مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 651 ـ 660
(651)
    وعلى أي حال فلابد من دولة توقف الناس على وظائفهم القانونية ، وتعاقب المخالفين المتجاوزين ، وتعيد الحقوق المهضمومة إلى ذويها ، وتصون النظام والانضباط الاجتماعي الذي يمثل قاعدة السعادة ورمز بقاء المدنية ، وأساس استمرار الحضارة وسبب تقدم البشرية في المجالات المادية والمعنوية.
    وخلاصة القول : إنّ حفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ، ومالهم وما عليهم من الحقوق ، ورفع أي نزاع وتصارع في حياة الجماعة أُمور تحتاج إلى : مرجع قوي يقوم بهذه المهام الضخمة ، وهذا الواجب الإنساني الشريف ويحفظ بالتالي أساس الحضارة الذي هو حفظ النظام الاجتماعي وصيانته من التقهقر والانحطاط.
    إنّ حقيقة الإسلام ليست إلاّ سلسلة من « الأُصول والفروع » المنزلة من جانب اللّه والتي كلَّف رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة ، ولكن حيث إنّ تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرار النظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة ، لذلك أقدم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بحكم العقل ، وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل اللّه ، على تشكيل دولة.
    على أنّ الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا ، وحيث إنّ هذه الأُمور لا تتحقق دون أجهزة سياسية ، وسلطات حكومية لذلك قام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة.
    والخلاصة : أنّ إجراء حد السرقة والزنا على السارق والزاني ، وتنفيذ سائر الحدود والعقوبات ، ومعالجة مشاكل المسلمين ، وتسوية نزاعاتهم في الأُمور المالية


(652)
والحقوقية ، ومنع الاحتكار والغلاء ، وجمع الضرائب المالية الإسلامية وتوسيع رقعة انتشار الإسلام ، ورفع الاحتياجات الأُخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها ، لا يمكن أن تتحقق دون وجود أمير جامع وزعيم حازم وبدون حكومة ، وزعامة مقبولة لدى الأُمّة.
    وحيث يتوجب على المسلمين الآن أن يطبقوا الأحكام الإسلامية بحذافيرها من جانب ، وحيث إنّ تطبيقها على الوجه الصحيح لا يمكن دون تأسيس سلطة يخضع لها الجميع من جانب آخر ، لهذا كله يتحتم أن تكون لهم أجهزة سياسية وتشكيلات حكومية ، في إطار التعاليم والقيم الإسلامية ليستطيعوا بها أن يتقدّموا ـ في كل عصر ـ جنباً إلى جنب مع المتطلبات المستحدثة والاحتياجات المتجدّدة.
    لقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) إلى ضرورة تكوين مثل هذه الحكومة بل إلى ضرورة وجود حاكم ما مرجحاً الحاكم الجائر على الفوضى الاجتماعية والهرج والمرج الذي يستتبعه عدم وجود حاكم ، وأشار في نفس الوقت إلى أنّ الحكومة في منطق الإسلام ليست هي الهدف ، بل هي وسيلة لاستقرار حياة كريمة آمنة حتى يتمتع كل فرد بحقوقه العادلة.
    لقد أشار الإمام علي إلى أنّ الدولة ـ في نظر الإسلام ـ وسيلة لحفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين ، إذ يقول :
    « إنّه لابد للناس من أمير ، بر أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ اللّه فيها الأجل ، ويجمع الفيء ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي ».
    وفي رواية أُخرى قال :


(653)
    « أمّا الإمرة البرة فيعمل فيها التقي ، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي ، إلى أن تنقطع مدته ، وتدركه منيته » (1).
    وعلى هذا البيان يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منها.
    أضف إلى ذلك أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كلّف بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم بأن ينصّب علياً خليفة من بعده لإمرة المسلمين ، من جانب اللّه ، وكان الأمر الإلهي مصدراً بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) . (2).
    ثم يجسد اللّه أهمية هذا الموضوع وخطورته القصوى بأنّ عدم إبلاغ ما أُوحي إليه في أمر الخلافة يساوي عدم إبلاغ الشريعة رأساً ، إذ قال تعالى : ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ). (3).
    إنّ هذه الآية كما تدلّ على مقام الإمام وعظيم مكانته تكشف ـ كذلك ـ عن أهمية مقام الإمامة وخطورة قيادة المجتمع ، لأنّه بسبب الإمام القائد تشرق أشعة العدالة على المجتمع البشري ولا تغيب ، وهو الذي بسببه تبقى التعاليم الإلهية حية مصانة من كل تحريف ، وبسببه تصل البشرية إلى شواطئ السعادة المادية والمعنوية على السواء.

الآثار السيئة لفقدان القائد
    لقد بلغ الإسلام في حرب أحد أخطر مراحله ، حيث عمد العدو إلى بث
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 39.
    2 ـ المائدة : 67.
    3 ـ المائدة : 66.


(654)
الشائعات عن مقتل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وفي هذه اللحظة الحساسة التي شعر المسلمون فيها بفقدان الزعيم والقائد ، خطرت في أذهان البعض فكرة العودة إلى الجاهلية والارتداد على الأعقاب ، وراح هذا البعض يقول : لِمَ نحارب وقد مات رسول اللّه ، فنزل القرآن يوبّخ من لهج بهذه الكلمة ، وقال : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1).
    ولو أنّ شائعة مقتل النبي لم تكذب بظهوره ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عند أصحابه ، لآل نظام المسلمين إلى التمزّق حتماً ، ولانتهى الأمر بمقتل فريق وفرار آخرين في أسوأ نكسة عرفها التاريخ ، فهل من الصحيح أن تهمل مسألة القيادة وهي بهذه الدرجة من الخطورة والأهمية في حياة الشعوب؟
    وهل من الصحيح أن لا يقدم المسلمون على إيجادها لتنظيم حياتهم لكي يستتب الأمن والسلام؟

الاقتداء بسيرة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم )
    كان الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إذا بعث سرية إلى الجهاد عيّن أُمراء متعددين لتلك السرية يتوالون على قيادتها ، لكي لا تبقى دون آمر إذا أُصيب أحدهم ، فتصبح كالقطيع بلا راع تنال الذئاب من أطرافها ، وتتخطفها أيدي المخاطر من جوانبها.
    ولمّا كان القرآن الكريم يأمرنا باتّباع سيرة الرسول والاقتداء به وجعله قدوة وأُسوة ، فيقول :
    1 ـ آل عمران : 144.

(655)
    ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ). (1).
    توجب علينا أن نجعل حياة النبي وفعله أُسوة لنا حتى في موضوع تأسيس الدولة.
    ولقد أدرك المسلمون ـ بعد وفاة النبي ـ ضرورة وجود قائد للأُمّة ، وإمام للمسلمين ، فاتفقوا على وجود زعيم لهم بعد وفاة نبيهم ، فصاروا فرقتين : فرقة تزعم أنّ حل هذه المشكلة بيد الأُمّة وأنّ لها تنصيب من يشغل هذه المنصة ، في حين أنّ فريقاً آخر راح يستمد من نصوص النبي ويقول إنّ النبي قد سد هذا الفراغ ولم يهمل أمر الخلافة والقيادة ، وعين القائد والخليفة من بعده ، وبالتالي لم يكن بين المسلمين واحد ينكر ضرورة وجود الأمير والقائد.
    وانطلاقاً من الأهمية التي تكمن في تأثير الحكومة في إصلاح أمر الناس عاجلاً وآجلاً قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) في حديث مقتضب له :
    « لا يستغني أهل كل بلد من ثلاثة ، يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خيّر مطاع ، وطبيب بصير ثقة ». (2)
    كما صرح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) بهذه الفريضة الدينية في إحدى خطبه ، إذ قال :
    « والواجب في حكم اللّه والإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم ، أو حرام الدم أن
    1 ـ الأحزاب : 21.
    2 ـ تحف العقول : 237.


(656)
لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم ، عفيفاً عالماً ، ورعاً ، عارفاً بالقضاء والسنّة ، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم يحفظ أطرافهم ، ويجبي فيئهم ، ويقيم حجتهم ، ويجبي صدقاتهم ».
    يبقى أن نعرف أنّ هذا القانون الكلي الذي يذكره الإمام علي يرتبط بالفترة التي لم يسد هذا الفراغ من جانب اللّه ، وتنصيب النبي الأعظم ، إذ لو كان القائد معيناً من جانبه سبحانه لانتفى التكليف بانتخاب الإمام ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ). (1)
    وعلى كل حال فالضرورة قاضية بلزوم وجود قائد للناس يتحمل أعباء الحكومة ، ويتصدى لأُمور الزعامة ، وإدارة المجتمع ، حسب الطرق الصحيحة.

الولاية والحاكمية للّه سبحانه
    لقد أثبت البحث السابق لزوم وجود الحكومة في المجتمع البشري بالمعنى الجامع بين السلطة التشريعية التي لها حق التشريع والتقنين ، والسلطة التنفيذية التي لها حق تنفيذ الأحكام والمقررات ، والسلطة القضائية التي لها حق القضاء وفصل الخصومات بين الناس.
    ومن المعلوم جداً أنّ إعمال الحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في النفوس والأموال وتنظيم الحريات من غير فرق بين أن تكون الحكومة بيد الفرد أو المجتمع.
    1 ـ الأحزاب : 36.

(657)
    لكن التسلط على الأموال والنفوس وإيجاد أي محدودية مشروعة بين الأُمّة يحتاج إلى ولاية بالنسبة ، إلى المسلّط عليهم ، ولولا ذلك لعدّ التصرف تصرفاً عدوانياً.
    ولا نعني بالولاية هنا ولاية الولي بالنسبة إلى الأيتام والقصّر والغيب ، بل المقصود هو الولاية التي يحق معها أن يتصرف في شؤون المجتمع نفوساً وأموالاً وينظم أُمورهم ويعمّر بلادهم ويؤمن مجتمعهم ، بالسلطات الثلاث ولولا ذلك لصار النظام طاغوتياً يحكم في المجتمع من كان غالباً وقاهراً فيجب علينا أن نعرف من له الولاية أصالة على العباد والبلاد.
    وبما أنّ جميع الناس سواسية أمام اللّه ، والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئاً حتى وجوده وفعله وفكره ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة ، بل الولاية للّه المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما يقول سبحانه : ( هُنَالِكَ الْولاَيَةُ للّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) (1). (2)
    فقد ظهر من هذا البيان أنّ المقصود من حصر الحاكمية في اللّه هو حصر جذور الحاكمية وعللها المستتبعة لها ، وهي الولاية فيه ، فبما أنّ الولاية على العباد منحصرة في خالقهم فالحاكمية بمعنى الولاية منحصرة فيه سبحانه أيضاً ، فلا يجوز لأحد أن يتولّى الحكومة إلاّ أن يكون مأذوناً ممن له الولاية الحقيقية وإلاّ
    1 ـ الكهف : 44.
    2 ـ مجمع البيان : 3/472. والاستدلال بالآية على انحصار الولاية في اللّه سبحانه متفرع على أن يكون اسم الإشارة (هنالك) إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن في هذه الدنيا وأن تكون الولاية بمعنى تولّي الأُمور فهو الذي يتولّى أمر عباده ، وللأمين الطبرسي تحقيق حول كلمة الولاية في الآية فراجع.


(658)
أصبحت حكومته حكومة جور وعدوان.
    ولا نعني من عنوان « انحصار حق الحاكمية في اللّه » حصر الإمرة في اللّه بأن يتولّي هو سبحانه الإمرة على العباد ، كما سيتضح ذلك ، فإنّ للأنبياء والصلحاء وكل مأذون من قبله سبحانه أن يتولى الإمرة من جانب اللّه ، بل المراد أنّ الولاية وحق الحكومة بالأصالة حق للّه سبحانه وإنّما يتصدى غيره بإذنه ، وذلك مثل قوله : ( قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) ، أي بيده أمر الشفاعة من تعيين الشافع والمشفوع له ، ومثله المقام فإنّ بيده زمام الحكومة ، فهو يعين الحاكم ويعين له وظائفه وكيفية حكمه.
    وعلى هذا فالحاكمية خاصة باللّه تعالى ومنحصرة فيه ، وهي من إحدى مراتب التوحيد.
    ولقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله : ( إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ للّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) . (2)
    إنّ المراد من الحكم في جملة ( إِنِ الْحُكْمُ ) هو الحاكمية القانونية التي تنبعث من الولاية الحقيقية المنبعثة من خالقيته ومالكيته سبحانه لا الحاكمية التكوينية بمعنى التصرف في الكون بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ، وقد أوضحنا مفاد الآية في الفصل العاشر فراجع ص 606.
    نعم لا داعي لأن نحصر لفظة « الحكم » التي لها معنى وسيع في خصوص
    1 ـ الزمر : 44.
    2 ـ يوسف : 40.


(659)
« القضاء » أو في خصوص « التشريع والتقنين » ، بل الحكم في هذه الآية ذو مدلول أوسع يكون « القضاء » من إحدى شؤونه ، وما ذلك المعنى إلاّ السلطة والإمرة والحاكمية بمفهومها الوسيع التي تقوم بالسلطات الثلاث.
    هذا وفي مقدور القارئ الكريم أن يستظهر هذه الحقيقة ، ونعني : انحصار الحاكمية في اللّه تعالى ، من آيات أُخرى أيضاً غير ما ذكرناه في مطلع هذا المبحث ، مثل قوله : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ) (1)
    ( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (2)
    ( لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3)

الولاية للّه سبحانه لا الإمرة والإدارة
    إنّ اختصاص حق الحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه بإدارة البلاد وإقرار النظام وممارسة الإمرة وفصل الخصومة إلى غير ذلك مما يدور عليه أمر الحكومة ، فإنّ ذلك غير معقول ولا محتمل ، بل المراد أنّ من يمثّل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور والتصرف في النفوس والأموال وأن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ، ومنبثقة منها ، ولولا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل.
    وإن شئت قلت : إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية
    1 ـ الأنعام : 57.
    2 ـ الأنعام : 62.
    3 ـ القصص : 70.


(660)
في اللّه سبحانه ، لا حصر الإمرة والتصدي لنظام البلاد وإقرار الأمن في المجتمع البشري ، إلى غير ذلك من الشؤون.
    نعم لا مناص في إعمال الولاية للّه سبحانه من تنصيب من يباشر إدارة البلاد ، إذ تستحيل ممارسة الحكم للّه بصورة مباشرة.
    ولأجل ذلك نجد أُمّة كبيرة من جنس البشر تولّوا منصة الولاية من جانب اللّه سبحانه وإذنه الخاص يديرون شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان ، وفي ذلك يخاطب اللّه نبيه داود ويقول : ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) . (1)
    إنّ الآية وإن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء ولكن نفوذ قضائه في زمانه كان ناشئاً عن ولايته وحاكميته الواسعة التي تشمل الحكم والإمرة بحيث يكون نفوذ القضاء من لوازمها وفروعها ، فهو سبحانه لم ينصبه للقضاء فحسب ، بل أعطى له الحكومة الواسعة بأبعادها ، لأنّ نفوذ حكم القاضي غير ممكن من دون أن تكون له سلطة وحاكمية ، ولم يكن القضاء في تلكم الأعصار منفصلاً عن سائر شؤون الحكومة كما هو الرائج في عصرنا وقد كان داود ( عليه السَّلام ) يتمتع بسلطة تامة واسعة تشمل التنفيذية والتشريعية ـ بمعنى بيان الأحكام عن طريق الوحي ـ والقضائية إذ يقول عنه القرآن : ( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَفَسَدَتِ الأرْضُ ). (2)
    1 ـ ص : 26.
    2 ـ البقرة : 251.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس