مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 501 ـ 510
(501)
    ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى اللّه سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم ، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد ، وليس هذا إلاّ تصرّف لولي اللّه في الكون بإذنه سبحانه.
2. موسى ( عليه السَّلام ) والسلطة على الكون
    ونظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسى ( عليه السَّلام ) ، إذ قيل له : ( اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجََرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ) (1) فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته ، تأثير في تفجّر الماء من الصخر لما أمر به اللّه سبحانه.
    وربما يتصور أنّ موسى يضرب بعصاه ، ولكن اللّه هو الذي يفجّر الأنهار ، فهذا لا يدل على سلطة غيبية لموسى ، إذ غاية الأمر أنّ اللّه تعالى يفعل تفجير الأنهار عند ضربه ، لكنه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا ، فإنّ الضرب بالعصا ليس من قبيل الدعاء ، حتى يقال إنّه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه.
    وعلى الجملة لا يمكن أن تنكر مشاركة ضربه بالعصا وإرادته ذاك العمل في تفجر العيون ، وإن كان اذنه سبحانه ومشيئته فوقه ، ولا تدل الآية على أزيد من هذا.
    ومثله قوله سبحانه : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوْسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ). (2)
    ودلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.
    1 ـ البقرة : 60.
    2 ـ الشعراء : 63.


(502)
3. أصحاب سليمان عليه السَّلام والسلطة الغيبية
    كما أنّ مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا ، بل يثبتها القرآن الكريم لأصحاب سليمان وحاشيته ، فها هو أحد حاشيته يضمن له ( عليه السَّلام ) احضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه ، وقبل أن ينفض مجلسه ، إذ قال سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ). (1)
    بل ويضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين ، إذ قال : ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) (2).
    ولم يتبيَّن ـ إلى الآن ـ ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول به : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ). (3)
    وسواء أكان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة وكيفية معالجتها واحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين ، أم كان المراد منه غيره.
    وعلى أيِّ تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب وتنال بالتعلّم ، وهذا يكفي في عد عمله خارقاً للنواميس العادية والسنن الطبيعية المكشوفة الرائجة.
    1 ـ النمل : 38 ـ 39.
    2 ـ النمل : 40.
    3 ـ ذكر المفسرون هناك أقوالاً واحتمالات فراجع الميزان : 15/363.


(503)
    وربما يحتمل أنّه إذا كان عمله مستنداً إلى علمه بغرائب خواص الأشياء المستورة على الناس لا يخرج عن كونه عملاً طبيعياً ، وإن كان يعد غريباً ، ولعله كان له علم بغرائب الخواص ، وفي هـ مع أنّه احتمال غير مدعم بدليل ـ لا يخرج عمل العامل عن كونه قرين المعجزات وعديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلاّ أولياء اللّه سبحانه.
    وقد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها ، مستنداً إلى علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس ، فيتصرف في الطبيعة لإحاطته بتلك القوانين غير المعروفة ، وليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلّم ، وهذا يكفي في عدّه معجزة أو كرامة.
4. سليمان والسلطة الكونية
    ويصرح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمان ( عليه السَّلام ) في سور مختلفة :
    1. انّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير حتى أصبحت من جنوده : ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الّجِنِّ وَالأِنسِ وَالطَّيْرِ ... ) (1).
    2. انّه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى أنّه كان يخاطبهم ويتهددهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِين ) (2).
    3. وانّه سُلِّط على الجن فكانوا يعملون بأمره وإرادته :
    1 ـ النمل : 17.
    2 ـ النمل : 20 ـ 21.


(504)
    ( وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءَ ). (1)
    4. وانّه سُلِّط على الريح أيما تسليط : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) . (2)
    وعلى أي تقدير فأية سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي كانت لسليمان ، والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقّق له بأمره.
5. المسيح عليه السَّلام والسلطة الغيبية
    ومثله ما صدر عن عيسى المسيح ( عليه السَّلام ) من تصرّف يكشف عن وجود سلطة خارقة للعادة ، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير ، وينفخ فيه فيكون طيراً يتحرك ويطير ، أو يعالج ما استعصي من الأمراض والعلل دونما آلة أو دواء ، كما يحدّثنا القرآن الكريم ، حيث يقول : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ). (3)
    والجدير بالذكر أنّ اللّه يصرح في آية أُخرى بأنّ هذه التصرفات كانت نتيجة فعل عيسى نفسه ، الكاشف عن سلطته نفسه (وإن كانت مستندة إلى اللّه مآلاً) ، إذ يقول تعالى :
    1 ـ سبأ : 12.
    2 ـ الأنبياء : 81.
    3 ـ آل عمران : 49.


(505)
( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ). (1)
    ولما كان صدور هذه الآيات منه مستنداً إلى اللّه تعالى من غير أن يستقل عيسى بشيء منها كرر جملة « بإذن اللّه » في كل مورد ، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته ، لصدور تلك الآيات منه ، ولأجل ذلك قيّد المسيح كلَّ آية يخبر بها عن نفسه كالخلق وإحياء الموتى ب ـ ( إِذن اللّه ) ثم ختم الكلام في آية أُخرى بقوله : ( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) . (2)
    وظاهر قوله : ( إِنَّي أَخْلُقُ لَكُمْ ) صدور هذه الآيات منه في الخارج ، ولم يكن الهدف منه مجرّد الاحتجاج والتحدّي ، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله : إن سألتم أو أردتم.
    على أنّ ما يحكيه اللّه سبحانه عنه ويخاطبه به يوم القيامة ، يدل على وقوع هذه الآيات أتم دلالة ، حيث قال : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْر بِإِذْني فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى ... ).
    وها هنا يبرز سؤال ، وهو : إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة ، فلماذا لم يقيّده ب ـ « إذن اللّه » كما قيد الآيات الأُخر بهذا القيد ، مع أنّ الإتيان بكلِّ آية من آيات الرسل مقيّد بإذن اللّه سبحانه حيث يقول :
    1 ـ المائدة : 110.
    2 ـ آل عمران : 51.


(506)
    ( وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ؟. (1)
    والإجابة عن هذا السؤال واضحة : فإنّ الإخبار عن ما يأكله الناس ويدّخرونه في بيوتهم ليس كالخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص ، فإنّ القلوب الساذجة تقبل وتتوهم الوهية خالق الطير ومحيي الموتى ومبرئ الأكمه والأبرص بأدنى وسوسة ومغالطة ، بخلاف الوهية من يخبر عن المغيّبات فإنّها لا تذعن لاختصاص الغيب باللّه سبحانه ، بل تعتقده أمراً يناله كلّ مرتاض أو كاهن ، ولأجل ذلك لم ير حاجة إلى تقييده ب ـ « إذن اللّه ». (2)
    سؤال آخر هو : انّ قوله سبحانه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهّيئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ) مشتمل على أُمور :
    1. خلق هيئة الطير من الطين.
    2. النفخ في تلك الهيئة.
    3. صيرورتها طيراً بإذن اللّه.
    وما هو فعل عيسى ( عليه السَّلام ) إنّما هو الأوّلان ، والثالث خارج عن فعله ، بل هو فعل اللّه بقرينة تقييد الثالث بإذن اللّه دون الأوّل والثاني ، وعلى الجملة : للخلق معنيان :
    أ. الإيجاد من العدم.
    ب. التقدير.
    والمتعيّن في المقام هو المعنى الثاني ، والإيجاد من العدم إنّما يتصوّر فيما لم تكن
    1 ـ غافر : 78.
    2 ـ الميزان : 3/218.


(507)
هنا مادة متحولة ، والمفروض وجود « الطين » في المقام ، وما صدر عن عيسى هو « التقدير » ، أعني : تقدير الطين كهيئة الطير ، وبقي الثالث وهو صيرورته طيراً حقيقياً ، فهو فعل اللّه يتحقق بإذنه سبحانه ، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى المسيح ( عليه السَّلام ) .
    أمّا الجواب ، فنقول :
    أوّلاً : أنّا لا نسلم بأنّ قوله تعالى : ( بإذن اللّه ) راجع إلى الأمر الثالث ، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة ، والشاهد عليه أنّه قيّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ). (1)
    وعلى ذلك فلا يدل تقييد الأمر الثالث بإذن اللّه على أنّ الأمرين الأوّلين فعل عيسيعليه السَّلام والأمر الثالث فعل اللّه سبحانه ، بل الكلّ فعله ( عليه السَّلام ) من جهة ، وفعل اللّه من جهة أُخرى.
    وثانياً : لو سلمنا بذلك التكلّف في خلق الطير ، فماذا يمكن أن يقال في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، التي هي من أفعال اللّه ، كصيرورة الطين طيراً ، فقد نسبه اللّه إلى نفسه ، وقال : ( وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِاللّهِ ) (2) حتى أنّ اللّه سبحانه نسبها إلى المسيح وخاطبه بها وقال : ( وَتُبْرئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إذْتُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ). (3)
    1 ـ المائدة : 110.
    2 ـ آل عمران : 49.
    3 ـ المائدة : 110.


(508)
    على أنّ اللّه يصف طائفة من ملائكته أيضاً بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنّه : ( شَدِيدُ الْقُوَى ) . (1).
    أي قواه العلمية كلّها شديدة فيعلم ويعمل (2) وكيف لا يكون ذا قوة وقد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، ومن شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى هلكوا (3) ولو كان المراد من شديد القوى هو جبرئيل ، فقد وصفه اللّه في موضع آخر بقوله : ( ذِي قُوَّة عِنْدَ ذِي الْعَرشِ مَكِين ) (4) ، ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذنه سبحانه على الكون.
    وهل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد اللّه وأوليائه ، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بالوهيته لزم أن يكون جميع هؤلاء : آلهة من وجهة نظر القرآن ، بل لا بد من القول بأنّ تحصيل مثل هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين ـ حتى غير الأنبياء ـ عن طريق العبادة.
    فالعبادة التي يتصور أغلبية الناس أنّ آثارها تنحصر في جلب رضاء اللّه ، ودفع غضبه فقط ، تمنح الروح قدرة عظيمة ، وبعداً أعمق من ذلك.
    فالعبادة ذات تأثير جد عظيم في الباطن ، والروح.
    إذ الانتهاء عن المحرمات ، والمكروهات ، والتزام الواجبات والمستحبات ، والإخلاص فيها ذات أثر عظيم ، وعميق ، في تقوية الروح ، وتجهيزها بقدرة خاصة
    1 ـ النجم : 5.
    2 ـ مجمع البيان : 5/173.
    3 ـ مفاتيح الغيب للرازي : 7/702.
    4 ـ التكوير : 20.


(509)
خارقة للقوانين والسنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.
    وهذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها : ما روي في الحديث القدسي عن قوله تعالى :
    « ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، وانّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ». (1).
    فالحق : أنّ السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرفوا في الكون بإذنه ومشيئته ، ويخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بالإلوهية ، ولا يكون صاحبها نداً وشريكاً للّه تعالى.
    نعم ، الاعتقاد بالسلطة الغيبية « المستقلّة » من دون أن تكون مستندة إليه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالإلوهية ، وقد قال سبحانه في هذا الصدد : ( وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِي بِ آيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (2).
    1 ـ أُصول الكافي : 1/352. روى هذا الحديث بإسناد صحيح ، وظهور الرواية في أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة مما لا ينكر واحتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد يكون محفوفاً برضا اللّه سبحانه ، وانّه لا يفعل ولا يترك إلاّ ما فيه رضاه ، احتمال مرجوح جداً ، فإنّ الحركة على طبق رضاه طيلة الحياة ، ليست أثر خصوص فعل الصلوات فرائضها ونوافلها ، بل هي قبل كل شيء إثر الإيمان باللّه وثوابه وعقابه ، لا الإقبال على الفرائض والنوافل ، ولو كان لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم والحج والجهاد ، تأثير أيضاً فلماذا لم يذكرها.
    فعلم أنّ للصلاة فريضتها ونافلتها ، تأثيراً في تقوية النفس والروح ورفعها إلى حد يقدر معه الإنسان ، على أن يكون مظهراً للّه سبحانه في بصره وسمعه ، وبطشه وتكلمه ، فيبصر ببصره ، ويسمع بسمعه ، ما لا يبصر ولا يسمع بغيره.
    2 ـ الرعد : 38.


(510)
كلام آخر للمودودي
    يصف المودودي عقائد الجاهليين ، ويقول :
    كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية ذلك الإله الأعلى ، وانّ كلمتهم تتلقّى بالقبول ، وإنّه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ، ونستدر النفع ، ونتجنب المضار باستشفاعهم. (1).
    ويرد عليه أنّ ما صور به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة « بأنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في إلوهية الإله الأعلى » يحتاج إلى التوضيح ، فإنّ تدخل الغير في شؤونه سبحانه على قسمين :
    الأوّل : بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم وأعمالهم ، وهذا يوجب الشرك ، وكون المتدخل إلهاً ، والتوجّه إليه عبادة.
    الثاني : التدخل والنفوذ بإذنه سبحانه ، وأمره ، فلا نسلم بطلانه ، وليس الاعتقاد به شركاً ، والطلب عبادة ، كيف و القرآن يصرّح بأنّ الملائكة تدبّر الأُمور الكونية ، إذ يقول : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) . (2).
    وانّهم هم الذين يقبضون الأرواح ويهلكون الأُمم العاصية ، إذ يقول عن لسان الملائكة : ( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوط * ... فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا ). (3).
    1 ـ المصطلحات الأربعة : 19.
    2 ـ النازعات : 6.
    3 ـ هود : 70 و 82.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس