مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 321 ـ 330
(321)
« غناءه » سبحانه في العلم ، بما وراء ذاته ، عن غيره ، فيعلم بذاته كل الأشياء دون حاجة إلى الغير ، وهذا بخلاف القول بالزيادة ـ كما عليه الأشاعرة ـ فإنّه يستلزم ذلك افتقاره سبحانه في علمه بالأشياء وخلقه إياها ، إلى أُمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته ، ويخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته ، وهكذا سائر الصفات من السمع والبصر ، والواجب سبحانه منزّه عن احتياجه إلى غير ذاته فهو غني في ذاته وفعله عمن سواه.
    نعم الأشاعرة وإن كانت قائلة بأزلية الصفات مع زيادتها ولكن ذلك لا يدفع الفقر والاحتياج عن ساحته ، لأنّ الملازمة غير العينية فكونه سبحانه مع صفاته متلازمين منذ الأزل غير كونه نفس هذه الصفات وعينها.
    والحاصل إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول باحتياجه في العلم والإيجاد إلى غيره.
    إذ نتيجة قولهم بفصل الذات عن الصفات هي أنّه يستعين في تحصيل العلم بذاته ، بعلم منفصل كما يعني أيضاً أن يستعين في إيجاد شيء بقدرة خارجة عن ذاته على أنّ دلائل « عينية الصفات للذات » وبالعكس لا تقتصر على هذا الدليل الذي ذكرناه فقط ، ولكننا نكتفي بذلك.
تعدّد الصفات وبساطة الذات كيف؟
    لقد قادتنا البراهين السابقة إلى « بساطة الذات الإلهية » وخلوّها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي والخارجي ، وهنا ينطرح سؤال هو : كيف يتناسب تعدّد الصفات مع بساطة الذات؟ أليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعدّدة ، وهذا ما يخالف بساطتها؟


(322)
    إنّ السؤال إنّما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يكوّن جزءاً خاصاً ويحتل موضعاً معيناً من ذاته سبحانه ، فحينئذ يمكن القول بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه.
    ولكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يكوّن تمام الذات ، برّمتها وبأسرها فلا يبقى حينئذ أي مجال لتصوّر التركيب في شأنه تعالى ، إذ ماذا يمنع من أن يكون شيء على درجة من الكمال بحيث يكون ذاته علماً كلها ، وقدرة كلها وحياة كلها ، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته ، نعم لو كانت هناك كثرة فإنّما هي في عالم الاعتبار والذهن دون الواقع الخارجي إذ يكون في هذه الصورة مصداق العلم في اللّه نفس مصداق القدرة ويكون كلاهما نفس مصداق الذات بلا مغايرة ولا تعدّد.
    ولتقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى مثال له في عالم الممكنات.
    ولنأخذ مثلاً الإنسان ، فكل وجوده مخلوق للّه ، بينما هو أيضاً بكلّه معلوم له سبحانه دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من ذات الإنسان معلوم للّه والجزء الآخر مخلوق له سبحانه ، بل كلّه معلوم للّه في عين كونه مخلوقاً كله له وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.
    وللمزيد من التوضيح لاحظ النور ، فإنّ الإضاءة والحرارة من خواص النور ، ولكن ليست الكاشفية والإضاءة مرتبطة بناحية خاصة من وجوده ، بل الإضاءة والكاشفية خاصية تمامه دون تبعض ، كما أنّ الحرارة هي أيضاً خاصية تمامه دون أن يستلزم ذلك أي تعدد في ذات النور وحقيقته.


(323)
    إلى هنا تبيّنت لنا حسب التحليل العقلي مسائل ثلاث هي :
    1. ذات اللّه منزّّهة عن التركيب الخارجي.
    2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الذهني.
    3. صفات اللّه عين ذاته.
    وقد ذكرنا ـ في معرض بيان هذه الحقائق وشرحها ـ أنّ الأمر لو كان على غير ما أثبتناه للزم أن يفتقر اللّه تعالى إلى سواه.
    فالواجب الوجود غني عن غيره ، لا يفتقر إلى شيء سبحانه ، وسنذكر فيما يلي ما ورد من الآيات في هذا المجال.

1. هو الغني المطلق
    إنّ القرآن يصف اللّه سبحانه في سبعة عشر مورداً بالغني وعدم الافتقار والاحتياج ، فقال : ( وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ). (1)
    ( فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ). (2)
    ( أنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ). (3)
    ( وَاللّهُ هُوَ الْغَنيُّ الْحَمِيدُ ). (4)
    ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ). (5)
    1 ـ البقرة : 263.
    2 ـ آل عمران : 97.
    3 ـ البقرة : 267.
    4 ـ فاطر : 15.
    5 ـ يونس : 68.


(324)
    ( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ). (1)
    وفي سورة فاطر وصف القرآن الكريم جميع الناس بالفقر إلى اللّه كما وصف اللّه وحده بالغني دون غيره ، إذ قال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ). (2)
    وليس لغناه سبحانه معنى إلاّ عدم احتياجه في ذاته ووجوده ، وفي علمه ، وقدرته إلى من سواه ، والاحتياج في هذه المراحل من أشد أنواع الاحتياج ، وقد أسلفنا أنّ تركب الذات من الأجزاء الخارجية والعقلية يستلزم ـ بالبداهة ـ الاحتياج إلى الأجزاء.
    كما أنّ عدم عينية الصفات للذات الإلهية دليل على احتياجه تعالى إلى العلم والقدرة الخارجين عن ذاته ، وحيث إنّ اللّه هو الغني غير المفتقر يلزم أن يكون منزّهاً عن هذه التصوّرات.
    فكونه سبحانه غنياً على الإطلاق يثبت المسائل الثلاث : تنزّهه عن التركيب العقلي ، والخارجي ، وعينية صفاته لذاته.

2. هو اللّه الأحد
    يقول اللغويون :
    الأحد أصله وحد.
    وحيث إنّ هذه اللفظة ذات معنى خاص ، لذلك لا يوصف بها غير اللّه تعالى. (3)
    1 ـ النمل : 40.
    2 ـ فاطر : 15.
    3 ـ راجع مفردات الراغب : 12.


(325)
    ولو جعلت هذه اللفظة (أعني : الأحد) في سياق النفي أُطلقت على غير اللّه مثل أن تقول : ما جاءني من أحد. وأمّا لو جُعلت في سياق الإثبات فتستعمل على نحو الإضافة فقط مثل قولهم : أحدهم ، أحد عشر.
    وأمّا في غير صورة الإضافة فتطلق على اللّه فحسب ، مثل قوله : ( قل هو اللّه أحد ) بمعنى أنّه لا يوصف بها حينئذ ، إلاّ اللّه سبحانه.
    يقول الأزهري ، اللغوي المعروف :
    « إنّ « أحد » صفة من صفات اللّه استأثر بها فلا يشركه فيها شيء من الكائنات ، ويأتي في كلام العرب بمعنى الأوّل كيوم الأحد ». (1)
    وأمّا المفسرون الإسلاميون فيذكرون لفظة الأحد في قوله تعالى : ( هو اللّه أحد ) طائفة من التفاسير منها :
    « الأحد : هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ، ولا في صفاته ». (2)
    ويقول الجزائري في كتاب « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :
    « إنّ الواحد : الفرد الذي لم يزل وحده ، ولم يكن معه آخر; والأحد : الفرد الذي لا يتجزأ ولا يقبل الانقسام ». (3)
    ويقول العلاّمة الطباطبائي ـ دام ظله ـ في تفسيره في هذا المجال :
    « والأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد ، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على
    1 ـ تفسير سورة الإخلاص للشيخ حبيب اللّه الكاشاني : 31.
    2 ـ مجمع البيان : 5/564.
    3 ـ فروق اللغات : 38.


(326)
ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ، ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد ، فإنّ كل واحد له ثانياً وثالثاً أمّا خارجاً وأمّا ذهناً بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً ، وأمّا الأحد فكل ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء ». (1)
    وهذه الحقيقة نكتشفها بوضوح من التحقيق في موارد استعمال هاتين اللفظتين : الأحد والواحد في سياق النفي.
    فإذا قال قائل : ما جاءني من القوم أحد ، كان مفهوم الجملة نفي مجيء مطلق الأفراد ، لا نفي مجيء فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة.
    وبتعير أوضح ، فإنّ مفهوم هذه الجملة هو نفي الجنس لا نفي الواحد.
    ولكن إذا قال : ما جاءني واحد ، فهم من هذه الجملة نفي مجيء شخص واحد في مقابل نفي مجيء فردين أو ثلاث.
    وحيث إنّ للفظة « أحد » مثل هذه الخصوصية لذلك عدّت صفة منحصرة في اللّه سبحانه ولم يجز أن يوصف بها غيره ، ولذلك يقول أحد أئمّة أهلالبيت ( عليهم السَّلام ) :
    « كل مسمّى بالوحدة غيره قليل ». (2)
    ويؤيد ما قاله أهل اللغة والمفسرون مجيء جملة ( ولم يكن له كفواً أحد ) بعد وصف اللّه تعالى نفسه ب ـ (الأحد) في سورة الإخلاص ونحن نعلم أن مفاد
    1 ـ تفسير الميزان : 20/387.
    2 ـ سيوافيك عن قريب أنّه يمكن استنتاج المسألة الثالثة ، أعني : عينية الصفات مع الذات من هذه الآية فارتقب أيضاً.


(327)
هذه الجملة أي قوله : ( ولم يكن له كفواً أحد ) ، هو نفي النظير والمثيل له سبحانه في الذات والفعل ، فلا ذات كذاته ولا خالق أو لا مدبر مثله ، فإذا كان معنى هذه الجملة هو ما عرفناه وذكرناه فليس من المستحسن أن نفسر جملة ( هو اللّه أحد ) بنفس المعنى أيضاً ، إذ أنّ ذلك يستلزم تكرار مضمون واحد في سورة واحدة وعلى فاصلة قصيرة لهذا يجب القول بأنّ الجملة الأُولى تفيد نفي أي نوع من أنواع التركيب والتجزئة ، والجملة الثانية تفيد نفي الشبيه والنظير له سبحانه.
    وبملاحظة هذا التفسير تستفاد مسألتان (1) من المسائل الثلاث المطروحة في مطلع هذا القسم من هذه الآية ، لأنّ وحدة الذات تستلزم ـ بالضرورة ـ نفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والذهني عن اللّه.
    وأمّا المسألة الثالثة وهي « عينية الصفات الإلهية للذات » فطريق إثباتها هو « صفة الغنى المطلق » التي أثبتها القرآن الكريم للّه سبحانه في مواضع عديدة.
    كما أنّ وصف اللّه في سورة الإخلاص بالصمد يثبت هذه العينية والاتحاد أيضاً بناء على أنّ أحد معاني الصمد هو « المقصود لكل محتاج ».
    فإذا كان اللّه مقصود كلِّ محتاج ولم يكن أيُّ مقصود سواه ، استلزم ذلك أن تكون « الصفات عين الذات » وإلاّ لاحتاج في العلم بالأشياء ، أو إيجاد شيء ، إلى علم خارج ، وقدرة خارجة عن ذاته ، وفي هذه الصورة لا يكون اللّه متصفاً بالغنى المطلق ولن يكون حينئذ مقصود كلِّ محتاج.
    بل يكون هناك مقصود آخر ، يتوجّه إليه حتى اللّه سبحانه.
    إلى هنا أثبتنا ، عن طريق الآيات القرآنية « بساطة الذات الإلهية » ووحدتها
    1 ـ الميزان : 20/387.

(328)
وكذا عينية الصفات للذات ، ولتكميل هذا المبحث يتعيّن علينا الآن أن نستعرض ما ورد عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) حول هذاالمطلب.
    والجدير بالذكر أنّ الأحاديث والأخبار الواردة في هذا الشأن أكثر من أن تحصى ، ومن أن يمكن الإتيان بها في هذا الموضع ، إلاّ أنّنا سنكتفي بذكر نماذج منها ، فقد قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) :
    « وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه [أي في اللّه من التوحيد ] فقول القائل :
    1. هو واحد ليس له في الأشياء شبه.
    2. أنّه عزّ وجلّ أحدي المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود [خارجي ] ولا عقل ولا وهم ». (1)
    والعبارة الأخيرة تثبت بوضوح بساطة الذات الإلهية ونفي أيّ شكل من أشكال التركيب الخارجي والذهني (2) في شأنها.
    كما وصفه الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) بالبساطة ، ضمن كلام طويل ، إذ قال :
    « وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمّى ». (3)
    وهذا الحديث يمكن أن يكون ناظراً إلى نفي « الحد والماهية » عن اللّه تعالى ، كما يمكن أن يكون المراد منه هو نفي المحدودية عنه تعالى ، أو يكون مسوقاً لبيان كليهما.
    1 ـ توحيد الصدوق : 83 ـ 84.
    2 ـ كالتركب من الوجود والماهية.
    3 ـ توحيد الصدوق : 192.


(329)
    ويقول الإمام الثامن علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) في هذا الصدد :
    « بتجهيره الجواهر عرف أنّ لا جوهر له ». (1)
    من هذه الأحاديث يمكن استنباط كلا المسألتين المذكورتين بوضوح ، وأعني بهما :
    1. نفي الأجزاء الخارجية (والتركيب الخارجي).
    2. نفي الأجزاء العقلية (والتركيب العقلي).
    أمّا المسألة الثالثة ، وهي عينية الصفات للذات ، فنشير إلى بعض الأحاديث الناظرة إليها فيما يأتي :
    قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) :
    « وكمال الإخلاص له ، نفي الصفات [الزائدة ] عنه لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلِّ موصوف أنّه غير الصفة.
    فمن وصف اللّه [أي وصف زائد على ذاته ] فقد قرنه [أي قرن ذاته بشيء غير الذات ] ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (2).
    وفي هذا الكلام العلوي تصريح بعينية الصفات للذات المقدسة ، بل في هذا الكلام إشارة إلى برهان آخر ، وهو أنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب والتجزئة ، ونفي الاحتياج والافتقار عن ساحته.
    وأمّا إذا قلنا بغيريَّتها مع الذات فذلك يستلزم التركيب وبالم آل : الثنويّة ،
    1 ـ توحيد الصدوق : 37.
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.


(330)
والتركيب آية الاحتياج ، واللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.
    وعلى هذا الأساس يكون قوله تعالى : ( هو اللّه أحد ) التي تدل على بساطة الذات دليلاً أيضاً على عينيّة الصفات للذات ، إذ على فرض زيادتها على الذات يحصل هنا وجود مركب من العارض والمعروض فيكون مصداق لفظة الجلالة هو المركب منهما ، مع أنّ المفروض بساطة ذاته.
    هذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بزيادة الصفات ـ حسب ما ذهب إليه الأشاعرة ـ يستلزم أن يكون هناك « قدماء ثمانية » ما عدا اللّه القديم ، في حين أنّ الآيات القرآنية التي تدل على وحدانية القديم الأزلي تنفي هذه النظرية أيضاً ، وقد أشرنا إليه سابقاً.
    قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) لأبي بصير في هذا الصدد :
    « لم يزلاللّه جل وعزّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ». (1)
    والإمام يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه وهو وجود العلم بلا وجود معلوم ، ووجود السمع بلا وجود مسموع ، وشرح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الكلامية والفلسفية.
    وللفيلسوف الجليل صدر المتألّهين في هذا المقام بيان لا يسع هذا المجال لإيراده. (2)
    1 ـ التوحيد للصدوق : 139.
    2 ـ الأسفار الأربعة : 6/263 ـ 270.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس