أملاها على تلميذه « المفضل » إذا قال عن النحل مثلاً :
    « انظر إلى النحل واحتشاده في صنع العسل ، وتهيئته البيوت المسدّسة ، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة ، فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيباً ، وإذا رأيت المعمول (أي العسل) وجدته عظيماً شريفاً موقعه من الناس.
    وإذا راجعت إلى الفاعل (أي النحل) ألفيته غبياً جاهلاً بنفسه (2) فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل ، بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس ». (3)
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 180 ، وللإمام نظير هذا الكلام في الخفاش والطاووس والجراد ، راجع نهج البلاغة.
    2 ـ قال المجلسي ـ رحمه اللّه ـ في بحار الأنوار في تعليقته : 3/110 على هذا المقطع من كلام الإمام : أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص ، فظهر أنّ خصوص هذا الأمر (الهام) من مدبّر حكيم.
    3 ـ المصدر السابق.


(226)

(227)
الفصل الرابع
اللّه وسريان معرفته في العالم كلّه


(228)
سريان معرفة اللّه في الكون بأسره
    1. الكون بأسره يسجد للّه ويسبّح بحمده.
    2. ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون؟
    3. بيان حقيقة سجود الكائنات.
    4. ما المراد من السجود الطوعي والإكراهي؟
    5. الحمد والتسبيح الكوني كيف؟
    6. آراء المفسرين في تسبيح الكائنات.
    7. النظرية الأُولى.
    8. النظرية الثانية.
    9. النظرية الثالثة.
    10. النظرية الرابعة.
    11. القرآن وسريان الشعور في عموم الموجودات.
    12. القرآن وسريان الشعور في الجمادات.
    13. البرهان العقلي على هذا الرأي.
    14. سريان الشعور والعلم الحديث.


(229)
ذرّات الكون بأجمعها تسجد للّه وتسبّح بحمده
    من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات ـ بأجمعها ـ للّه وتسبيحها له سبحانه.
    وتلك حقيقة عليا لم تسمع إذن الدهر من غير هذا الكتاب العزيز بمثل هذا التفصيل والشمولية.
    وبعبارة أُخرى فإنّ القرآن الكريم يخبرنا ـ وفي صراحة كاملة ـ أنّ جميع أجزاء العالم ـ بدءاً من الذرة حتى أعظم مجرّة ـ تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى هي :
    1. السجود للّه تعالى.
    2. حمده وتمجيده عز شأنه.
    3. تسبيحه وتنزيهه سبحانه.
    وكأنّ الكون بأسره : « كتلة واحدة » من الخضوع والخشوع ، والشعور والإحساس والوعي.
    أو كأنّ الكون ـ بجميع أجزائه وذرّاته ـ لسان واحد ينطق بحمد اللّه ، ويلهج بثنائه ، وقلب واحد ينبض بتمجيده ، ويؤدّي السجود له.


(230)
    والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضح.
    أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق ، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.
    وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخص في أنّ الحمد تمجيد للّه وثناء عليه بالجميل الاختياري ، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تنزهّه عن أي نقص وعيب.
    قال الراغب ـ في مفرداته : ـ « الحمد للّه : الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح ، وأعم من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره وغيره ، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه والحمد يصح في الثاني دون الأوّل ، والشكر لا يقال إلاّ في مقابلة نعمة فكل شكر حمد وليس كل حمد شكراً ، وكلّ حمد مدح وليس كل مدح حمداً ». (1)
    إذا تبين هذا فإنّ علينا الآن أن نتحدث بالتفصيل عن هذه الأُمور الثلاثة التي هي من معارف القرآن العليا.
    ذرّات الكون بأجمعها تسجد للّه
    طرح القرآن الكريم قضية « سجود الكائنات بأسرها للّه » في صور مختلفة.
    ففي بعض الآيات تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصة إذ قال : ( وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ
    1 ـ مفردات الراغب باب الحاء : حمد.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس