مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 491 ـ 500
(491)
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (1)
    ( هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . (2)
    ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية ، (أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا).
    ويقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيَّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ). (3)
    فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أي منها ربّما يشعر بخلوه عن معنى العلمية ، وتضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) . (4)
    فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
    نعم ، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من أله بمعنى عبد; أو من أله بمعنى تحيّر ، لأجل أنّ العبد إذا تفكر فيه تحيّر; أو من أله بمعنى فزع ، لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم; أو من إله بمعنى سكن ، لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.
    1 ـ الحشر : 23.
    2 ـ الحشر : 24.
    3. الإسراء : 110.
    4 ـ الحشر : 23.


(492)
    أو أنّه متخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام ، أو غير ذلك مما ذكروه (1) ، ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل ، وعلى فرض صحتها ، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع وأُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه ، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن ، وانّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.
    والظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره ، فإنّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً ، ويفزع إليه عند الشدائد ، ويسكن قلبه عند ذكره ، إلى غير ذلك من اللوازم ، والآثار التي تستلزمها صفة الإلوهية ، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله ، وما احتف بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة ، سوى كون الأوّل كلياً والثاني جزئياً.
هل الإله بمعنى المعبود؟
    نعم يظهر من كثير من المفسرين بأنّ أله بمعنى عبد ، ويستشهدون بقراءة شاذة في قوله سبحانه : ( لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ). (2)
    حيث قرئ والاهتك ، أي عبادتك.
    ولعل منشأ هذا التصور هو كون الإله الحقيقي ، أو الآلهة المصطنعة موضعاً للعبادة ـ دائماً ـ لدى جميع الأُمم والشعوب ، ولأجل ذلك فسرت لفظة « الإله »
    1 ـ راجع مجمع البيان : 9/19.
    2 ـ الأعراف : 127.


(493)
بالمعبود ، وإلاّ فإنّ المعبودية هي لازم الإله وليست معناه البدوي.
    والذي يدل ـ بوضوح ـ على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو : كلمة الإخلاص : « لا إله إلاّ اللّه » إذ لو كان المقصود من الإله « المعبود » لكانت هذه الجملة كذباً صراحاً ، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا ، غير اللّه ، ومع ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى اللّه؟!
    ولأجل ذلك اضطر القائل بأنّ الإله بمعنى المعبود أن يقدر كلمة « بحق » بعد إله لتكون الجملة هكذا : « لا إله [بحق ] إلاّ اللّه » ليتخلّص من هذا الإشكال ، ولكن لا يخفى أنّ تقدير كلمة « بحق » هنا خلاف الظاهر ، وأنّ هدف كلمة الإخلاص هو نفي أيّ إله في الكون سوى اللّه ، وانّه ليس لهذا المفهوم (أي الإله) مصداق بتاتاً سواه سبحانه ، وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ « الإله » بمعنى « المعبود » ، لوجود المعبودات الأُخرى في العالم وإن كانت مصطنعة.
    وأمّا جمعه على الآلهة فليس على أساس أنّه بمعنى المعبود ، بل لأجل اعتقاد العرب بأنّ هاهنا آلهة غير اللّه سبحانه ، قال تعالى : ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ). (1)
    وإن شئت أن تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأُمور التي تعد عند الناس من شؤون الربوبية ولوازمها فالقائم بتلك الشؤون ـ كلها أو بعضها ـ هو : الإله ، فالخلق والتدبير والإحياء والإماتة والتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة بالاستقلال كلّها من شؤون الربوبية ، فالقائم بهذه الشؤون حقيقة أو تصوراً : إله ، واقعاً أو عند المتصوّر.
    1 ـ الأنبياء : 43.

(494)
    وهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، بل بمعنى المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور ، أو ما يقرب من ذلك مما يعد فعلاً له تعالى ، وإليك بعض هذه الآيات :
    1. ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (1) ، فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّ إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين ، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم الآلهة ، ومركزها مع كون العالم منتظماً ، غير فاسد.
    وعندئذ يجب على من يجعل « الإله » بمعنى المعبود أن يقيده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا ، ولمّا كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدده فساد النظام وهذا كله تكلّف لا مبرر له.
    2. ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذَاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بعْض ). (2)
    ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّي ما يطلق عليه لفظ الجلالة ، وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعإله وشؤونه ، والمناسب في هذا المقام هو الخالق ، ويلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلِّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.
    ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أيُّ اختلال
    1 ـ الأنبياء : 22.
    2 ـ المؤمنون : 91.


(495)
في الكون ، وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة ، فإنّ في العالم آلهة متعددة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أيُّ فساد واختلال في الكون.
    فيلزم على من يفسر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.
    3. ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ) (1) ، فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك مما يرسمه في ذهننا معنى الإلوهية ، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلاّ بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.
    4. ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ) (2) ، والآية تستدل من ورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة ، إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.
    والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فإنَّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللّه أجل من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.
    وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم ، ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه ، وإليك مورداً منها : ( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتينَ ) . (3)
    1 ـ الإسراء : 43.
    2 ـ الأنبياء : 98 و 99.
    3 ـ الحج : 34.


(496)
    فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد ، ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف وإيصال النفع ، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال لصح حصر الإله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة ، إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.
    ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ الإله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلاّ المعنى البسيط ، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله ، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور ، كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلِّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله ، لا أنّه نفس معناه.
    وبما أنّ بعض الكتاب المعاصرين خلط بين السلطة الغيبية المستقلّة التي يمكن أن تقع رمزاً للالوهية ، والسلطة المستندة إلى اللّه غير المستقلة التي ربما توجد عند الأنبياء ، والأولياء ، وخيار الناس والصالحين من العباد ، فلا بأس بأن نبحث في هذا الموضوع في البحث القادم.


(497)
6
هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية
لغير اللّه موجب للشرك؟
    لا شك في أنّ طلب الحاجة من أحد ـ بصورة جدية ـ إنّما يصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على انجاز حاجته ، وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية ، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماءً ، ويجعله تحت تصرفنا ، وقد تكون القدرة قدرة غيبية ، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية والقوانين المادية ، كأن يعتقد أحد بأنّ الإمام علياً ( عليه السَّلام ) قلع باب « خيبر » بالقدرة الغيبية ، كما جاء في الحديث.
    أو أنّ المسيح ( عليه السَّلام ) كان يقدر ، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصي علاجه ، دون دواء ، أو إجراء عملية جراحية.
    والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي ، وإلى القدرة المكتسبة منه سبحانه ، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية ، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك ، لأنّ اللّه الذي أعطى القدرة


(498)
المادية لذلك الفرد ، هو الذي أعطى القدرة الغيبية لآخر ، دون أن يعد المخلوق خالقاً ، وأن يتصور استغناء أحد عن اللّه.
    فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية ، فقد قام بأمر اللّه وإذنه ومشيئته ، ومثل ذلك لا يعد شركاً ، وتمييز السلطة المستندة إلى اللّه عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد ، وبذلك يظهر خطأ كثير ممّن لم يفرقوا بين السلطة الغيبية المستندة ، والسلطة الغيبية غير المستندة.
    وقالوا : لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحين ـ حيّاً كان أم ميتاً ـ شفاء علّته أو رد ضالّته ، أو أداء دينه ، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح وإنّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية ، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادراً على خرقها وتجاوزها ، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير اللّه عين الاعتقاد بالوهية ذلك المسؤول ، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون شركاً.
    فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتبع الأنظمة الطبيعية لتحقّق مطلبه ، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبيّ موارى تحت التراب ، أو عائش في مكان ناء ، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي ، أو الإمام على نحو ما يكون للّه سبحانه ، ومثل هذا عين الاعتقاد بالوهية المسؤول !!
    وممّن صرح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي ، إذ يقول :
    صفوة القول إنّ التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ، ويستغيثه ، ويتضرّع إليه ، هو ـ لا جرم ـ تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة. (1)
    1 ـ المصطلحات الأربعة : 17.

(499)
    وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكاً للاعتقاد بالإلوهية ، وقد صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في باب الإلوهية هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسؤول قادر على أن ينفع أو يضر بشكل خارج عن إطار القوانين والسنن الطبيعية المألوفة ، إذ قال :
    فالذي يتخذ كائناً ما وليّاً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء ، وقاضياً لحاجته ، ومستجيباً لدعائه ، وقادراً على أن ينفعه ، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية ، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنّه فيه أنّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم ، وكذلك من يخاف أحداً ويتّقيه ويرى أنّ سخطه يجر عليه الضرر ، ومرضاته تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلاّ ما يكون في ذهنه من تصور أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون ، ثم إنّ الذي يدعو غير اللّه ويفزع إليه في حاجته بعد إيمانه باللّه العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلاّ اعتقاده فيه أنّه له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الإلوهية. (1)
    وصريح هذا الكلام هو التلازم بين القدرة على النفع والضرر ، والاعتقاد بالسلطة الإلوهية ، وإنّ كل قدرة على النفع والضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على الإلوهية ، بالملازمة.
    وهذا جد عجيب من المودودي.
    إذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بالإلوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر ، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية ، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم ، لأنّها مالكة
    1 ـ المصطلحات الأربعة : 23 ، وفي موضع آخر صرح بهذا الاستلزام إذ قال في ص 30 : « انّ كلاّ من السلطة والالوهية تستلزم الأُخرى ».

(500)
شفاعتهم ومغفرتهم ، ومعلوم ـ جيداً ـ أنّ مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد منها : السلطة على عالم التكوين.
    إنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالإلوهية.
    إنّ السلطة على الكون بجميع هـ فضلاً عن بعض هـ إذا كانت بأقدار اللّه تعالى وبإذن من هـ فهي بنفسها ـ لا تلازم الإلوهية ، فكما أنّ اللّه أعطى لآحاد الناس قدرة محدودة في أُمورهم العادية ، وفضل بعضهم على بعض في تلك القدرة ، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامّة على جميع الكون ، عادية أو غير عادية ، وذلك بنفسه لا يستلزم الإلوهية ، والذي يمكن أن يقع عليه الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة وانّه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا؟ والقرآن يصرح بذلك في عدة موارد ، منها ما ورد في شأن يوسف ( عليه السَّلام ) :
1. يوسف عليه السَّلام والسلطة الغيبية
    أمر يوسف ( عليه السَّلام ) إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه ويلقوه على بصره ليرتد بصيراً ، كما يقول القرآن الكريم في هذا الشأن : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) . (1)
    ( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ألْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) . (2)
    إنّ ظاهر الآية يعطي أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف ، وأنّه لم يكن فعلاً مباشراً للّه سبحانه ، وإنّما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.
    1 ـ يوسف : 93.
    2 ـ يوسف : 96.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس