مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 371 ـ 380
(371)
في شأنه هذا « أصغر » وهذا « أكبر » أو هذا « صغير » وذاك « كبير » ، فإنّ الصغر والكبر وصفان لا يصدقان على شيء إلاّ بعد مقارنته بشيء آخر ، فالكرة الأرضية ـ مثلاً ـ إنّما يمكن وصفها بالصغر والكبر ويقال الكرة الأرضية « صغيرة » أو « كبيرة » إذا ما قيست بكرة الشمس والقمر فحينئذ يصح قولنا : الكرة الأرضية أصغر من الشمس وأكبر من القمر ، فالصغر والكبر ليسا وصفين حقيقيين بالنسبة إلى الأرض بحيث يدخلان في حقيقة الأرض وإلاّ لما أمكن وصفها بوصفين متضادين ، بل هما وصفان نسبيان وحالتان للأرض يعرضان لها كلّما قيست إلى الكرتين « الشمس و القمر » ويمكن وصف الأرض بهما في تلك الحالة ، وبذلك لا يكون هذان الوصفان حقيقيين.
    من هذه المقارنة والبيان يمكن استنباط نتيجة فلسفية هامة ، وهي : انّ « الصفات الحقيقية » على غرار موصوفاتها التي تتمتع بواقعية لا تنكر على صعيد الخارج ، إنّما تحتاج إلى جاعل وخالق.
    وأمّا الصفات النسبية حيث إنّ ـ ها ليست بذات واقعية خارجية ، بل هي وليدة الذهن ، ونتيجة أفكارنا لدى المقايسة لا تكون محتاجة إلى الخالق والموجد ، إذ لا واقعية خارجية لها حتى تكون محتاجة إلى موجد.
    إنّ حياة الخلية أو وصف المتر بكونه مائة سنتيمتر من الأُمور التي تتمتع بالواقعية الخارجية ، فما لم يكن وراؤهما واقعية أُخرى (ونعني الخالق) ، لما تحقّقا على صعيد الخارج ، ولما كان لهما حظ من الوجود خارج عالم الذهن حسب قانون العلية.
    ولكن الصغر والكبر في المقابل بالنسبة إلى الأرض ليسا لهما واقعية خارج الذهن لكي يحتاجان إلى الخالق والموجد.


(372)
    إنّ المحتاج إلى الموجد والخالق إنّما هو وجود نفس الكرة الأرضية ، وأمّا صغرها وكبرها فهو وليد الذهن والفكر الذي ينشأ من مقارنة جسمين ببعضهما.
    من هذا البيان يمكن معرفة حقيقة « الشرور والآفات » وأنّها من أي نوع من هذين النوعين من الصفات.
    هل هي من الصفات الحقيقية؟
    أو هي من الصفات النسبية؟
    بمراجعة سريعة وتحقيق عاجل يمكن معرفة أنّ الشرور أُمور نسبية لا حقيقية بمعنى أنّ صفة الشر ليست جزءاً من ذوات وحقائق الأشياء الموصوفة بالشر ، بل الشر حالة تنسب إلى شيء من الأشياء عندما يقاس إلى شيء آخر ، فسم الحية والعقرب وغزارة المطر لا تكون شراً إذا ما قيست بنفس الأشياء ، بل هي مبعث كمالها وموجب لبقائها واستمرار حياتها ووجودها ، إنّما هي شر إذا ما قيست إلى الإنسان وتضرر البشر بها فالمطر الغزير مثلاً لا يكون شراً في حد ذاته بل عندما يقاس بشيء آخر اتصف حينئذ بهذا الوصف ، فلو نزل المطر الغزير في فصل مناسب أحيا الزرع والنبات واخضرت بسببه المزارع والحدائق وكان خيراً ، ولكنّه يكون شراً من جهة كونه موجباً لانهدام الأكواخ في الصحارى والبراري ، وعلى هذا فإنّ الخير والشر لو كانا من الأوصاف الحقيقية وكان لهما حظ من الوجود لأمكن وصح حينئذ أن نسأل عن موجدها وخالقها ونقول : إنّ المبدأ الذي يتصف بالخير المطلق لا يمكن أن يكون خالق الشرور ، ولذلك نضطر إلى افتراض خالق آخر (غير خالق الخير) يكون خالق الشرور وموجودها.
    ولكنّ الحق أنّه ليس للشرور « واقعية خارجية » ليتعلّق بها جعل وخلق ،


(373)
وعلى هذا فإنّ ما يكون له حظ من الوجود الخارجي كسم العقرب لا يكون مستغنياً عن الخالق ، ولكن شرّية هذا السم ليست لها واقعية لتنضم إلى وجود السم فتكون رديفة للسم في عالم الوجود والكون ، ولأجل هذا لا تحتاج شرّية السم إلى خالق ، ويكون البحث عن خالقها لغواً لا معنى له ، لأنّ الشر ـ بالمعنى الذي ذكرنا هـ ليس بذات واقعية خارجية كيما يفتقر إلى الفاعل.
    وبعبارة أُخرى انّه ليس من الصحيح أن يقال أنّ اللّه بخلقه للعقرب خلق شيئين وفعل أمرين : خلق « ذات » العقرب مع شرها ، بل فعل اللّه سبحانه شيئاً واحداً ، وهو أنّه تعالى ألبس هذا الموجود لباس الوجود ، وإنّما الإنسان هو الذي يصف هذا العقرب بالشرّية والقبح عندما يقيسه إلى شيء آخر.
    من هنا يمكن إدراك حقيقة الجملة التي يرددها الفلاسفة عند بيان نسبة الشرور إلى اللّه إذ يقولون :
    جميع الموجودات من حيث كونها تتحلّ ـ ى بالوجود فهي مخلوقة للّه بالذات ، وأمّا من حيث اتصافها بالشرّية فليست موضع إرادته سبحانه بل هي ذات نسبة عرضية ومجازية إذا قيست إلى مبدأ الخلق (1).
    وهناك أجوبة أُخرى عن وجود الشر في صفحة الوجود نتركها رعاية للاختصار.
    1 ـ هذا هو تفصيل قولهم : الشرور ليست مجعولة بالذات بل هي مجعولة بالتبع والعرض.

(375)
الفصل الثامن
اللّه و التوحيد الافعالي
2. التوحيد في التدبير والربوبية


(376)
التوحيد في التدبير والربوبية
    1. وجود الشرك في التدبير بين الوثنيين.
    2. هل للرب معان مختلفة؟
    3. نتيجة هذا البحث.
    4. القرآن لا يعترف بمدبّر سواه.
    5. التدبير لا ينفك عن الخلق والإيجاد.
    6. وحدة النظام دليل على وحدة المدبّر.
    7. النتيجة.
    8. ما معنى المدبّرات في القرآن ؟
    9. الجواب عن ذلك.
    10. هل الحسنة والسيئة من اللّه؟
    11. ما معنى الآية التي تنسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى الإنسان؟
    12. التوفيق بين هذه الآيات.


(377)
التوحيد في التدبير والربوبية
    يستفاد ـ بجلاء ـ من التدبّر في الآيات القرآنية ومن مطالعة عقائد وثنيّي العرب المذكورة في كتب الملل والنحل أنّ مسألة « التوحيد في الخالقية » كانت موضع اتفاق وإجماع بينهم ، وأنّ الانحراف إنّما كان في « التوحيد في التدبير » و « التوحيد في العبادة » وبعبارة أوضح كان الأغلب متفقين على أنّ لهذا العالم خالقاً واحداً لا غير.
    وقد ذكرت هذه الحقيقة في الكتاب العزيز مكرراً ، ونحن نذكر هنا طائفة من تلك الآيات : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ منْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأنَّى يُؤْفَكُونَ ) (1).
    ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (2).
    ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (3).
    ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
    1 ـ العنكبوت : 61.
    2 ـ لقمان : 25.
    3 ـ الزمر : 38.


(378)
الْعَلِيمُ ) (1).
    ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (2).
    أجل لقد كان الاعتقاد بوجود مبدأين « خالقين » لهذا العالم في عقيدة زرادشت ، أحدهما يزدان والآخر أهريمن أمراً مشهوراً وإن كانت عقيدة زرادشت نفسه في هذه المسائل يكتنفها غموض كبير.
    على أنّ عقيدة الزرادشتيين في هذه القضية ليست هي وحدها التي تحيط بها هالة من الإبهام والغموض بل عقيدة البراهمة والبوذيين والهندوس في قضية « وحدة الخالق » هي أيضاً غير واضحة.
    وحيث إنّ البحث والتحقيق في عقائد تلك الطوائف خارج عن إطار بحثنا هذا لذلك نواصل بحثنا الأساسي.
    من خلال مراجعة الآيات السالفة يتضح لنا أنّ وثنيّي جزيرة العرب الذين كانوا يعيشون قبل نزول القرآن أو بعده لم يكونوا يعانون من أي انحراف أو إشكال في مسألة « التوحيد في الخالقية » وإن لم يكن إدراكهم للتوحيد في الخالقية على غرار ما شرحه ووضّحه القرآن الكريم (3) ، ولكنّهم كانوا يعتقدون ـ إجمالاً ـ بأنّه ليس للكون سوى خالق واحد هو موجد السماوات والأرض وخالقها ، بيد أنّ بعضهم وليس جميعهم كان يشرك في قضية « التدبير لهذا العالم » أو كانوا يعتقدون
    1 ـ الزخرف : 9.
    2 ـ الزخرف : 87.
    3 ـ لأنّ الشرك في التدبير الذي نسمّيه شركاً في الربوبية وكان رائجاً بينهم ، يرجع إلى الشرك في الخالقية كما سيوافيك بيانه.


(379)
بأنّ اللّه ـ بعد أن خلق الكون ـ فوّض تدبير بعض أُمور الكون إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه واعتزل هو عن أمر التدبير.
    هذه المخلوقات المفوض إليها أمر التدبير كانت في نظر معتقدي هذه النظرية عبارة عن « الملائكة » و « الجن » و « الكواكب » و « الأرواح المقدسة » و ... و ... التي كان كل واحد منها مدبّراً لجانب من جوانب الكون ـ على حد زعمهم ـ !!
    ولأجل أن نقرن قولنا بالأدلة والبراهين نلفت نظر القارئ الكريم إلى أدلّة وجود مثل هذا الشرك في عصر نزول القرآن الكريم.
    فبملاحظة هذه الأدلّة سيذعن القارئ بأنّ وجود « الشرك في المدبّرية » في عصر الرسالة وقبل ذلك لم يكن موضع ترديد وشك ، وأنّ ما قد يتصوّر ـ أحياناً ـ بأنّ عرب الجاهلية أو من تقدّمهم من الأقوام السالفة كانوا يعتبرون الأصنام مجرد شفعاء عند اللّه لا أكثر ليس تصوراً ينطبق على كل الموارد في عالم الوثنية ، بل هو (أي الاعتقاد بمجرد شافعية الأصنام لا أكثر) اعتقاد فريق من العرب الجاهليين ولم يكن اعتقاد جميعهم.

وجود الشرك في التدبير بين الوثنيّين
    1. انّ أوضح برهان على أنّ بعض الفرق منهم كان يعتقد بتعدّد المدبّر هو قصة احتجاج إبراهيم ( عليه السَّلام ) مع عبدة الكواكب والنجوم.
    فقد كانت هذه الفرق تعبد الشمس والقمر والكواكب بعنوان أنّها رب مدبّر وليس باعتقاد أنّها خالقة ، إذ كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأجرام هي المتصرفة في النظام السفلي من العالم ، وأنّ أمر تدبير هذا الكون فوّض إليها فهي أرباب هذا


(380)
العالم دون اللّه.
    ولأجل هذا الاعتقاد نجد إبراهيم ( عليه السَّلام ) يبطل ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أُفولها وغروبها.
    ولنفكر ـ هنا ـ ملياً في استدلال النبي العظيم إبراهيم ( عليه السَّلام ) لنرى أي أمر كان يقصد إثباته أو نفيه من خلال الاستدلال بأُفول هذه الكواكب والأجرام وغروبها.
    فإذا كانت هذه الأجرام ـ حسب اعتقاد قوم إبراهيم ـ هي المدبّرة للموجودات الأرضية ومنها الإنسان فإنّ المدبّرية ـ بحكم أنّ نظام المدبّر يكون في اختيار المدبّر ـ تقتضي أن يعيش المدَبَّر في ظل إشراف المدَبِّر وعنايته ، وينمو ويتربّى ويتقدم نحو الكمال.
    هذا ويقتضي بقاء هذه الكواكب والأجرام على اتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها ليمكن التدبير والتصرف.
    بيد أنّ هذا الاتصال الدائم يتنافى مع الأُفول والغروب وما تتصف به هذه الأجرام والكواكب من غيبة وجهل ، ولأجل هذا عد النبي إبراهيم ( عليه السَّلام ) الأُفول والغروب دليلاً واضحاً وقاطعاً على عدم كون هذه الأجرام ، مدبّرة للموجودات الأرضية.
    ولو كان هؤلاء يعبدون هذه الأجرام بعنوان أنّها أجرام مقدسة توجب عبادتها القربى إلى اللّه لما تكون غيبتها عن صفحة السماء في غير أوقات عبادتها دليلاً على بطلان نظريتهم ، بل يكون حضورها ووجودها حين عبادة الناس لها كافياً لأن تصبح موضع عبادة ، ولا يلزم وراء ذلك أن تكون حاضرة ـ في كل
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس