|
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 1 ـ 10 |
|
مفاهيم القرآن
الجزء السادس
يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه
في القرآن الكريم
تأليف
جعفر السبحاني
نشر ـ مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام )
(3)
الحمد للّه الذي بطن خفيّات الاُمور ، و دلّت عليه أعلام الظهور ، و امتنع على عين البصير ، فلاعين من لم يره تُنكره ، و لاقلبُ من أَثْبَتَهُ يُبصره ، سبق في العلوّ فلاشيء أعلى منه ، و قرب في الدنوّ فلاشيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، و لاقربه ساواهم في المكان به ، لم يطلع العقول على تحديد صفته ، و لم يحجبها عن واجب معرفته ، و هو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به و الجاحدون له علوّاً كبيراً (1).
نفتتح هذا الجزء ( السادس ) من أجزاء موسوعتنا « مفاهيم القرآن الكريم » بهذه الخطبة المباركة ، المنقولة عن أمير البيان و البلاغة ، و سيد الموحّدين و قدوة العارفين ، و فيها براعة استهلال لما نرومه في هذا الجزء ، و هو البحث عن أسمائه وصفاته و إثباتها له سبحانه في عين التنزيه ، و تنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان مع التوصيف.
1 ـ اقتباس من خطبة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( نهج البلاغة ، الخطبة 49 ).
(4)
إنّ البحث عن أسمائه و صفاته سبحانه من أجلّ المعارف القرآنية التي لم تبلغها عقول ذوي الأفكار و لم تحم حولها أعين ذوي الإعتبار نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، تفسيراً لأسمائه و صفاته في ضوء القرآن الكريم و في إطار التفسير الموضوعي ، و نشكره سبحانه على توفيقه للغور في هذه المباحث الدقيقة ، و الإغتراف من هذه البحار العذبة إنّه حميد مجيد.
قم ـ مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام )
جعفر السبحاني
18 صفر المظفّر 1412
(5)
إنّ النظرة الفاحصة إلى المجتمع البشري تكشف من أنّ الإلهيين يشكّلون الأكثرية الساحقة من الاُمم و الشعوب ، و هم الذين يعتقدون بوجود مبدأ أعلى للعالم وراء المادة و تخالفهم شرذمة قليلة تنكر ذلك بل تنكر كلّ ماوراء الطبيعة ، و إنّما وصفناهم ـ بالقلّة ـ مع انّهم يشكلّون جماعة كبيرة في العالم ، و يسمّونها معسكر الشرق بفئاته المختلفة ، لأنّ ذلك المعسكر قد فرض على تلك الشعوب الالحاد و الماديّة ، بحيث لو ارتفع الضغط لترى كيف خالط الإيمان ضميرهم ، و أنّهم ما برحوا على صلة وثيقة بالدين بفطرتهم ، و لو تظاهروا بالماديّة ، فإنما يتظاهرون تحت ضغط القوى المسيطرة عليهم التي ألجأتهم إلى ذلك. (1)
و قد كان المتوقع من الإلهيين أن يشكلّوا صفاً واحداً و أن لايختلفوا في ما يتعلّق بالمبدأ إلاّ أنّهم ـ مع الأسف ـ إختلفوا في أبسط المسائل فضلاً عن العميقة منها ، و تفرقوا إلى مذاهب و شيع ، و السبب الأساسي ـ لهذا الإختلاف هو تنازعهم في أسمائه سبحانه و صفاته و أفعاله ، و هذا هو المنشأ الحقيقي لإفتراق الالهيين و ظهور الديانات و المذاهب في المجتمع الإلهي.
1.ترى أنّ غوربا تشوف لمّا منح الحرّية النسبية لشعب الاتّحاد السوفيتي ارتفعت من جديد أصوات المآذن في أجواء ذلك البلد ، وأقبل الناس حتّى الشباب منهم على القضايا الدينية ، حتّى انّ وكالات الأنباء نقلت أخباراً عن بناء مساجد جديدة ، وقيام اجتماعات دينية واسعة ، والمطالبة بمنح المزيد من الحرّيات الدينية والاعتقادية.
(6)
الثنوية بعد تسليمها بوجوده سبحانه تميّزت عن سائرالإلهيين بإنكار صفة من صفاته سبحانه أعني التوحيد فهم بين ثنوي في الذات و ثنوي في الفعل ، فتارة يصور للعالم مبدءً غير واحد و هذا هو الثنوي في الذات ، و اُخرى يوحّد المبدأ و يقول بإله واحد و لكنه يفترض استقلالاً للمخلوقات فى البقاء دون الحدوث ، و ثالثة تفترض الاستقلال في الفعل و الايجاد كمن زعم أنّ وجود الممكنات قائم باللّه لكنّها مستقلاّت في أفعالها ، غير محتاجات إلى الإله في الإيجاد و الإبداع ، و على كلّ تقدير فهم يمتازون عن سائر الفرق في وصفه سبحانه و هو كونه واحداً في الذات لاشريك له فيها كما هو واحد في الفعل لاموجد غيره ، و لو كان هناك إيجاد منسوب إلى غيره فإنّما هو بارادته و مشيئته و حوله و قوّته.
و الثنوية بالمعنى الأوّل هي السائدة في الديار الهنديّة و الصينيّة و شائعة بين البراهمة و البوذيين و الهندوس ، كما أنّ الثنوية بالمعنى الثاني ذائعة بين القائلين بالتفويض ، و انّه سبحانه فوّض امر الخليقة إلى جماعة مخصوصة أو فوّض أمر الإنسان إلى نفسه فهو يقوم بالفعل بلااستعانة ، فالإنسان محتاج في ذاته دون فعله ، و لو أنّ الطائفتين درسوا التوحيد على ما هو عليه و ميّزوا بين الممكن و الواجب لاتّحدت الصفوف و تراصّت.
و المسيحية و إن افترقت إلى يعقوبيّة و إلى نسطورية و إلى ملكانيّة لكن الكلّ متمسّكون بالتثليث أي تصوير اله العالم الواحد بصور ثلاث « الالهالأب » و « الالهالإبن » و « روحالقدس » و بذلك نزّلوا الإله القدّوس إلى عالم المادة حتى جسّدوه في المسيح الذي صلب ليخلّص الناس من « عقدة الإثم » الذي ورثوه من أبيهم آدم و لو أنّ القوم فقهوا توحيده سبحانه ، لتقاربت الخطى و قلّ التباعد ، يقول سبحانه ـ و يأمر نبيّه أن يتلو عليهم قوله ـ : ( قُلْ هُوَ اللّهُ اَحَد * اَللّهُ الصَّمَدُ * لَمْيَلِدْ وَ لَمْيُولَدْ * وَ لَمْيَكُنْ لَهُ كُفُواً اَحَدٌ ).
(7)
و المسلمون تفرّقوا إلى طوائف و شعوب و جلّ اختلافهم يرجع إلى أسمائه سبحانه و صفاته و أفعاله.
فالعدليه منهم يصرّون على تنزيهه و توحيده و هم « المعتزلة » و « الإمامية » و « الزيدية » بفرقهم المختلفة ، فاللّه سبحانه عندهم ليس بجسم و لاجسماني لاتحيطه جهة و لامكان ليس بجوهر و لاعرض إلى غير ذلك من الصفات الجلاليّة كما أنّه سبحانه عندهم حكيم لايصدر عنه قبيح ، لايظلم و لايجوز عليه الظلم و إن كان قادراًعليه.
و لكن « أهل الحديث » و « و الحنابلة » لابتعادهم عن البحوث العقلية ، وقعوا في مهالك التجسيم و التشبيه ، و تجويز نسبة القبيح إليه سبحانه بحجّة أنّه ليس للعبد فرض شىء على اللّه سبحانه ، فله الحكم و له المشية ، و قد أصبحت الدعوة السلفيّة شعاراً لمن يريد التخلّص من مخالب الإختلاف ، و الإبتعاد عن التفكّر و التدبّر في المعارف.
و صفوة القول : إنّك إذا لاحظت الكتب الكلامية تقف على أنّ اُصول الاختلاف في الديانات و المذاهب ترجع إلى اختلافهم في أسمائه و صفاته و أفعاله و شئونه فهذا هو الذي أوجد مدارس كلاميّة شتّى و اتجاهات متغايرة بين الالهيين فلازم علينا ان ندرس هذا الجانب دراسة موضوعيّة دون تحيّز إلى فئة دون فئة.
الإنسان محبوس في إطار المادّة و الماديات ، ولابث بين جدران الزمان و المكان ، يأنس بالتعرف على الأشياء عن طريق التشبيه و المحاكاة ، فيصعب عليه تصوّر موجود ليس له جسم ، و ليس له جهة و لامكان ، و لايحوطه زمان و لايوصف بالكيف و الكم ، ّ فلأجل ذلك نرى كثيراً من الالهيين لاينفكّون عن تشبيه ماوراء الطبيعة بما فيها ، و كأنّ تفكيرهم أصبح أسير المادة و الجسمانية و قلّ من نجى من مخاطر التشبيه ، و مخالب التجسيم.
(8)
يقول العلاّمة الطباطبائي :
« إنّ مزاولة الإنسان للحسّ و المحسوس مدى حياته و انكبابه على المادة ، عوّده أن يمثّل كلّ ما يتعقّله و يتصوّره تمثيلاً حسّياً ، و إن كان المتصوّرةُ المعقول لاطريق للحسّ و الخيال إليه البتة ، كالكلّيات و الحقائق المنزّهة عن المادّة. على أنّ الإنسان إنّما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس و التخيل فهو أنيس الحسّ و أليف الخيال ، فقد قضت العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربه صوراً خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور المادية الحسّية و قلَّ أن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة و الكبرياء و نفسه خالية عن هذه المحاكاة (1).
هذا هو الأصل الذي توحي إليه ظروف الحياة و ملابسات الإدراك و الناس أمام هذا الاصل على طوائف نشيرإلى الأركان منها :
1 ـ « المشبّهة »
إنّ البسطاء من المجتمع الإنساني الذين سادت عليهم ظروف الحياة و ليست لهم قدرة عقليّة كافية للتخلّص عمّا تفرض عليهم تلك الملابسات ، بنوا عقائدهم الدينيّة على هذا الأساس فلاينفكّون عن وصفه سبحانه تشبيهاً و تجسيماً فيقولون إنّ له جسماً و إنّه على صورة إنسان ، و له لحم و دم و شعر و عظم ، و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و رأس و عينين ، وانّ له وفرة سوداء وله شعر قطط ، غير أنّ بعضهم أراد التظاهر بالتنزيه بأقلّ ما يمكن فقال : « اعفوني عن الفرج و اللحية ، و اسئلوني عما وراء ذلك » (2).
فهذه هي المجسّمة و المشبّهة لايتورّعون عن وصفه بكلّ ما توحي إليهم القوّة الخيالية الأسيرة لعالم الحسّ و المادّة.
1 ـ الميزان ج 10 ص 273.
2 ـ الملل و النحل ج 1 ص 100 ـ 104.
(9)
2 ـ المعطّلة (1)
و هناك طائفة اُخرى عطلوا العقول عن الوصول إلى المعارف نتيجة كون الإنسان يعيش في عالم الطبيعة و قد تطبّع تفكيره على الماديّات و المحسوسات فلايمكنه إدراك ماوراء ذلك فلابد من التوقف و تعطيل العقول. و هم الذين يقولون : إنّ كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه (2).
و قد بنيت الدعوة السلفية في العصور السابقة و اللاحقة على هذا الأساس وكأنّ القرآن نزل للتلاوة و القراءة دون التفكّر و الامعان و التدبّر.
مع أنّه سبحانه يقول : ( اَفَلا يَتَدَبَروُنَ الْقُرْآنَ اَمْ عَلى قُلُوب اَقْفالُها ) ( محمد/24 ).
و يقول : ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْك مُبارَكٌ لِيَدَّبَّروُا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوألاَْلْبابِ ) ( ص/29 ).
و العجب انّ بعض هؤلاء يتفلسف قائلاً إنّما اُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية فمن شغل ما اعطى لإقامة العبودية بإدراك الربوبيّة ، فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية (3).
و القائل بهذا الكلام يفسّر العبوديّة بالقيام و القعود و الامساك و الصيام التي هي من واجبات الأعضاء و لكنّنا نقول لهم : إنّ العبوديّة تقوم على ركنين ركن منه يرجع إلى فرائض الأعضاء و واجباتها ، و ركن آخر يرجع إلى العقل و اللب ، ّ فتعطيل العقول عن معرفة المعبود بالمقدار الذى يستطيع الإنسان الوصول إليه ، تعطيل لاقامة العبودية أو لجزئها.
1 ـ « المعطّلة » لقب المعتزلة في كتب الأشاعرة لتعطيلهم الذات عن التوصيف بالصفات غير أنّها لاتتناسب مع عقيدتهم ، و الحق إنّ المعطّلة هم الذين وصفناهم هنا.
2 ـ الرسائل الكبرى : لابن تيمية ج 1 ص 32 ـ نقله عن سفيان بن عيينة.
3 ـ علاقة الاثبات و التفويض نقلا عن الحجّة في بيان المحجّة ص 33.
(10)
ولو اقتصر الإنسان في إقامة العبوديّة بالقيام و القعود من دون ادراك للمعبود بصفات الجمال و الجلال و لما هناك من أسماء و صفات; لكانت عبوديّته كعبوديّة الحيوان و النبات و الجماد ، فهؤلاء أيضا يقومون بواجبهم الجسماني بل ربّما تكون عبوديته أنزل من عبوديتهم كيف و قد قال سبحانه :
( وَ اِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاَْنْهارُ وَ اِنَّ مِنْها لَما يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ اِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ ما اللّهُ بِغافِل عَمّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة /74 ).
فالحجر يستشعر بعظمته سبحانه حسب مقدرته ، و لكن الإنسان تفرض عليه تلاوة كتابه سبحانه و السكوت ثم السكوت عليه؟
إنّ الدعوة السلفية التي عادت إلى الساحة الاسلامية من جديد مبنية على هذا الأساس ، و هؤلاء و إن كانوا لايقرّون بالتشبيه و التجسيم بملئ أفواههم و ألسنتهم ، و لكنّهم لايفترقون عن المشبهة إلاّ في التصريح و التلميح.
قال ابن خزيمة : إنما نثبت للّه ما اثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا و نصدّق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين (1).
قال ابن قدامة المقدسي : « و على هذا درج السلف و الخلف فهم متّفقون على الإقرار و الإمرار و الإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله و سنّة رسوله من غير تعرّض لتأويله (2).
قال ابن تيمية ـ مثيرالدعوة السفلية بعد اندراسها ـ : إنّ لله يدين مختصّتينبه ، ذاتيتين له كما يليق بجماله ، و إنّه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة و إبليس و إنّه سبحانه يقبض الأرض و يطوي السماء بيده اليمنى (3).
يقول الخطّابي : « و ليس اليد عندنا الجارحة و إنّما هي صفة جاء بها التوقيف
1 ـ علاقة الاثبات و التفويض ص 58.
2 ـ نفس المصدر ص 59.
3 ـ نفس المصدر ص 59.
|
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس |
|