مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 211 ـ 220
(211)
يملكون ضراً ولا نفعاً.
    وقد يكون الهدف من التذكير بالنظام الكوني البديع هو التمهيد لطرح موضوع المعاد والحياة الأُخرى ، لكي لا ينكر الإنسان المعاد ، أو لا يستبعد وقوعه بعد وقوفه على مظاهر وآثار القدرة الإلهية في عالم الكون ، إذ صرح سبحانه بهذا الاستنتاج بقوله : ( ... ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعوةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) . (1)
    وعلى هذا الأساس فإنّ الاستدلال بهذه الآيات على وجود اللّه يجب أن يكون بصورة ضمنية لا بصورة أنّه الهدف الأصلي لها ، لأنّه إذا كانت أجزاء هذا الكون ، من صغيرها إلى كبيرها ، من دقيقها إلى جسيمها ، تشهد بثبوت صفة القدرة والعلم للّه تعالى ، وإذا تعرفنا من خلالها على جماله وكماله سبحانه ، فإنّ من القطعي البديهي أن تهدينا إلى « أصل وجوده » ، ويثبت لنا ذلك بما لا يقبل الشك ، كما تهدينا إلى أنّه المعبود دون غيره ، وانّه وحده يستحق العبادة.
    إنّ الطريق الواضح لمعرفة اللّه والذي يتناسب مع أذهان كل الطبقات هو « البحث حول أنظمة الكون الدقيقة العجيبة البديعة » التي تشهد بلسان حالها على وجوده وتوحيده وسائر صفاته العليا :
    وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد
    1 ـ الروم : 25.

(212)
التوحيد الاستدلالي ـ البرهان الثالث عشر
الحيوانات والهداية الإلهية
    ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) . (1)
    من الأدلّة التي يقيمها القرآن الكريم لمعرفة اللّه هي تلك الهداية التي تشمل مخلوقات الكون وأحياءه بحيث تهتدي ـ بهذه الهداية ـ إلى طريقها ، وتختار ما يصلحها ، ويناسبها في ظل هذه الهداية الإلهية.
    وهذا هو ما أشار إليه النبي موسى بن عمران ( عليه السَّلام ) ، واصفاً اللّه تعالى عندما سأله فرعون عن ربه؟ فأجابه بالآية السابقة.
    فاهتداء الحيوانات ـ مثلاً ـ إلى طريقها التي تضمن حياتها وبقاءها دون أن تعرف معلماً أو مدرسة ، أو تتلقّى معلوماتها عن طريق الوراثة أو ما شابه ، أمر يدلّ على وجود هاد يهديها ، ومرشد يوجّهها إلى ما يضمن بقاءها واستمرار وجودها ، ومواصلة السير إلى هدفها دون أن تخطأ.
    إنّ « اهتداء » هذه الحيوانات إلى ما يناسب طبيعتها ويوافق خلقتها لا يمكن أن يكون بفعل الوراثة ولا بفعل الغريزة كما يدّعي البعض.
    1 ـ طه : 50.

(213)
    أمّا أنّها لا يمكن أن تكون عن طريق الوراثة ، فلأنّ المعلومات لا يمكن أن تنتقل من أحد إلى أحد من هذا الطريق ، وإلاّ لكان ابن الطبيب طبيباً بالوراثة ، ولكان ابن العالم عالماً بالوراثة حتماً دون أن يتلقّى العلم أو الطب من أحد.
    وأمّا أنّ هذه الحيوانات لا تفعل ما تفعل بتأثير الغريزة فقط ، فلأنّ الغريزة لا يمكن أن تخضع للانتخاب والاختيار ، بينما نجد كثيراً من هذه الحيوانات عندما تواجه مفترق طرق متعدّدة تختار إحداها بفعل ما تتلقّاه من الهداية والتوجيه ، وهذه الهداية التي تعين الحيوانات على الانتخاب والاختيار هو ما يسمّى في منطق القرآن بالوحي أو ما سمّ ـ اه بعض العلماء ب ـ « الإلهام » (1).
    ونمثّل لهذا الأمر بما جاء حول النحل في القرآن الكريم ، إذ يقول : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ ). (2)
    فحشرة النحل الصانعة لألذ الأشياء وأطيبها ، نعني : العسل ، تبدأ عملها منذ أن تخرج من البيض دون تعب وملل ، وفي ذكاء مفرط ، وانضباطية فائقة.
    فتختار ـ في ذكاء ـ أفضل وأطيب الزهور وتمتص عصارتها بنحو عجيب ، وتصنع للبشر شهداً من أطيب الشهد.
    وتصنع بيوتها سداسية الشكل في نظم لا يخطئ ، وعلى فواصل دقيقة لا تزيد ولا تنقص.
    1 ـ راجع كتاب العلم يدعو للإيمان : 116.
    2 ـ النحل : 68 ـ 69.


(214)
    ويلاحظ أنّها قبل أن تمتص الزهور تقوم بعملية انتخاب وتفتيش عن الزهرة المناسبة لها ، وهذا ـ كما نرى ـ لا يصدر إلاّ من موجود ملهم ، موحى إليه ، موجَّه بتوجيه أعلى ، لأنّ في أعمالها ما يتجلّ ـ ى منه القصد والهدفية ، وهذا من خصائص « الإلهام » ليس إلاّ.
    ومن هنا ندرك معنى قوله تعالى : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ).
    يقول العلامة كريسي موريسون حول عجائب ما تفعله نحلة العسل :
    « إنّ العاملات من نحل العسل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية ، وتعد الحجرات الصغيرات للعمال ، والأكبر منها لليعاسيب (أي الذكر من النحل) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل ، والنحلة الملكة تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحية المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات.
    والعاملات اللائي هي إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد ، تهيّأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغيرة بمضغ العسل واللقح ، ومقدمات هضمه ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور الإناث ولا يغذين سوى العسل واللقح ، والإناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات فيما بعد.
    أمّا الإناث اللائي في حجرات الملكة فإنّ التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن ، وهؤلاء اللائي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل ، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضاً مخصباً ، وعملية تكرار الإنتاج هذه


(215)
تتضمن حجرات خاصة وبيضاً خاصاً ، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء. وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء » (1).
    ويقول كريسي موريسون عن النحلة في موضع آخر من كتابه :
    « والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل ذلك دليل يرى ، وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ، ولكنه يكمل عتاده القليل منها [ويصل إلى مقصده ] بأدوات الملاحة » (2).
    ومن المعلوم أنّ هذه الأعمال المقصودة الدقيقة التي تقوم بها حشرة النحل دون أن تخطىء أو تضل عن طريقها لو كانت بدافع الغريزة ، وتحت تأثير الجبلة والخلقة لما حسن أن يقول اللّه : ( وأوحى ) ، والوحي كما نعلم نوع من التوجيه المباشر الإلهي للمخلوق الحي ، ونوع من الخطاب الصادر من جانب اللّه إلى الموحى إليه.
    ويدل على ما قلناه توجيه الخطاب إلى النحل بقوله : اتخذي ، وكلي ، واسلكي.
    إنّ ما تفعله هذه الحشرة الذكية وكلّ الحشرات المثيلة لها كالنمل ـ مثلاً ـ خير دليل على وجود هاد لها ، يوحي إليها ما يوحي ، ويهديها إلى سبل حياتها.
    فها هو القرآن الكريم يتحدث لنا عن النمل في قصة مواجهتها لعرش سليمان بما يكشف لنا عن فطنة هذه الحشرة ، الكاشفة هي بدورها عن « الهداية العليا » التي تحيط هذه الحشرة بالعناية والرعاية.
    1 ـ العلم يدعو للإيمان : 114 ـ 118.
    2 ـ العلم يدعو للإيمان : 114 ـ 118.


(216)
    فالقرآن يخبرنا أنّ نملة لما شاهدت جنود سليمان وأدركت الخطر نبهت بني جنسها بذلك : ( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (1).
    وهي قصة تكشف عن أنّ النملة تدرك بفعل الإلهام الإلهي ما يحيق بها من أخطار فتتحذر منها وتحذر بني نوعها.
    ولنلقي نظرة على ما يقوله كريسي موريسون في كتابه المذكور عن النمل :
    « والنحل والنمل يبدو أنّها تدرك كيف تنظم وتحكم نفسها ، فلها جنودها وعمالها وعبيدها ويعاسيبها.
    إنّ هناك أنواعاً من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير إلى زرع أعشاش للطعام.
    والنمل يأسر طوائف من الدود ويسترقها.
    وبعض النمل حين يصنع أعشاشه يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب.
    كيف يتاح لهذه الحشرة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟!
    لا شك أنّ هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك (2).
    ترى في أية مدرسة وأي معهد تلقّت النمل وغيرها من الحشرات هذه
    1 ـ النمل : 18.
    2 ـ العلم يدعو للإيمان : 130 ـ 132.


(217)
المعلومات.
    ومن أي شخص تعلّمت كيف تعرف الخطر وتشخص البلايا وتحذر منها أبناء نوعها.
    أم بماذا يمكن تفسير هذا التمييز والقصد والاختيار الذي تتصف بها تصرفات النمل والنحل وما سواهما من الحشرات؟
    هل ذلك إلاّ بوحي من خالقها وإلهام من بارئها وصانعها؟
    ولكي نقف على المزيد من هذه النماذج التي تدل على وجود الهداية الإلهية والإرشاد الرباني في عالم الحيوانات نقرأ معاً ما يقوله العلاّمة موريسون حول بعض الحيوانات.
    فمثلاً يقول موريسون عن سمك « السلمون » :
    « إنّ سمكة السلمون التي تسبح في النهر صعداً إذا نقلت إلى نهر آخر ، أدركت تواً أنّه ليس جدولها ، فهي تشق طريقها خلال النهر ، ثم تحيد ضد التيار قاصدة إلى مصيرها.
    فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ » (1).
    ويكتب حول بعض الحيوانات التي تسارع إلى تعويض ما فقدته من الأعضاء فيقول :
    « وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر الذي إذا فقد مخلباً ، عرف أنّ جزءاً من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل
    1 ـ المصدر نفسه : 120.

(218)
الوراثة ، ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل لأنَّها تعرف بطريقة ما أنّ وقت الراحة قد حان ». (1)
    ويشير موريسون إلى صفة انطباق الحيوانات مع المحيط والبيئة ، فيقول عن هذه الصفة في مجال الخلايا :
    « وقد يمكن السؤال عما إذا كان للخلايا فهم وإدراك أم لا.
    وسواء اعتقدنا أنّ الطبيعة قد زودت الخلايا بالغريزة ـ مهما تكن هذه ـ أو بقوة التفكير ، أم لم نعتقد ذلك ، فلا مناص لنا من الاعتراف بأنّ الخلايا ترغم على تغيير شكلها وطبيعتها كلها ، لكي تتمشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه ، وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم ، أو أن تضحي نفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى ، وعليها أن تضع ميناء الأسنان وأن تنتج السائل الشفاف في العين أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الآذان.
    ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أُخرى لازمة لتأدية مهمتها.
    ومن العسير أن نتصور أنّ خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى ، ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الإذن اليمنى ، بينما الأُخرى تصبح جزءاً من الأُذن اليسرى » (2).
    أليس كل هذا يكشف عن وجود القصد والتمييز في هذه الموجودات
    1 ـ المصدر السابق : 124.
    2 ـ المصدر السابق : 103.


(219)
الحية؟
    وهل هذا إلاّ تفسير قول النبي موسى ( عليه السَّلام ) ، إذ قال : ( ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ؟
    يبقى أن نعرف أنّنا نستطيع استنتاج وجود مثل هذا الإلهام والوحي والتوجيه الإلهي الموجّه إلى الحيوانات من قول موسى ( عليه السَّلام ) ، إذ يذكر في كلامه أوّلاً ما يتعلّق بالجانب الخلقي الغريزي في الحيوانات بقوله : ( ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ).
    ثم أشار إلى ذلك الإلهام والوحي الإلهي بقوله : ( ثم هدى ).
    بتقريب أنّ في الفصل بين الجملتين ( أعطى كل شيء خلقه ) و ( هدى ) ب ـ ( ثم ) التي هي للعطف المتراخى المتأخّر ، دلالة أدبية على أنّ هذه الهداية لم تخلق مع الحيوانات والحشرات بنحو فطري وجبلي ، بل هي هداية تصل إلى الحشرات عندما تحتاج إلى مثل هذه الهداية وعندما تواجه ما يضطرها إلى مثل هذا التوجيه والإرشاد الربانيّين ، فحينئذ تأتيها هذه الهداية وينزل إليها ذلك الوحي والإلهام.
    إنّنا نستطيع أن نكتشف آثار هذه الهداية وهذا الالهام في عالم الحشرات بجلاء ووضوح ، إذا قايسناها بوليد الإنسان الذي لا يعرف شيئاً عندما يولد ، ولا يمكنه أن يقوم بأي عمل إلاّ بعد مدة من التربية والرشد ، وإلاّ بعد فترة من التعلم والدراسة ، وتلقّي المعلومات والمعارف في المدارس والمعاهد ، وإلاّ بعد سلسلة طويلة من التجارب والأخطاء والهفوات.


(220)
    وخلاصة القول : إنّنا نلاحظ في فعاليات هذه الحشرات عدة أُمور :
    أ. أنّ هذه الحشرات تعرف احتياجاتها وطريق رفعها ، بدون معلم مشهود ومنظور.
    ب. أنّ هذه الأحياء تعرف ـ على وجه الدقة ـ أُصول تقسيم أعمالها ، وانتخاب وظائفها وطرق تنفيذها على أحسن وجه وبصورة جماعية.
    ج. أنّ هذه الأحياء تسعى دوماً إلى تطبيق نفسها مع الأوضاع المحيطية المتغيرة ، بل وتحدث هي بعض التغييرات في جسمها وأعضائها.
    وأمام هذه الظاهرة العجيبة ، لنا أن نختار إحدى طرق ثلاث :
    1. أمّا أن نحتمل بأنّ هذه الأحياء تملك بنفسها من العقل والإدارك والفهم ما لم يكتشف الإنسان إلاّ جزءاً ضئيلاً يساوي واحداً بالمائة منها.
    غير أنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يركن إليه ، لأنّ الخلايا النباتية والحيوانية لا تملك العقل والفهم لتعالج مشاكلها على ضوئهما.
    ومن هنا يتضح سبب عدم إدخالنا للإنسان في أمثلة هذا الفصل ، واقتصارنا على الحشرات كالنحل والنمل وما شابههما ، لأنّ الإنسان إنّما يقوم بأعماله على ضوء ما أُوتي من عقل وفكر ، بمعنى أنّ بيولجيته وخلاياه ودماغه الكبير والمفكّر هي التي تضيء له سبيل حياته دون حاجة إلى إلهام من العالم الأعلى ووحي من خارج.
    هذا أمر أدركه البشر ذاته ، وهي بالتالي فكرة واردة في شأن الإنسان.
    أمّا بالنسبة إلى هذه الحيوانات والحشرات فلا يمكن أن يخطر ببال أحد أنّها تملك عقلاً وفكراً ، أو لا يمكن أن يخطر لأحد بأنّ الخلايا النباتية والحيوانية تملك ـ
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس