مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 251 ـ 260
(251)
بينما كلما ازدادت اقتراباً من المادةوالمادية ، وتعمقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ولكنّها ليست كذلك (أي أنّها ليست خلوة من العلم والشعور والإدراك) ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والض آلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة (1).
    ثم إنّ صاحب هذه النظرية أثبتها عن طريق الأدلة والبراهين الفلسفية ، والمكاشفات النفسانية.
    على أنّه خطا خطوة أكبر ، إذ قال : انّ ما يقوله القرآن بأنّ البشر لا يفقه تسبيح الموجودات ، ناظر إلى أغلب الناس ، لأنّ أغلبهم لا يفقهون هذا التسبيح ، ولا يمنع ذلك من أن يفقهه بعض العارفين الذين ارتبطت أرواحهم بحقائق الموجودات ، فلمسوا تسبيح الكائنات عامة ، بعين القلب ، واطّلعوا على تقديسها للّه سبحانه ، وانقيادها لمشيئته ، وخضوعها له.
    أجل أنّ القلوب الخالية من الوساوس الشيطانية ، الطاهرة من العلائق المادية التي صارت محلاً للنور الإلهي ومحطّاً للفيوض الربانية ، ومهبطاً للبركات المعنوية قادرة على « مشاهدة » هذه الحقائق العليا ، مشاهدة وجدانية ، وإدراكها إدراكاً قلبياً لا يتطرق إليه شك ، وماذا يمنع من ذلك يا ترى؟
    وبعد أن وصل البحث إلى هذه النقطة يلزم أن نحاول الوصول إلى هذه الحقيقة القرآنية ، بالتدبّر في آياتها التي تنسب الشعور والعلم إلى عموم
    1 ـ راجع الأسفار : 1/18 و 6/139 ـ 140 ، الطبعة الجديدة.

(252)
الموجودات ، لأنّ القرآن إذا نسب « التسبيح والحمد » إلى عمومها ، فهو في نفس الوقت يصف كل ذرات العالم بأنّها شاعرة ، ومدركة ، وسامعة.
    فإذا وضعنا هاتين الطائفتين من الآيات إلى جانب بعض ، ثبتت لنا صحة النظرية التي ذهب إليها « صدر المتألّهين ».
    وإليك ـ فيما يأتي ـ الآيات الدالة على سريان الشعور ، والعلم في عامة الموجودات بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة ، مع ما يمكن استنباطه واستفادته من هذه الآيات.

سريان الشعور في عموم الموجودات
    ويمكن إثبات هذا الادّعاء عن طريقين :
    أوّلاً : عن طريق الآيات التي تشهد على وجود الشعور ، وسريانه في جميع موجودات هذا العالم ، أحيائها ، وغير أحيائها.
    ثانياً : عن طريق البراهين والدلائل العقلية التي تثبت وجود الشعور في كل ذرات الكون.
    وإليك الطريق الأوّل : ويتألف من آيات متعددة هي :
    1. يشهد القرآن ـ بصراحة ووضوح ـ على أنّ النمل تتمتع بشعور خاص ، لأنّها عندما مر على واديها سليمان وجنوده راحت نملة تخاطب بني نوعها وتحثّها على الدخول في بيوتها لئلاّ يسحقها سليمان وجنوده ، كما يحدثنا القرآن إذ يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ). (1)
    1 ـ النمل : 18.

(253)
    وكان هذا النداء التطميني (أو التحذيري) من تلك النملة ، نداء حقيقياً ، واقعياً ، ولا يمكن أن نحمله على معنى مجازي ، وندعي بأنّ ما قالته النملة كان بلسان « الحال » ، وذلك لأنّ سليمان تبسّم على أثر سماعه ذلك النداء ، ودعا ربّه أن يوفقه للشكر على ما وهبه وأنعم عليه وعلى والديه ، إذ يقول القرآن : ( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا (1) وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ). (2)
    2. انّ في القرآن قصة عن الهدهد تكشف عن شعور خاص لدى هذا الطائر ، بحيث يمكن للهدهد أن يميز بواسطته : الموحد عن المشرك وبحيث كان سليمان يبعثه في إنجاز مهام معينة تحتاج إلى الشعور وتتطلب العلم والفهم.
    وإليك هذه القصة بلسان القرآن نفسه : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَم تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإ بِنَبَإ يَقِين * إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الْشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا للّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخُفْونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ
    1 ـ إنّ في لفظة « قولها » دلالة على أنّ نداءها لم يكن بلسان الحال ، بل كان بالكلام والقول الذي ينطلق من شعور و ادراك.
    2 ـ النمل : 19.


(254)
مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرجِعُونَ ). (1)
    ألا يدل فعل هذا الطائر ـ العجيب ـ الذي يدرك كل الأُمور الدقيقة ، ويخبر عنها بدقة وأمانة ، ويمتثل لأُوامر سيده سليمان على أحسن وجه.
    أقول : ألا يدل كل هذا على أنّ هذا الطائر يتمتع بشعور خاص وإدراك مخصوص هو الذي أهّله لتحمّل تلك المسؤولية الكبيرة الدقيقة؟
    3. يعد القرآن من مفاخر سليمان : علمه بمنطق الطير ، وهذا يكشف عن وجود منطق خاص للطير كاشف عن شعوره بما يقول ، إذ قال : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ). (2)
    كما أنّ القرآن يخبرنا بأنّ سليمان ألّف جيشاً ضخماً من الإنسان والجن والطير ، وكانت جميعها تحت أمره ، ورهن إرادته ، وإشارته : ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) . (3)
    وهكذا يستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ الطيور والنمل تتمتع بنوع خاص من الوعي والشعور ، وأنّه لو أُتيح للإنسان أن يحكم على الكون كله ، لاستطاع أن يتحدث معها ويعرف حديثها ، وأن يستفيد منها في إرساء النظام التوحيدي وتقوية دعائمه ، وتحطيم مظاهر الشرك والوثنية وتقويض قواعدها ، كما استفاد سليمان من الهدهد ذلك الأمر ، والظاهر أنّه لا خصوصية للمورد.
    1 ـ النمل : 19 ـ 28.
    2 ـ النمل : 16.
    3 ـ النمل : 17.


(255)
سريان الشعور في الجمادات
    تحدّثت الآيات القرآنية عن هذه الحقيقة بنحو ما ، وراحت تنسب أفعالاً إلى (الجمادات) تقترن بالشعور وتثبت الإدراك لها.
    فالقرآن الكريم يرى أنّ سقوط بعض الصخور من نقطة ما إنّما هو نتيجة خوفها من اللّه وخشيتها منه تعالى إذ يقول : ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ). (1)
    نعم ربما يحتمل أنّ المراد من قوله تعالى : ( وإِنَّ مِنها (مِنَ الحْجَارَةِ) لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ... ) هو التعبير عن شدّة قسوة قلوب اليهود ، بشهادة أنّ من الحجارة ما تتفجّر منه الأنهار ، دون قلوبهم ، وانّ من الحجارة ما يهبط من خشية اللّه دونها ، وعند ذاك لا تصلح الآية للاستدلال على سريان الشعور في الموجودات عامّة.
    غير انّ هذا الاحتمال لا يضر بما ذهبنا إليه ، فإنّ التعبير عن شدّة قسوة قلوبهم يجتمع مع دلالة الآية على سريان الشعور في عامّة الموجودات ، فإنّ الآية أثبتت للحجارة صفتين : التفجّر ، والهبوط من خشية اللّه.
    فكما أنّ التفجّر أمر حقيقي لها ، فكذلك الهبوط من خشية اللّه أمر حقيقي لها ، ومع ذلك تدلّ على شدّة قسوة قلوبهم.
    وفي آية أُخرى يخبر القرآن الكريم عن قضية عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وامتناع هذه الأشياء عن حملها خشية و إشفاقاً فيقول : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
    1 ـ البقرة : 74.

(256)
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ ). (1)
    غير أنّ طائفة من المفسرين فسّ ـ روا هذه الآية ونظائرها بالمعاني المجازية ، وبأنّ كل هذا الذي يخبر عنه القرآن تم بلسان الحال ، بمعنى أنّها أبين وأشفقن عن تحمّل الأمانة المعروضة عليها ، بلسان حالها ، لا بلسان مقالها الكاشف عن الشعور في حين أنّ هذا التفسير والحمل ضرب من اتخاذ المواقف قبل البحث والدرس وهو أمر لا مبرر له ، إذ لا دليل على حمل مثل هذه الآيات على غير ظاهرها ، وتأويل هذه الحقيقة ـ التي يتحدّث عنها القرآن بصراحة ـ بمعان مجازية ، ومحامل لم يقم عليها دليل.
    على أنّ عدم توصل العلم إلى هذه الحقيقة ، أعني : وجود الشعور عند عامّة الموجودات لا يكون دليلاً ـ أبداً ـ على عدم وجود هذا الشعور عند هذه الكائنات ، لأنّ وظيفة العلم إنّما هي الإثبات فقط ، وليس للعلم حق « النفي » والسلب ، والإنكار.
    إنّ العلم لم يبلغ تلك المرحلة من المعرفة ، والإحاطة بحقائق الكون ، إحاطة يمكنه معها أن ينكر ما لا يعرف وجوده أو عدمه (2).
    وفي موضع آخر يقول القرآن في هذا الصدد :
    1 ـ الأحزاب : 72.
    2 ـ وهذه إحدى الفروق بين العلم والفلسفة فإنّ للثانية حق النفي والإثبات وليس للأوّل ذلك الحق ، لأنّ الوسائل التي يتوسل بها العلم للتحقيق أقصر من أن يتوسل بها إلى الإحاطة بجميع الموجودات ، وهذا بخلاف الفلسفة فإنّها تجعل صفحة الوجود مسرحاً لنقاشها ونفيها ، وإثباتها وللبحث عن الفرق الكامل بين العلم والفلسفة موضع آخر.


(257)
( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ). (1)
    ولا ريب أنّنا لو تجرّدنا عن آرائنا الشخصية حول الآيات القرآنية ، لوجب علينا أن نقول : إنّ هذه الجبال لابدّ أنّها تنطوي على قابلية الخشوع والتصدّع لكي يصح أن يتوجه إليها الخطاب الإلهي القرآني.
    إذ ليس من المعقول أن ينسب القرآن الكريم ـ وليس من شأنه المبالغة الكاذبة ـ هذا النوع من الحالة (أي حالة الخشوع) إلى ما لا يكون قابلاً لها.
    وربّما يحتمل أنّ الآية كناية عن عظمة القرآن وجلالة قدره ، بدليل انّه لو أنزله اللّه على جبل لخشع وتصدّع ، ولا يستلزم هذا إثبات قابلية الشعور في الجبال.
    غير انّ الإجابة على هذا الاحتمال واضحة جداً ، فإنّ هذا التفسير مبني على ما سلّم به القائل مسبقاً من أنّه لا شعور في الجبال ، ولذلك عاد ففسر الآية على ما بنى عليه.
    ولو تخلّ ـ ى عن هذه الفكرة ـ كما قلناه آنفاً ـ ودرس الآية بدون فكرة سابقة لوقف على أنّ الآية مع دلالتها على عظمة القرآن تدل أيضاً على وجود شعور في الجبال ، وقابلية للخضوع والخشوع الحقيقيين لديها.
    وليست دلالة الآية على عظمة القرآن مانعة عن دلالتها على الأمر الثاني.
    ويستفاد وجود مثل هذا الشعور والوعي في الجبال من بعض الآيات الأُخرى عندما تقول : ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ). (2)
    1 ـ الحشر : 21.
    2 ـ إبراهيم : 46.


(258)
    وكقوله تعالى : ( تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (1).
    فإذا لم تكن في « الجبال » تلك القابلية وذلك الوعي لما يدور خارجها لما صحت هذه التوصيفات والنسب ، ولوجب حينئذ أن نفترض لهذه الآيات « معاني مجازية » من قبيل المبالغة ، والتمثيل تماماً كما ذهب إليها بعض المفسرين حيث ارتكبوا حملها على التجوز والتمثيل.
    نعم يمكن أن تكون الآية وسابقتها ناظرتين إلى أمر آخر وهو : أنّ عظم مكرهم بلغ إلى حد يمكن أن تنقلع به الجبال وتنشق السماء والأرض ، والإزالة والانشقاق أثر المكر لا أن تزول وتنشق بتأثر ناشئ عن إدراك وشعور لديها.
    فمكرهم أو قولهم بأنّ اللّه اتخذ ولداً قد بلغ من التأثير السيّء إلى حد الآلة الهدامة.
    على أنّ الآيات المرتبطة بيوم القيامة تكشف النقاب عن وجود هذا الوعي والشعور ـ فضلاً عن إمكان هـ حيث إنّها تخبرنا عن تكلّم الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها على الإنسان في ذلك اليوم الرهيب بأمر اللّه ، فإذا بها تشهد على العصاة بكل ما فعلوا من أفاعيل ، وآثام ، بدقة متناهية.
    وإليك هذه الآيات : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). (2)
    ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
    1 ـ مريم : 90.
    2 ـ النور : 24.


(259)
يَكْسِبُونَ ). (1)
    ( وَيَومَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إَذَا مَا جَاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (2)
    نعم الآية واردة في شهادة الجلود يوم القيامة و الاستدلال بها على إمكانية وجود الشعور في جلود الإنسان هنا في الدنيا يحتاج إلى لطافة ذوق فإنّ النشأة الأُخروية ليست مباينة للنشأة الدنيوية.
    ثم إنّ القرآن يشهد ـ بصراحة تامة ـ في آيات أُخرى بأنّ الارض تتحدث بأمر اللّه وتخبر عما وقع على ظهرها إذ يقول : ( يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ (أي الأرض) أخْبَارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ). (3)
    كما أنّ القرآن الكريم يخبرنا عن طاعة « السماوات والأرض » الكاشفة عن وجود مثل هذا الوعي فيها إذ يقول : ( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) . (4) (5)
    1 ـ يس : 65.
    2 ـ فصلت : 19 ـ 21.
    3 ـ الزلزلة : 4 ـ 5.
    4 ـ فصلت : 11.
    5 ـ والخطاب إلى السماء والأرض باعتبار أنّ الخطاب توجّه إليهما بعد إيجاد مادتهما الأُولى بشهاد قوله سبحانه : ( وهي دخان ) فلا يمكن قياس تلك الآية بالآيات التي ورد فيها لفظ كن ، فإنّ الخطاب هناك تكويني لغرض الإيجاد ، دون المقام.


(260)
    هذه الآيات ونظائرها تفيد ـ حسب نظر من يتخلّى عن آرائه الشخصية عند فهم مقاصد القرآن ـ سريان الشعور والفهم في جميع أجزاء هذا العالم ، وذراته.
    أمّا كيف وماذا تكون حقيقة هذا الشعور والفهم والوعي ، وما هو مستواها وحجمها فذلك ما ليس بواضح ولا معلوم لنا ، بيد أنّ هذا الجهل لا يمكن أن يكون سبباً للإنكار فما أكثرها من حقائق في هذا الوجود لا يعرفها البشر المحدود الرؤية والتفكير.
    ومما يجدر بالذكر أنّ الأدعية الإسلامية قد أشارت إلى هذا الموضوع ، نذكر من باب المثال بعض النماذج :
    « تسبّح لك الدواب في مراعيها والسباع في فلواتها ، والطير في وكورها ، وتسبح لك البحار بأمواجها والحيتان في مياهها ». (1)
    كما أنّنا نقرأ في « الصحيفة السجادية » نظير هذا حيث يخاطب الإمام السجاد « الهلال » عند رؤيته ، إذ يقول ( عليه السَّلام ) :
    « أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير ... ». (2)
    بعد ملاحظة هذه الآيات والروايات الكاشفة عن سريان الشعور والفهم في كل الموجودات يتعيّن علينا أن نختار نظرية المرحوم صدر المتألّهين التي فسر فيها التسبيح المذكور في مورد الكائنات عامة ، بالتسبيح « الحقيقي الواقعي » بمعنى أنّ
    1 ـ راجع كتب الأدعية.
    2 ـ الصحيفة السجادية : الدعاء : 43.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس