مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 381 ـ 390
(381)
الأوقات ـ متمثلة أمام عبدتها بحيث ينظرون إليها في كل حين ، لأجل هذا استعمل الخليل ( عليه السَّلام ) لفظة رب في كل الموارد التي حمل فيها على عبادة الكواكب والأجرام فقال مستفهماً : ( هذا ربي ) ؟!!
    و « رب » في لغة العرب هو المتصرّف والمدبِّر الذي يدبِّر الشيء ويديره ويتحمل أمر تربيته ويتصرف فيه ، وهذه القصة ـ مع ملاحظة كل خصوصياتها ـ دليل على وجود « الشرك الربوبي » في عصر إبراهيم ( عليه السَّلام ) .
    إنّ الشرك في الربوبية يشبه إلى حد بعيد قصة من يريد أن يحصل على بيت لنفسه ، فيهيّئ كمية كبيرة من المواد الإنشائية ويجعلها تحت تصرف البنّاء والعامل ، ويطلب منهم أن يبنوا له البيت الذي يريد ، ففي هذه الصورة تكون المواد الإنشائية من صاحب العمل ، ولكن تنسيق هذه المواد وتشغيلها والتصرف فيها يتعلّق بالبنّاء والمعمار والعمال الذين أوكل إليهم بناء البيت المذكور على نحو ما يريدون وكيفما شاءوا.
    هذا هو أوضح مثال للشرك الربوبي ، ولقد كان القائلون بربوبية الملائكة والجن والأرواح المقدسة يعتقدون بأنّ موجودات هذا العالم من القمر و الشمس إلى الحيوان و الإنسان إلى الشجر والحجر إنّما هي المواد الإنشائية لهذا العالم ، وإنّ اللّه فوّض أمر التصرف في هذه المواد ـ بعد أن خلقها ـ إلى هذه الأرباب ثم راحت تشتغل بتدبير الكون والتصرف فيه بالاستقلال وبمطلق الاختيار.
    لقد كان هذا الفريق يعتقد أنّ مقام الخلق غير التدبير وأنّ الذي يرتبط باللّه إنّما هو الخلق والإيجاد الابتدائي من العدم ، ولكن حيث إنّ الخلق غير التدبير ، فالتدبير يتعلّق بموجودات أُخرى غير اللّه ، أعني : الموجودات المتصرفة لهذا العالم والتي فوض إليها تدبير عالم الطبيعة ، وليس للّه أية مشاركة في أمر تدبير الكون


(382)
وإدارته وتنظيم شؤونه ، وتصريفه والتصرف فيه.
    2. لقد دخلت الوثنية في مكة ونواحيها أوّل ما دخلت في صورة « الشرك في الربوبية » ، فقصة « عمرو بن لحي » دليل واضح على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الأوثان والأصنام مدبّرة لجوانب من الكون.
    يكتب ابن هشام في هذا الصدد :
    كان « عمرو بن لحي » أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟
    قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا.
    فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.
    وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل » ، ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ، ودعا الناس إلى عبادتها. (1)
    إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان مشاركة في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.
    على أنّه ينبغي أن لا يتصوّر أحد بأنّهم كانوا يعتبرون هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرّفة والمدبِّرة للكون ليقال : ليس هناك من جاهل ـ فضلاً عن عاقل ـ يقول بأنّ هذه الأصنام الجامدة تكون منشأ كل هذه الآثار والحوادث ، بل الحق أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأصنام الخشبية تمثّل صور الآلهة المدبّرة لهذا
    1 ـ سيرة ابن هشام : 1/79.

(383)
العالم التي فوّض إليها إدارة الكون وتصريفه والتصرف فيه ، ولكن حيث إنّ هذه الآلهة المزعومة لم تكن في متناول أيديهم ، وحيث كانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحس واللمس صعب التصور لديهم عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب أو الحجر أو المعدن وراحوا يعبدون الصور والتماثيل عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقين (وهي الآلهة المزعومة).
    ويمكنك أيها القارئ الكريم أن تقف على مفصل هذه الأُمور في الفصل التاسع ، عند البحث عن « التوحيد في العبادة ».
    3. يكتب المفسرون الإسلاميون أنّ « ودّاً » و « سواعاً » و « يغوث » و « يعوق » و « نسراً » كانوا من عباد اللّه الصالحين ، وكان يتبعهم في ذلك فريق من قومهم ، ولمّا ماتوا ظن فريق بأنّهم لو نظروا إلى صورهم وتماثيلهم لأمكنهم أن يعبدوا اللّه بنحو أفضل باعتقاد أنّ صورهم تذكرهم باللّه ، وبمرور الزمن تحولت هذه الفكرة إلى عبادة تلك الصور والتماثيل ذاتها.
    وإليك نص ما كتبه صاحب مجمع البيان في هذا الصدد :
    « عن محمد بن كعب أنّ هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم و نوح عليمها السَّلام ، فنشأ قوم بعدهم يأخذون مأخذهم في العباد ، فقال لهم إبليس : لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ، ففعلوا ، فنشأ بعدهم قوم فعبدوهم ، فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت ». (1)
    يقول المحقّق المعاصر الأُستاذ جواد علي في كتاب : « المفصّل » الذي كتبه
    1 ـ مجمع البيان : 10/364 طبع صيدا.

(384)
حول تاريخ العرب قبل الإسلام ، ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة استقصى فيها أحوال العرب في كل جوانب الحياة ومجالاتها.
    يقول عن اعتقادهم بالنسبة إلى معبوداتهم المزعومة :
    إنّ معارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً ، وهذا ممّا حمل بعض المستشرقين على القول بأنّ العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم ، كما كان عند غيرهم من الأُمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين ، وإذا لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية عن العرب ، صعب علينا تكوين فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب ، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم ، وعن كيفية تصوّرهم للآلهة.
    فكلمات مثل ود وسعد (1) وهي أسماء لبعض آلهتهم تفيدنا في فهم عبادة الجاهلين وتفكيرهم في تلك الآلهة. (2)
    5. لم يكن المتنوّرون والطبقة المثقّفة يعتقدون بمدبّر غير اللّه ، بل كانوا يعتبرون الأصنام شفعاء توجب عبادتها الزلفى عند اللّه ، والقربى لديه ، ويدل على هذا الأمر آيات إليك بعضها : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى ) . (3)
    ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ
    1 ـ التي تكون لها معان تشير إلى صفة الآلهة ، إذ الأوّل يشير إلى أنّه إله المحبة والثاني يشير إلى أنّه إله السعادة.
    2 ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : 6/19.
    3 ـ الزمر : 3.


(385)
فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ). (1)
    ولكن مع الاعتراف بهذا المطلب لابد من القول ـ بصراحة ـ بأنّ مفاد هذه الآية لا يمثل اعتقاد الجميع ، بل كان ثمت فريق من الوثنيين يعتقدون في حق آلهتهم ومعبوداتهم المزعومة بأنّها تملك بعض القوى الغيبية ، وأنّها تتصرف في عالم الطبيعة والكون على غرار ما يفعل الآلهة ، خاصة وأنّهم كانوا قد اختاروا معبوداتهم وآلهتهم المزعومة من صفوف الملائكة والجن والأرواح المقدسة.
    صحيح أنّ وثنية « العرب الجاهليين » كانت تصرفاً خاطئاً وباطلاً ولم تكن تستند إلى قاعدة فكرية ، ولم تكن على نمط وثنية اليونانيين والروم والفرس التي كانت تقوم على أساس فلسفي ، ولكن بعض أُولئك العرب كانوا في نفس الوقت يعتقدون بربوبية الأوثان ، وهذا ما يستفاد من عدة آيات في هذا المجال.
    ولكن قبل أن نعمد إلى نقل نصوص هذه الآيات نرى لزاماً علينا أن نعرف بدقة ماذا تعنيه لفظة رب التي اشتق منها الربوبية.
    يقول اللغوي العربي المعروف ابن فارس :
    « الرب : المالك ، الخالق ، الصاحب والرب المصلح للشيء يقال : رب فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها والرب ، المصلح للشيء ، واللّه جل ثناؤه الرب ، لأنّه مصلح أحوال خلقه; والراب ، الذي يقوم على أمر الربيب ». (2)
    ويكتب الفيروزآبادي قائلاً :
    « رب كل شيء : مالكه ومستحقه وصاحبه ...
    1 ـ يونس : 31.
    2 ـ مقاييس اللغة : 2/381.


(386)
    رب الأمر : أصلحه ». (1)
    وجاء في المنجد :
    « الرب : المالك ، المصلح ، السيد ». (2)
    وما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة والقواميس الأُخرى.

هل للرب معان مختلفة؟
    إنّ وظيفة كتب اللغة والقواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة ، سواء أكان المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا ، وأمّا تعيين الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.
    وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح في كتب اللغة ومعاجمها ، إذ ما أكثر ما يجد الإنسان عدة معاني متباينة ومتمايزة للفظة واحدة حتى أنّه ليتصور ـ في أوّل وهلة ـ أنّ الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع ، ولكن بعد التحقيق والدراسة يتبيّن أنّه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير ، وأمّا بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.
    ومن المصادفات أنّ لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودودي تصور أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ـ في الأصل ـ ، وذكر لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم.
    ولا شك في أنّ لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز واللغة في الموارد التالية التي لا تكون إلاّ صورة موسعة ومصاديق متعددة لمعنى واحد لا أكثر ،
    1 ـ قاموس اللغة مادة الرب.
    2 ـ المنجد مادة ربب.


(387)
وإليك هذه الموارد والمصاديق :
    1. التربية مثل رب الولد ، ربّاه.
    2. الإصلاح والرعاية مثل ربّ الضيعة.
    3. الحكومة والسياسة مثل فلان قد رب قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.
    4. المالك كما جاء في الخبر عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : أربّ غنم أم ربّ أبل.
    5. الصاحب مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) . (1)
    لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد وما يشابهها ولكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل ، وما هذه المعاني سوى مصاديق وصور مختلفة لذلك المعنى الأصيل ، وسوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد ، أعني : من فوّض إليه أمر الشيء المربي من حيث الإصلاح والتدبير والتربية.
    فإذا قيل لصاحب المزرعة إنّه ربها ، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبط به وفي قبضته.
    وإذا أطلقنا على سائس القوم ، صفة الرب ، فلأنّ أُمور ذلك القوم مفوّض إليه فهو قائدهم ، ومالك تدبيرهم ومنظم شؤونهم.
    وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالكه اسم الرب ، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرف فيها كما يشاء.
    فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب وما يشابهها
    1 ـ الإيلاف : 3.

(388)
مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة ، وينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الرب ، بل المعنى الحقيقي والأصيل للفظة هو : من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف ، وهو مفهوم كلّي ومتحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة (أعني : التربية والإصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية).
    فإذا أطلق يوسف الصديق ( عليه السَّلام ) لفظ الرب على عزيز مصر ، حيث قال : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (1) ، فلأجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفّلاً لتربيته وقائماً بشؤونه.
    وإذا وصف عزيز مصر بكونه رباً لصاحبه في السجن فقال : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ) (2) ، فلأنّ عزيز مصر كان سيد مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شؤونها ومالكاً لزمامها.
    وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً ، إذ يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) (3) ، فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص باللّه.
    وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه « رب البيت » ، فلأنّ إليه أُمور هذا البيت مادّيها ومعنويّها ، ولا حق لأحد في التصرف فيه سواه.
    وإذا وصف القرآن « اللّه » بأنّه ( رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ ) (4) وأنّه ( رَبُّ
    1 ـ يوسف : 23.
    2 ـ يوسف : 41.
    3 ـ التوبة : 31.
    4 ـ الصافات : 5.


(389)
الشِّعْرَى ) (1) وما شابه ذلك ، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها ومديرها والمتصرّف فيها ومصلح شؤونها والقائم عليها ، وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب ، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.
    إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى :
    1. التوحيد في الربوبية.
    2. التوحيد في الإلوهية. (2)
    قائلين : إنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.
    وأمّا التوحيد في الإلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يعني منه أن لا يعبد سوى اللّه ، وقد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.
    والحق أنّ اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك ، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.
    وذلك لأنّ معنى « الربوبية » ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق ، بل هو ـ كما أوضحنا وبيّنّا سلفاً ـ ما يفيد التدبير وإدارة العالم ، وتصريف شؤونه ولم يكن هذا ـ كما بيّنّا ـ موضع اتفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة كما ادّعى هذا الفريق.
    نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم مدبّر سوى اللّه ولكن
    1 ـ النجم : 49.
    2 ـ سيوافيك معنى الالوهية في الفصل التاسع ، ونبين خطأهم في تفسيرها.


(390)
كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممّن يعتقدون بتعدّد المدبّر والتدبير ، وهي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر المتقدمة.
    هنا نلفت نظر الوهابيّين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية ، ليتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحيد في الربوبيّة لا تعني الدعوة إليالتوحيد في الخالقية ، بل هي دعوة إلى « التوحيد في المدبّرية » والتصرف ، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً وشذوذاً في التوحيد الربوبي ، ويعتقد بتعدّد المدبّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.
    ولا يمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الرب في هذه الآيات بالخالق والموجد ، وإليك بعض هذه الآيات :
    أ. ( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ والأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ). (1)
    فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد ، لكانت جملة ( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذ ـ إلى الجملة المذكورة ، أعني : ( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) ، بخلاف ما إذا فسر الرب بالمدبِّر والمتصرف ، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة ، لأنها تكون ـ حينئذ ـ علّة للجملة الأُولى ، فتعني هكذا : أنّ خالق الكون هو المتصرف فيه وهو المالك لتدبيره والقائم بإدارته.
    ب. ( يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدْوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ). (2)
    فإنّ لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى « الخالق » ، وذلك على غرار ما
    1 ـ الأنبياء : 56.
    2 ـ البقرة : 21.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس