و نحن نطلقها على ما جاء و لانكيّفها » (1).
هذه العبارات و نظائرها التي ملأ بها مؤلّف « علاقة الاثبات و التفويض » كتابه المنشور في مهد الدعوة السلفية ، ترمي إلى أحد الأمرين : إمّا التجسيم و التشبيه و إمّا تعطيل العقول عن معرفة الكتاب العزيز ، فانّ اليد و الوجه و الرجل موضوعات في اللّغة العربية للأعضاء الخاصّة ، فإن اُريد منها المعنى الحقيقي و هو الذي يطلق عليه المعنى الكيفي ، فيلزم التشبيه ، و إن اطلق عليه بلاهذا القيد ، فيلزم التأويل ، و هم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك ، فإنّ القول بأنّ له سبحانه وجهاً بلاكيف مهزلة و شعار خادع ، إذ ليس هما معنى ثالث تلتجىء إليه السلفية فالأمر يدور بين اثنين ، و ثالثهما غير متصوّر. 1 ـ اليد بما له من الكيفيّة الخاصّة فيلزم منه التشبيه. 2 ـ تأويله بالمعنى المجازي فيكون كناية عن القوّة و القدرة. و أمّا الثالث أعني الوجه بلاكيف ، فهو أشبه بأسد لاذنب له و لارأس ولا ...
فإنّ واقعية اليد قائمة بكيفيّتها ، فسلب الكيفية سلب لحقيقتها ، فلا يمكن حفظ أصله و رفض كيفيّته ، فحذف الكيفيّة يلازم حذف أصل المعنى فقوامه بكيفيتها و عماده و سناده نفس هوّيتها الخارجية. و أظن ـ وظن الألمعي صواب ـ : إنّ هؤلاء هم المشبّهة و المجسّمة ولكنّهم يخجلون من التفوّه بالتجسيم فيأتون به في قوالب خدّاعة ، و عبارات معقّدة ، أو أنّهم هم المعطّلة فإنّ امرار الصفات و اثباتها على حسب ما جاء في الكتاب بلا توضيح لما يراد منه ، نفس التعطيل أي تعطيل العقول عن المعارف ، فهم بين مجسّمة تخفي عقيدتها ، أو معطّلة لاتريد الرقي من سلّم المعارف درجة ، فتكتفي بالألفاظ ولقلقة اللسان.
1 ـ فتح الباري ج 13 ص 417.
(12)
و بذلك تقف على قيمة ما روي عن الامام مالك عند ما سئل عن معنى قوله سبحانه ( الرحمن على العرش استوى ) فقال الاستواء معروف ، و الكيفيّة مجهولة ، و السؤال بدعة ، و الإيمان به واجب (1). و لاأدري كيف جمع بين قوله « الاستواء معلوم » و « الكيفيّة مجهولة » إذ ليس للاستواء إلاّ معنى واحد و كيفيته هو حقيقته ، فلو جُهلت الكيفية ، جُهل الأصل فلامعنى للاستواء ( و هم يفسّرونه بالجلوس و الاستقرار لابالاستيلاء و الاستعلاء ) مع القول بجهالة الكيفية فإنّ الكيفيّة و الحقيقة متساويتان. أضف إلى ذلك أنّه لم يعلم وجه قوله : « و إنّ السؤال عنه بدعة » مع أنّ السائل يريد تفسير الآية و التدبّر فيها ؟ وهل السؤال عن مفهوم الآية بقصد التعلم بدعة ؟ و بهذا عطّلوا العقول عن التدبّر في الكتاب العزيز و تفسير أسمائه و صفاته و أفعاله مع قدرتها على التعرف على ما هناك من الكمال و البهاء و الجمال و الجلال.
3 ـ المعطّلة بثوبها الجديد و قد ظهر التعطيل أى تعطيل العقول عن المعارف و الالهيات بثوبها الجديد في العصر الأخير ، و قد حمل رايتها المغترّون بالعلوم الطبيعية ، و قد صبغوا نظريتهم بصبغة مادية خدعوا بها عقول البسطاء. قال « فريد وجدي » : « بما أنّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية و العلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم ، فنجلعهما عمدتنا في هذه المباحث بل لامناص لنا من الاعتماد عليهما لأنّهما اللذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصّة من العهد الروحاني » (2).
1 ـ الملل و النحل للشهرستاني ج 1 ص 65 ، و الرسائل الكبرى لإبن تيمية ص 32 ـ 33. 2 ـ على أطلال المذهب المادي ج 1 ص 16.
(13)
و قال « الندوي » : « و قد كان الأنبياء ( عليهم السلام ) أخبروا الناس عن ذات اللّه وصفاته و أفعاله و عن بداية هذا العالم و مصيره و ما يهجم على الناس بعدموتهم ، و آتاهم الله علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بلاتعب ، و كفوهم مؤونة البحث و الفحص في علوم ليس عندهم مبادئها و لامقدّماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصّلوا إلى مجهول لأنّ هذه العلوم وراء الحسّ و الطبيعة لاتعمل فيها حواسهم ، و لايؤدّي إليها نظرهم ، و ليست عندهم معلوماتها الأوّلية ... الذين خاضوا في الالهيات من غير بصيرة وعلى غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجّة ، و معلومات ناقصة ، و خواطر سانحة ، و نظريات مستعجلة فضلّوا و اضلّوا (1). و يلاحظ على كلاالتقريرين : أوّلا : إنّ الاعتماد على الفلسفة الحسّية و التركيز على الحسّ من بين أدوات المعرفة ، مقتبس من الفلسفة المادية التي ترفض الاعتماد على العقل و أدواته و لايعترف إلاّ بالحسّ و تحسبه أداة منحصرة للمعرفة ، و العجب أن يلهج بهذا الأصل من يدّعي الصلة بالاسلام و يعد من المناضلين ضدالفلسفة الماديّة ، ففي القول بهذا ابطال للشرائع السماوية ، فانّها مبنية على النبوّة و الوحي و نزول الملك و سائر الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ التي لاتدرك إلاّ بالعقل و البرهنة ، فمن العجيب أن يلعب فريدوجدي و مقلد الدعوة السلفية « ابوالحسن الندوي » بحبال المادية من غير شعور ولااستشعار. و ثانياً : إنّه لو صحّ قول « الندوي » إنّ هذه العلوم وراء الحسّ و التجربة لاتعمل فيها حواسّهم ، و لايؤدّي إليها نظرهم ، و ليست عندهم معلوماتها الأوّليه ، فلما ذا يطرح الذكرالحكيم لفيفاً من المعارف ، و يحرّض على التدبّر فيها و هي ممّا
1 ـ ماذا خسر العالم ص 97.
(14)
يقع وراء الحسّ و الطبيعة ، و ليست الغاية من طرحها هو التلاوة و السكوت حتى تصبح الآيات لقلقة لسان لاتخرج عن تراقي القارئ بدل أن تتسلّل إلى صميم الذهن و أعماق الروح.
و إن كنت في ريب من وجود هذه المعارف العليا في الكتاب العزيز فلاحظ الآيات التاليه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى/11 ). ( وَ لِلّهِ المَثَلُ الاَعْلى ) ( النحل/60 ). ( لَهُ الاَسْماءُ الحُسْنى ) ( طه/8 ). ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) ( البقرة/115 ). ( هُوَ الاَْوَّلُ وَ الآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَىء عَليمٌ ) ( الحديد/3 ). ( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ ) ( الحديد/4 ). ( اَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَىء اَمْ هُمْ الخالِقُونَ ) ( الطور/35 ). ( وَ كَذلِكَ نُرى اِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَ الاَْرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ المُوقِنينَ ) ( الأنعام/75 ). ( لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ الّا اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهُ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ ) ( الانبياء/22 ). ( ما اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَد وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ اِله اِذاً لَذَهَبَ كُلُّ اِله بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) ( المؤمنون/91 ). إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها اُصول المعارف الالهية التي تقع وراء الحسّ و الطبيعة و ليس عندنا حسب فرض الندوي معلوماتها الأوّلية. هذا و إنّ القرآن يحثّ المجتمع البشري على تحصيل البرهان في كلّ ما يعتقدونه في المبدئ و المعاد و يقول :
(15)
( اَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ ها تُوا بُرْهانَكُمْ هَذا ذِكْرُ مَنَ مَعى وَ ذِكْرُ مَنَ قَبْلِى بَلْ اَكْثَرُهُمْ لايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) ( الأنبياء/24 ). كلّ ذلك يعرب عن عناية القرآن بتفهيم الإنسان المعارف و الاصول التي هي خارجة عن اطار الحسّ و المادّة بقناعة كاملة لابلقلقة اللسان. إنّ هناك اصولاً يعتقدبها الالهيّون و في مقدّمتهم المسلمون البارعون ، عن طريق العقل و البرهنة ، و لايمكن للعلوم الطبيعيّة أن تساعدهم في فهمها و لا أن تهدي إليها البشر. كالبحث من انّ المصدر لهذا العالم و المبدئ له ، ازلي أو حادث ، واحد أو كثير ، بسيط أو مركّب ، جامع لجميع صفات الجمال و الكمال أملا؟ هل لعلمه حدّ ينتهى إليه أم لا؟ هل لقدرته نهاية ام لا؟ هل هو أوّل الأشياء و آخرها أم لا؟ هل هو ظاهر الاشياء و باطنها أم لا؟ فالاعتقاد بهذه المعارف عن طريق العلوم الطبيعية و الحسّية غير ممكن و الاعتماد على الوحي للتعرف عليها غير مقدور لكلّ إنسان ، مضافاً إلى أنّه يجب معرفتها قبل معرفة النبي فكيف يتعرّف عليها عن طريق النبي و الوحي المنزل. وثالثا : نرى أنّه سبحانه يذكر الفؤاد إلى جانب السمع و البصر. و يقول : ( وَ اللّهُ اَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ اُمُّهاتِكُمْ لاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الاَبصارَ وَ الاَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل/78 ). و المراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها فشكر السمع و البصر هو ادراك المسموعات و المبصرات بهما ، و شكر الفؤاد هو درك المعقولات و غير المشهودات به ، فالآية تحّرض على استعمال الفؤاد و القلب و العقل في ما هو خارج عن اطار الحسّ و غير واقع في متناول أدواته ، و لأجل ذلك يتّخذ القرآن في بعض المجالات موقف المعلّم فيعلّم المجتمع البشري كيفية البرهنة العقليّة على
(16)
توحيد الخالقيّة و التدبير فيقول :
( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَولا تُصَدِّقُونَ * اَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ اَم نَحْنُ الخالِقُونَ ... أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْناهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * اَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِى تَشْرُبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ اَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْناهُ اُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * اَفَرأَيتُمُ اَلنّارَ اَلَّتِى تُورُونَ * أَأَنْتُمْ اَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها اَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ) ( الواقعة / 57 و 72 ). إنّ تعطيل العقول عن المعارف الالهية يجر الإنسان إلى التشبيه و التجسيم ، و إن تبرأ منهما و إنبرى إلى نفي هذه الوصمة عن نفسه وأهل ملّته ، هذا هو ابن تيمية محيي الدعوة السلفيّة في القرن الثامن يقول : « أهل السنّة و الجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ( تأويل ) و لاتعطيل و من غير تكييف و لاتمثيل ( تشبيه ) ، بل هم الوسط في فرق الاُمّة كما أنّ الاُمّة هي الوسط في الاُمم ، فهم وسط كما في باب صفات الله سبحانه و تعالى بين أهل التعطيل ( الجهميّة ) و أهل التمثيل ( المشبّهة ) (1). و القارىء الكريم يتصوّر أنّه مشي على هذا الأصل إلى آخر كتابه و لكنّه يقف على أنّه سرعان ما انقلب على وجهه و ارتدّ على أدباره و غرق في التشبيه و التجسيم و نادى به و قال : ( وممّا وصف الرسول به ربّه في الأحاديث الصحاح التي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول و وجب الايمان بها قوله ( ص ) : « ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ و من يستغفرني فأغفر له؟ و قوله يضحك الله إلى رجلين : أحدهما يقتل الآخر كلاهما
1 ـ مجموعة الرسائل ص 400.
(17)
يدخل الجنة ، وقوله « لاتزال جهنّم يلقى فيها و تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزّة فيها قدمه ينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : « قط قط » و هذه الأحاديث متّفق عليها؟ ) (1).
نحن نسأل « ابن تيميّة » و من لفّ لفّه : فهل يأخذ بظواهر هذه الأحاديث التي لووردت في حقّ غيره سبحانه لقطعنا بكونه جسماً ، كالإنسان له أعضاؤه ، أو يحملها على غيرها ، فعلى الأوّل يقع في مغبّة التشبيه ، و على الثاني يقع في عداد المؤوّلين و هو يتبرّأ منهم. و الأخذ بظواهرها لكن بقيد « بلاتكييف » و « لاتشبيه » ـ مضافاً إلى أنّه لم يرد في النصوص ـ ما يوجب صيرورة الصفات مجملة غير مفهومة ، فإنّ واقعيّة النزول والضحك و وضع القدم ، إنّما هي بكيفيتها الخارجيّة ، فحذفها يعادل عدمها. فما معنى الإعتقاد بشيء يصير في نهاية المطاف أمراً مجملاً و لغزاً غير مفهوم؟ فهل يجتمع هذا مع بساطة العقيدة و سهولة التكليف التي تتبنّاها السلفيّة في كتبهم؟ فلو صحّ تصحيح هذه الأحاديث و الصفات الجسمانية بإضافة قولهم « بلاتمثيل » فليصحّ حمل كلّ وصف جسماني عليه باضافة هذا القيد بأن يقال : اللّه سبحانه جسم لاكهذه الأجسام ، له صدر و قلب لاكمثل هذه الصدور و القلوب ، إلى غير ذلك مما ينتهي الإعتقاد به إلى نفي الاله الواجب الجامع لصفات الجمال والجلال. إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد و تفسير القرآن و الحديث ، لاينتج إلاّ إجلاسه سبحانه على عرشه فوق السماوات ، يقول « ابن قتيبة » ـ المدافع عن الحشوية و أهل الحديث ـ في تفسير قوله : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمواتِ وَ الاَرْض ) يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيّاً أو سريراً و يجعلون العرش شيئاً آخر ، و العرب لاتعرف العرش إلاّ السرير ، و ما عرش من السقوف و الابار. يقول اللّه ( وَ رَفَعَ اَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ ) أي على السرير.
1 ـ نفس المصدر 398 ـ 399.
(18)
و اُميّة بن ابي الصلت يقول :
مجّدوا اللّه و هو للمجد أهلبالبناء الاعلى الذي سبق الناشرجعا (1) ما يناله بصر الـ
ربّنا في السماء أمسى كبيرس وسوّى فوق السماء سريرعين ترى دونه الملائك صورا (2) و (3)
ترى أنّه يصور اللّه سبحانه ملكاً جبّاراً جالساً على عرشه ، و الخدم دونه ينظرون إليه بأعناق مائلة ، و هو يتبجّح بذلك تبجّح المتكبّر باستصغار الناس و ذلتهم. و يقول أيضا : « كيف يسوغ لاحد أن يقول : إنّه بكلّ مكان على الحلول مع قوله : ( اَلرَّحْمن عَلى الْعَرْشِ اِسْتَوى ) أي استقر ، كما قال : ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ اَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الفُلْكِ ) أي استقرت. و مع قوله تعالى : ( اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ). كيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرفع إليه عمل و هو عنده (4). ثم إنّه يستشهد بكونه سبحانه في السماء بما ورد في الحديث : « إنّ رجلاً أتى رسول اللّه بأمة أعجميّة ، للعتق فقال لها رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) : أين اللّه تعالى؟ فقالت : في السماء قال : فمن أنا؟ قالت : أنت رسول اللّه فقال ( عليه السلام ) : هي مؤمنة و أمر بعتقها (5).
1 ـ أي طويلا. 2 ـ جمع « أصور » و هو المائل العنق. 3 ـ تأويل مختلف الحديث : ص 67. 4 ـ نفس المصدر : ص 271. 5 ـ المصدر نفسه : ص 272.
(19)
فقد غاب عن « ابن قتيبة » إنّ المراد من كونه سبحانه بكلّ مكان ليس هو حلوله فيه ، بل المراد أنّ العالم بكلّ أجزائه و ذرّاته قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي و ان ّوجوده سبحانه وجود فوق الزمان و الزمانيّات و المكان و المكانيّات ، غني عنهما ، لايحتاج إليهما ، بل هو الخالق لهما ، و أمّا الحديث الذي استدل به فليس فيه دلالة على تصديق رسول اللّه بكلّ ما تعتقده الاُمّة بل انّه ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) اكتفى بما أظهرت من الاعتقاد الساذج بوجوده سبحانه و نبوّة نبيّه و ان اخطأت في الحكم بأنّه في السماء و لم يكن الظروف ـ إذ ذاك ـ تساعد ، أو لم تكن الاُمّة مستعدّه لتفهيمها إنّه سبحانه منزّه عن المكان و الزمان و الجهة ، و إنّه ليس جسما و لاجسمانياً حتى يحلّ في السماء.
4 ـ بين التشبيه و التعطيل و هناك طائفة اُخرى يسلكون طريقاً وسطاً لايوافقون أهل التشبيه ـ بصبّ المعارف العليا في قوالب جسميّة وصفات ماديّة ـ و لا أهل التعطيل فلايسدّون نوافذ عقولهم وأفهامهم من التطلّع إلى ماوراء الطبيعة و الوقوف على ما هناك من أسماء و صفات و حقائق رفيعه لاينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الإنسان ، و هؤلاء يقولون : إنّه يمكن للإنسان التعرّف على ماوراء الطبيعة بما فيها من الجمال و الكمال و العالم الفسيح ، عن طريق التدبّر و امعان النظر ، إمّا بترتيب الأقيسة المنطقية و تنظيم الحجج العقلية ، أو بالنظر إلى ما يحتوي عالم الطبيعة من آثار ذلك الجمال و آياته ، فعنذ ذلك يخرج الإنسان عن مهلكة التشبيه و مغبّة التعطيل ، و إفراط المجسّمة و تفريط المعطّلة و هذا هو الذي يحصل به الجمع بين آيات القرآن و الأحاديث الصحيحة و قد عرفت بعض الآيات الداعية إلى التدبّر و الامعان في كلّ ما ورد في الكتاب من الحكم و المعارف (1).
1 ـ و يكفيك انّ الذكر الحكيم يستعمل مادّة التعقّل في مشتقّاته المختلفة 47 مرّة و التفكّر 18 مرّة و اللب 16 مرّة و التدبر 4 مرّات و النهي مرّتين.
(20)
أمّا السنّة فقد قال علي ( عليه السلام ) : لم يطّلع العقول على تحديد صفته ، و لم يحجبها عن واجب معرفته (1). يريد ( عليه السلام ) انّ العقول و ان كانت غير مأذونة في تحديد صفاته ، ولكنّها غير محجوبة عن التعرّف عليها إجمالا كيف و قال سبحانه ( وَ ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الاِنْسَ اِلّا لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات/56 ). و العبادة الصحيحة الكاملة لاتتيسّر إلاّ بعد تحقّق المعرفة الكاملة الممكنة للعابد ، و قال الامام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : لما سئل عن التوحيد : إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل اللّه تعالى سورة قل هو اللّه أحد و الآيات الستّ من سورة الحديد (2). و كتب الامام الصادق ( عليه السلام ) في جواب سؤال « عبدالرحيم بن عتيك القصير » ـ عند ما سأله عن قوم بالعراق يصفون اللّه بالصورة و بالتخطيط ـ « سألت رحمك اللّه عن التوحيد و ما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه. فاعلم رحمك اللّه أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عزّ و جلّ ، فانف عن اللّه تعالى البطلان و التشبيه ، فلا نفى و لاتشبيه هو اللّه الثابت الموجود ، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون ، و لا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان » (3). و سئل الإمام أبوجعفر الثاني ( عليه السلام ) : يجوز أن يقال : إنه شيء؟ قال : نعم ، يخرجه من الحدّين : حد التعطيل و حد التشبيه (4).
1 ـ نهج البلاغة : الخطبه 29. 2 ـ الكافي ج 1 باب النسبة ص 91 الحديث 3 ، و نور الثقلين ج 5 ص 231. 3 ـ الكافي ج 1 باب « النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه » الحديث 1. 4 ـ الكافي ج 1 باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث 2 ، 5.