مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 401 ـ 410
(401)
وكأنّ أوراق الكتاب التكويني ـ على غرار الكتاب التدويني ـ شد بعضها إلى بعض بيد واحدة ، وأُخرجت في صورة واحدة.
    إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كلية وشاملة بحيث لو أُتيح لأحد أن يكتشف بالتجربة سنة في نقطة خاصة من نقاط الكون أمكنه أن يكتشف قانوناً كلياً وشاملاً ، ويهتدي إلى سنة كونية عمومية وهذا هو أفضل دليل على وحدة النظام الحاكم على العالم الطبيعي.
    إنّ وحدة النظام الكوني « وعمومية » السنن والقوانين الطبيعية تقودنا إلى موضوعين :
    1. أنّه ليس للعالم إلاّ خالق واحد ، وتوضيح ذلك هو ما قرأته في الفصل السابق.
    2. انّه ليس للعالم إلاّ مدبِّر واحد.
    وبعبارة أُخرى ، فإنّ وحدة النظام والسنن الكونية لدليل واضح على صحة ما قإله القرآن الكريم.
    ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (1).
    إنّ جملة : ( لَهُ الْخَلْقُ ) إشارة إلى التوحيد في الخالقية.
    وجملة : ( وَالأمْرُ ) إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية على عالم الوجود.
    وهنا ينطرح سؤال هو : كيف تدل « وحدة القوانين » وعموميتها على « وحدة المدبِّر » ؟
    1 ـ الأعراف : 54.

(402)
    وجواب ذلك واضح : إذ عندما يحكم على الكون نوعان من الرأي والحاكمية يكون من الطبيعي والحتمي عدم وجود أي أثر لهذا النظام الواحد ، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تكون إلاّ إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد ، ولو خضع الكون لإدارة حاكمين ومنظمين ومدبِّرين لما كان للنظام الموحد أي أثر.
    لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو بعض الجهات منها ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة ، ويستلزم تعدّد التدبير ـ بالضرورة ـ فناء النظام الموحد ، وغيابه.
    وبعبارة أُخرى : انّ المدبِّرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم تصدق هناك اثنينية قهراً ، وإن تعدّد المدبِّر يعني ـ بالضرورة ـ اختلاف المدبِّرين من جهة أو جهات ، ومعلوم أنّ اختلافاً ـ كهذا ـ يؤثر لا محالة في تدبير المدبِّر.
    ويمكن بيان هذا البرهان بصورتين :
    1. أن نلتفت ـ في بيان البرهان ـ إلى الجوانب الإيجابية فيه ونقول : إنّ ترابط أجزاء الكون ، وتأثيرها في بعضها يدلّ على خضوعها لحاكمية حاكم واحد على جميع العالم يقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.
    وقد أكد في أحاديث أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) على هذه النقطة أحياناً ، إذ يقول أحدهم وهو :
    « فلما رأيت الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر


(403)
واحد ». (1)
    2. وربما أُشير إلى الجوانب السلبية في هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبير يوجب فساد النظام الكوني.
    وقد استند القرآن الكريم على هذا الجانب ، إذ قال : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ). (2)
    وربما ورد في بعض نصوص أهل بيت الرسالة الإشارة إلى كلا الجانبين في هذا البرهان ، إذ يقول أحدهم ( عليهم السَّلام ) في جواب هشام الذي سأل عن دليل وحدانية الرب :
    « اتصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال اللّه عزّ وجل : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) . (3)
النتيجة
    1. انّ وحدة النظام ووحدة الكون وشمول السنن لجميع أجزاء هذا العالم وعمومية القوانين الطبيعية كل ذلك يمكن أن يكون أفضل دليل على وحدة الخالق ، وكذا وحدة المدبِّر.
    2. أنّ هذا البرهان يمكن أن يبين في صورتين ، وكلا الصورتين اللّتين هما ـ في الحقيقة ـ برهان واحد وردا في القرآن الكريم.
    1 ـ توحيد الصدوق : 244.
    2 ـ الأنبياء : 22.
    3 ـ توحيد الصدوق : 250 وسيوافيك الاستدلال بهذه الآية بشكل آخر.



(404)
ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟
    فإذا كانت الظواهر الطبيعية وليدة عللها التي هي الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء ، فكيف ينسجم هذا مع حصر المدبّرية المطلقة في اللّه تعالى؟
    فإنّ التدبير الطبيعي عبارة عن تكفّل شيء لشيء آخر ، فإنّ كل علة في هذا النظام الكوني متكفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه ، وبمقتضى ذلك تكون كل علة مدبّراً ، وعند ذلك فكيف ينحصر التدبير في اللّه سبحانه؟
    مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يعترف بسلسلة من المدبِّرات ويقول : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ). (1)
    ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) . (2)
    ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة لو كانوا يراقبون البشر ويحفظونه من الشرور والأخطار ، فإنّ من الحتمي أن يعدوا مدبِّرين له بنحو ما؟
الجواب
    قد سبق منّا ـ عند البحث عن التوحيد في الخالقية ـ أنّ التوحيد في الأفعال ليس بمعنى تعطيل فاعلية الأسباب والعلل وإحلال اللّه تعالى محلها للتأثير في الظواهر مباشرة ، لأنّ هذا عين ما اختارته الأشاعرة ، الذي أبطلناه.
    بل التوحيد في الأفعال ـ سواء أكان في الخالقية أم في التدبير ـ إنّما هو
    1 ـ النازعات : 5.
    2 ـ الأنعام : 61.


(405)
بمعنى أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه ، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته ، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في اللّه سبحانه ، ومن ليس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهيم القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات ، إذ كيف يمكن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال كالشفاعة ، والمالكية ، والرازقية والعلم بالغيب والإحياء في بعض الآيات باللّه سبحانه بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه من عباده ، فكيف ينسجم ذلك الانحصار مع هذه النسبة؟
    وإليك نماذج من هاتين الطائفتين من الآيات :
    1. يعد القرآن ـ في بعض آيات هـ قبض الأرواح فعلاً للّه تعالى ، ويصرح بأنّ اللّه هو الذي يتوفّي الأنفس حين موتها إذ يقول ـ مثلاً ـ : ( اللّهُ يَتَوفّي الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ). (1)
    بينما نجده يقول في موضع آخر ، ناسباً التوفّي إلى غيره : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) . (2)
    2. يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة باللّه وحده إذ يقول : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ).
    في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول :
    1 ـ الزمر : 42.
    2 ـ الأنعام : 61.


(406)
    ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ). (1)
    3. يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً باللّه وحده ، إذ يقول : ( قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ). (2)
    بينما يخبرنا ـ في آية أُخرى ـ عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة : ( وَكَمْ مِنْ مَلَك فِي السَّمواتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللّهُ ). (3)
    4. يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب والعلم به منحصراً في اللّه ، حيث يقول : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمواتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) . (4)
    فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ اللّه يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب ، إذ يقول : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ). (5)
    1 ـ البقرة : 45.
    2 ـ الزمر : 44.
    3 ـ النجم : 26.
    4 ـ النمل : 65.
    5 ـ آل عمران : 179.


(407)
    5. ينقل القرآن عن إبراهيم ( عليه السَّلام ) قوله بأنّ اللّه يشفيه إذا مرض حيث يقول : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ). (1)
    وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في اللّه سبحانه ، في حين أنّ اللّه يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول : ( فِيهِ [العسل ] شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) . (2)
    ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ). (3)
    6. إنّ اللّه تعالى ـ في نظر القرآن ـ هو الرازق الوحيد حيث يقول : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) . (4)
    بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ). (5)
    7. الزارع الحقيقي ـ حسب نظر القرآن ـ هو اللّه كما يقول :
    1 ـ الشعراء : 80.
    2 ـ النحل : 69.
    3 ـ الإسراء : 82.
    4 ـ الذاريات : 58.
    5 ـ النساء : 5.


(408)
    ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) . (1)
    في حين أنّ القرآن الكريم ـ في آية أُخرى ـ يطلق صفة الزارع على الحارثين إذ يقول : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ). (2)
    8. إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول : ( وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ). (3)
    في حين يعتبر القرآن الملائكة ـ في آية أُخرى ـ بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول : ( بَلَى وَرُّسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ). (4)
    9. وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) . (5)
    وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :
    1 ـ الواقعة : 63 ـ 64.
    2 ـ الفتح : 29.
    3 ـ النساء : 8.
    4 ـ الزخرف : 81.
    5 ـ النمل : 4.


(409)
    ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ). (1)
    وفي آية أُخرى نسبها إلى آخرين وقال : ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ ) . (2)
    10. مر في هذا البحث حصر التدبير في اللّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو اللّه ، ، إذ يقول في الآية 31 من سورة يونس : ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ).
    بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبّرية غير اللّه حيث يقول : ( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ). (3)
    فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً ، غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور أعني : الرازقية ، والإشفاء و ... و ، قائمة باللّه على نحو لا يكون للّه فيها أي شريك ، فهو تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعية » وفي ظل القدرة الإلهية.
    وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه
    1 ـ الأنفال : 48.
    2 ـ فصلت : 25.
    3 ـ النازعات : 5.


(410)
الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللّه من ذلك ، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً للّه في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات غاية ما في الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » ، فيما يكون نسبتها إلى « اللّه » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».
    ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه : ( وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ). (1)
    ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة ( إذْ رَمَيْتَ ) نجده يصف اللّه بأنّه هو الرامي الحقيقي ، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له ، فيكون فعله فعلاً للّه أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى اللّه (الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً للّه لا غير ، ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللّه وناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحقّقت الظاهرة يعد هو مسؤولاً عن الفعل.

وحدة المدبِّر في العالم
    إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر في العالم ببرهان ذي شقوق ، وقد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان ، وإليك الآيتين :
    1 ـ الأنفال : 17.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس