مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 331 ـ 340
(331)
الفصل السابع
اللّه و التوحيد في الأفعال
1. التوحيد في الخالقية


(332)
اللّه والتوحيد في الخالقية
    1. عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب.
    2. نقد هذه العقيدة.
    3. مذهب الإمام الأشعري في العلل الطبيعية.
    4. نقد هذا المذهب.
    5. مذهب أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) « الأمر بين الأمرين ».
    6. التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي.
    7. ما معنى الخالقية؟
    8. لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية؟
    9. ما معنى خالقية المسيح؟
    10. التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار.
    11. كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل.
    12. تحليل عن الشرور.
    13. خلاصة القول في الشرور.
    14. جواب آخر حول الشرور.
    15. الشر أمر نسبي.


(333)
التوحيد في الخالقية
    تشهد النظرة العلمية والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسببات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية بعلّة وسبب مادي ، فهذا النظام ـ بمجموع هـ نظام ممكن ، محتاج ـ في ذاته ، وفعل هـ إلى واجب غني بالذات ، وحيث إنّ الإمكان والافتقار لازم « ذات » الممكن وماهيته ، والفقر والاحتياج لا ينقطع ولا ينفك عنه ، فالنظام الذي يتألف من سلسلة « العلل والمعلولات » يكون قائماً ـ في وجوده وبقائه وفي تأثيره وفعل هـ باللّه تعالى دون أن يتمتع بأي « استقلال » ذاتي واستغناء عنه حدوثاً وبقاء ذاتاً وفعلاً.
    وبعبارة أُخرى إنّ الظواهر الكونية كما أنّها « غير مستقلة في ذاتها » وأصل وجودها كذلك هي غير مستقلة ـ في مقام عليتها وتأثيرها ـ بمعنى أنّها لا تؤثر أو لا يمكنها التأثير إلاّ بإرادة اللّه ، وحوله وقوته سبحانه ، ويستنتج من ذلك أنّه كما لا شريك له سبحانه في الفاعلية والعلية ، ليس هناك في الواقع إلاّ « فاعل مستقل واحد » لا غير ، وإلاّ علة واحدة قائمة بنفسها لا بسواها ، وذلك هو « اللّه » عز وجل.
    وأمّا الأسباب والعلل الأُخرى فهي تستمد « وجودها » و « فاعليتها » أيضاً من اللّه ، وتقوم به ، ولذلك فإنّ شعار المؤمن الموحد يكون دائماً هو : « لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ».


(334)
عقيدة المعتزلة
    ذهب المعتزلة إلى أنّ كل ممكن مؤثر ، يحتاج في ذاته إليه سبحانه لا في فعله ، فوجوده فقط قائم به تعالى ، دون إيجاده ، وإنّ فعل الممكن يرتبط بنفسه لا بموجده.
    فقد فوض تأثير الفاعل ـ في نظر هذه الطائفة ـ إلى نفس « الأسباب والعلل » بحيث لم تعد هذه الأسباب بحاجة إلى اللّه في « تأثيرها وفاعليتها » بل هي تأتي بكل ذلك على وجه الأصالة والاستقلال دون فرق في هذه الناحية بين الإنسان وغيره.
    وقد دفع هذه الفرقة إلى اختيار مثل هذه العقيدة ، تصور تنزيه اللّه عمّا يفعله العباد من الآثام والقبائح كالظلم والقتل والزنا.
    فلو كانت « سببية » هذه الأفعال مستندة إلى الإرادة الإلهية ، لاستلزم ذلك أن يكون عقاب العصاة ـ حينئذ ـ مخالفاً للعدل الإلهي ، واستلزم نسبة القبيح إليه سبحانه.
    فهم بغية الحفاظ على العدل الإلهي وتنزيهه سبحانه سلكوا هذا المسلك على خلاف البراهين العلمية والفلسفية ، وعلى خلاف الآيات والأحاديث الإسلامية ، واعتبروا العلل « عللاً مفوضة » فوضت إليها السببية والتأثير ، بحيث تؤثر دون الاستناد إلى القدرة الإلهية ، أي بالاستقلال والأصالة.
    وفي الحقيقة ، جعلوا مكان « الفاعل المستقل الواحد » ملايين الفاعلين المستقلين ، وبذلك اتخذوا للّ هـ بدل شريك واحد ـ شركاء كثيرين له في الفعل


(335)
والتأثير ، فسقطوا بذلك في ورطة « الشرك الخفي » (1) بظن المحافظة على العدل الإلهي.

نقد هذا الاعتقاد
    ونحن قبل أن نتحدث حول الآيات المرتبطة ب ـ « التوحيد في الخالقية » الذي هو في الحقيقة بحث في « التوحيد الأفعالي » سنذكر باختصار ما يرد على هذه النظرية من نقد و إشكال ، فنقول :
    1. هل يصح أن يستند الموجود الممكن في وجوده وذاته إلى اللّه ، ولكن يكون مستقلاً عنه في تأثيره في حين أنّ الارتباط من حيث الذات يستلزم الارتباط من حيث الفعل والتأثير ، لزوماً وحتماً.
    وبعبارة أُخرى : إذا كان وجود هذه الموجودات وذاتها مرتبطة باللّه ، فإنّ فعلها وتأثيرها يكون أيضاً مرتبطاً به تعالى ، فكيف يقول هؤلاء باستقلال هذه الموجودات في فعلها وتأثيرها مع اعترافهم بارتباطها باللّه سبحانه في ذاتها ، الملازم لارتباطها قهراً به في الفعل والتأثير في حين لو كان الفاعل مستقلاً في فعله لوجب أن يكون أيضاً مستقلاً في ذاته وأصل وجوده ، والاعتقاد باستقلال الأشياء في « أصل وجودها وذاتها » موجب للاعتقاد بوجوب وجودها ـ لا محالة ـ ومعلوم أنّ مثل هذا الاعتقاد مناف ل ـ « التوحيد الذاتي ».
    2. من الجدير ـ جداً ـ التعمّق في الآية التالية :
    1 ـ انّ اعتقاد المعتزلة باستقلال العلل والأسباب في الفاعلية هو نوع من الشرك الخفي الذي لا يدركه إلاّ العلماء والمحققون دون عامة الناس ، ولهذا لا يكون هذا الاعتقاد سبباً للخروج من الإسلام.

(336)
( وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ). (1)
    فإنّ قوله سبحانه : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) أوضح دليل على عدم استقلال أي فاعل في فعله ، إذ لا شك أنّ أثر الفاعل عاقلاً كان أو غيره جزء من الملك ، فلو كان الفاعل مستقلاً في فعله ، لكان بعض الكون وهو ذوات العلل والأشياء ملكاً للّه سبحانه والبعض الآخر يكون ملكاً لغيره تعالى ، أعني : العلل والأسباب ، فإنّ المالكية متفرعة على الخالقية فلو كانت الآثار خارجة عن إطار خالقية اللّه لخرجت عن إطار مالكيته.
    إنّ القرآن الكريم يخبر عن مجموعة من المدبرات إلى جانب اللّه حيث يقول : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ). (2)
    فمن ترى تكون تلك المدبّرات؟
    المراد من تلك المدبّرات أمّا العلل الطبيعية أو الملائكة التي تدبّر الكون.
    فإذا كانت هذه الأشياء تدبّر شؤون العالم على وجه الاستقلال دون أن تكون أفعالها مستندة إلى إرادة اللّه ومشيئته ، فهل يصح قوله تعالى : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ).
    فأي شريك أعلى وأبين من هذه الشركاء المشتغلة بتدبير العالم دون الاعتماد على اللّه ودون الرجوع إليه فرضاً.
    3. لقد أشار أحد أئمّة أهل البيت في الرد على عقيدة المعتزلة إلى نكتة
    1 ـ الإسراء : 111.
    2 ـ النازعات : 4.


(337)
خاصة وهي :
    « انّ القدرية أرادوا أن يصفوا اللّه عز وجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه ». (1)
    فلقد كشف الإمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) النقاب ، منذ بداية نشوء مذهب الاعتزال (2) عن الدوافع الأوّلية لمثل هذا الاعتقاد ، وأعلن منذئذ عن فساده ، وعلة بطلانه ، لأنّه يحدّد قدرة اللّه.
    ولو أمعنوا النظر في كيفية صدور الفعل عن الإنسان ، وكيفية فاعليته ، مع المحافظة على أصل « التوحيد الافعالي » ، لثبت لهم أنّ كل فعل صادر من الإنسان مع أنّه فعل اللّه هو فعل الإنسان نفسه ، ومع أنّه (أي الفعل البشري) قائم باللّه تعالى هو صادر من العبد نفسه أيضاً ، غاية ما في الباب أنّ فاعليته تعالى بالقيومية وفاعلية البشر فاعلية مباشرية.
    يقول الإمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) في كتاب له إلى أحد أصحابه :
    « قال اللّه : يابن آدم بمشيئتي كنت ، أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أديت إليَّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً ، بصيراً ، قوياً ». (3)
    1 ـ بحار الأنوار : 5/54.
    2 ـ نعم أنّ أصحاب الاعتزال قد أخذوا الأصلين الرئيسيين (التوحيد والعدل) عن خطب أمير المؤمنين عن طريق محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم غير أنّهم لابتعادهم عن سائر أئمّة أهل البيت لم يوفقوا إلى تفسير هذين الأصلين على النحو اللائق بهما إلى أن وجد فيهم أقوام لهجوا بأنّ اللّه غير قادر على أفعال الإنسان إيجاداً واعداماً وهؤلاء هم القدرية الحقيقية.
    3 ـ بحار الأنوار : 5/57.


(338)
    فالحديث رغم أنّه يصف الإنسان بأنّه هو الذي يريد لنفسه ما يريد ، وبإرادته يؤدي فرائضه ويرتكب جرائمه إلاّ أنّه في نفس الوقت يقول : بأنّه يفعل ما يفعل بأنعام اللّه وأقداره.
    نعم اختارت المعتزلة ما اختارت من استقلال العبد في فعله بدافع المحافظة على « العدل الإلهي » متوهّمين بأنّ القول بوجود فاعل مستقل واحد في العالم يستلزم أن يكون عقاب العصاة على أفعالهم على خلاف العدل ، ولكنّهم غفلوا عن أنّ عقاب العصاة على آثامهم إنّما يكون مخالفاً له إذا أنكرنا حرية الإنسان في الاستفادة من المواهب الإلهية ، واعتبرناه مجبوراً مقهوراً في أفعاله وأنكرنا وساطة العلل والأسباب وفاعليتها وعلّيتها.
    وأمّا إذا قلنا بمشاركة العلل والأسباب في وقوع الفعل بحيث لا يتحقق الفعل إلاّ عن هذا الطريق ، أعني : وجود العبد وإرادته واختياره فلا يكون لذلك التوهم أي مجال ، والقول بمشاركة العبد في فعله على النحو الذي ذكرنا لا ينافي « التوحيد الافعالي » إذ لا يعني منه إنكار علية العلل والأسباب الطبيعية وغير الطبيعية وإلغاء دورها وتأثرها ، بل يعني مع احترام علية العلل وسببية الأسباب أنّه ليس ثمت سبب مستقل ومؤثر بالذات إلاّ اللّه ، وانّه تعالى المؤثر الوحيد الذي يؤثر بالأصالة والاستقلال دون غيره ، وبهذا الطريق وحده يمكن الاجتناب عن أي نوع من ألوان الشرك في الذات والفعل. (1)
    وبعبارة أُخرى : انّ اللّه قد أعطى القدرة والنعمة لعبده ، ولكن جعله حراً في كيفية الاستفادة منهما ، فهو بإرادته واختياره يصرف كل نعمة في أي مورد شاء ،
    1 ـ للسيد الرضي في المقام كلام فراجع حقائق التأويل : 209 ـ 210.

(339)
وعندئذ يكون هو المسؤول عن أعماله وأفعاله ، وعلى هذا الأساس فالفعل مستند إلى اللّه سبحانه باعتبار أنّه أقدر عبده على الفعل وأنعم عليه ، كما أنّه مستند إلى عبده لكونه باختياره صرف القدرة والنعمة في أي مورد شاء ، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي تواترت عليه الأخبار عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) .

مذهب الإمام الأشعري
    إنّ هناك مذهباً آخر يعد مقابلاً للمذهب الماضي وهو المنسوب إلى الإمام الأشعري ، فهو لا يعترف إلاّ بمؤثر واحد وهو اللّه سبحانه وينكر علّية أي موجود سواه ، بل يقول جرت إرادة اللّه على خلق الحرارة بعد النار وخلق النور بعد الشمس وهذا هو ما أسموه بالعادة الإلهية.
    فالعادة الإلهية جرت ـ حسب تلك النظرية ـ على ظهور الأثر عقيب وجود المؤثر ، دون مشاركة أو سببية للمؤثر في حصول ذلك الأثر مطلقاً.
    ولكن هذه النظرية مرفوضة لمخالفتها الصريحة للبراهين العلمية والفلسفية ولصريح الآيات القرآنية حول تأثير العلل والأسباب الطبيعية في عالم الكون ، ونحن نرجئ بيان بطلان هذا الرأي من الناحية العلميةوالفلسفية (1) إلى موضع آخر ، وإنّما نكتفي هنا ببيان بطلانه من وجهة نظر القرآن.
    1 ـ نعم هذه النظرية تقارب ما نقل من الفيلسوف الإنجليزي المعروف : هيوم ، حيث إنّه أنكر مطلق العلية ولم يعترف حتى بعلّة واحدة ، وعلّل ذلك بأنّ التجربة لا تثبت إلاّ التوالي والتقارن بين النار وحرارتها والشمس وضوئها ، وهما غير العلّية أي نشوء شيء من شيء.
    ولكنّه لما حصر أسباب المعرفة بالتجربة والاختبار عجز عن إثبات قانون العلية الذي تبتني عليه المعارف البشرية ، ولو رجع إلى البراهين الفلسفية التي أقامها الفلاسفة على أنّ كل ظاهرة ممكنة تحتاج إلى سبب يخرجها من نقطة الاستواء لظهر له الحق بأجلى مظاهره.


(340)
    ففي هذه الآيات يصرح القرآن ـ بوضوح كامل ـ بعلية وتأثير العلل الطبيعية نفسها.
    وإليك هذه الآيات : ( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) . (1)
    وجملة ( يُسْقَى بِمَاء وَاحِد ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.
    وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين : ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (2).
    ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ). (3)
    ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز ـ بجلاء ـ بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ « الباء » تفيد السببية ـ كما نعلم ـ .
     ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَال فِيهَا مِنْ بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مِنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) . (4)
    1 ـ الرعد : 4.
    2 ـ البقرة : 22.
    3 ـ السجدة : 27.
    4 ـ النور : 43.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس