مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 81 ـ 90
(81)
ما كان عليه الأسلاف (1).
    و إليك ما ورد في ذلك المجال :
    1 ـ روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق. قال : فقال : الإرادة من الخلق ، الضمير يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه ، لاغير ذلك لأنّه لايروّي و لايهمّ و لايتفكّر ، و هذه الصفات منفيّة عنه ، و هي صفات الخلق ، فإرادة اللّه الفعل لاغير ذلك ، يقول له كن فيكون بلالفظ ، و لانطق بلسان ، و لاهمّة و لاتفكّر و لاكيف لذلك ، كما أنّه لاكيف له (2).
    2 ـ و روي الشيخ الطوسي عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن : اخبرني عن الإرادة من اللّه تعالى قال : « إرادته احداثه الفعل لاغير ذلك لأنّه جلّ اسمه لايهم و لايتفكّر » (3).
    3 ـ روي الكليني عن الحسن بن عبدالرحمان الحماني ، عن الامام الكاظم ( عليه السلام ) في رواية قال : « إنّما تكون الأشياء بإرادته و مشيئته من غير كلام و لاتردد في نفس و لانطق » (4).
    روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : « فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (5).
    4 ـ روى الكليني عن يعقوب بن جعفر ، عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) في حديث : « و لكن كما قال اللّه تعالى كن فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (6).
1 ـ أوائل المقالات ص 19.
2 ـ الكافي ج 1 باب الاراده الحديث 3 ، و رواه البرقي في المحاسن ص 244.
3 ـ أمالي الطوسي ص 214.
4 ـ الكافي ج 1 باب النهي عن الجسم و الصورة الحديث 6 ص 106.
5 . الاحتجاج ج 2 ص 156.
6 ـ الكافي ج1 باب الحركة و الانتقال ص125 الحديث1.


(82)
    و الجواب : إنّ هذه الروايات و إن كانت صريحة في كون إرادته سبحانه فعله ، لكنّها ليست بصدد سلب كون الإرادة صفة الذات حتّى بالمعنى المناسب لذاته عنه على الاطلاق ، و انما هي بصدد أنّ الإرادة الإمكانية الموجودة في الإنسان لاتصلح لذاته سبحانه لأنّها تقترن بالتردّد و التروّي و التفكّر و الهمّ و الكلّ من سمات الامكان و الحدوث و هو سبحانه منزّه عن ذلك.
    و فرق بين نفي أصل الإرادة عن ذاته سبحانه ، و لو بمعنى غير مستلزم لكون ذاته معرضاً للحوادث ، و الإرادة الموجودة في الإنسان و الحيوان و بما أنّه كلّما أطلقت الإرادة لايراد منها سوى المعنى المتعارف من التفكّر و الهم ّو القصد ، و صرح الإمام بنفي الإرادة بذلك المعنى عن ذاته و ارجاعها فيه سبحانه إلى صفة الفعل ، حتّى يصدر السائل عن حضوره بشيء مقنع و بما أنّ عقليّة بعض الرواة في ذلك العصر لاتتحمّل كثيرا من المعارف الدقيقة اقتنع الامام بتفهيم ما تتحمله عقليته ، و بما أنّ قسماً من الإرادة صفة للفعل ، و قسم منها صفة للذات كعلمه سبحانه ، فإنّ قسماً منه صفة للفعل ، و قسم منه صفة للذات ، اكتفى الامام ببيان أحد القسمين دونالآخر.
    و هذا أصل مطرد في باب المعارف ، فهم صلوات اللّه عليهم يكلّّمون الناس على قدر عقولهم و لايكلّّفونهم بما هو خارج عن طاقة شعورهم.
    هذا هو سيدالموحّدين علي ( عليه السلام ) ينهي عن الغور في القدر و يقول :
    « طريق مظلم فلاتسلكوه ، و بحر عميق فلاتلجوه ، و سراللّه فلا تتكلّفوه » (1).
    و مع ذلك فهو صلوات اللّه عليه بحث عن القضاء و القدر و يشهد لذلك ما رواه الرضي في نفس نهج البلاغه (2).
1 ـ نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 287.
2 ـ نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 78.


(83)
    و الحاصل لمّا كان المتبادر في ذهن الراوي و أمثاله من الإرادة ، هو المعنى المعروف من الهم ّو التفكّر و العزم و كان جعل الإرادة من صفات الذات ـ في ذهن الراوي ـ مستلزماً لكون إرادته سبحانه مثل الإرادات الامكانية ، رأى الإمام أن يعلّمه أحد القسمين من إرادته و هو الإرادة الفعلية كالعلم الفعلي ، و أضرب عن القسم الآخر ، و يعرب عن ذلك قوله في الروايات الثلاث الأخيرة ، حيث قال :
    « إنّما تكون الأشياء بإرادته و مشيئته ، من غير كلام و لاتردّد في نفس ».
    و هذا يعرب من انّ الإمام بصدد صيانة الراوي عن الوقوع في الخطأ في تفسير الرواية ، ولم يكن بصدد تفسير الإرادة بجميع مراتبها وأقسامها ، فلو كان هناك للإرادة قسما آخر يناسب ذاته سبحانه كما أوضحناه لما كانت هذه الروايات نافية لها.
    هناك وجه آخر لجعل الإرادة من صفات الفعل و هو انّ الإرادة في الإنسان لاينفك عن المراد ، فلو جعلت الإرادة فيه سبحانه من صفات الذات ربّما يستنتج الراوي منه قدم العالم ، فلأجل صيانة ذهن الراوي عن الخطأ فسّرت الإرادة بالأحداث و الايجاد ، و يشهد على ذلك الوجه بعض الروايات :
    1 ـ روى الصدوق في توحيده عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه ( عليه السلام ) قال : « المشيئة محدثة » (1).
    2 ـ روى الصدوق عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبداللّه ( عليه السلام ) قال : « قلت له لم يزل اللّه مريداً » ؟! فقال : « إنّ المريد لايكون إلاّ المراد معه بل لم يزل عالماً قادراً ثم أراد » (2).
    3 ـ روى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : « المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » (3).
1 ـ التوحيد للصدوق ص 338 ـ 146 ـ 336.
2 ـ التوحيد للصدوق ص 338 ـ 146 ـ 336.
3 ـ التوحيد للصدوق ص 338 ـ 146 ـ 336.


(84)
    و هذه الأحاديث تعرب من انّ جعل الإرادة صفة الفعل إنّما هولأجل صيانة ذهن الراوي عن توهّم قدم العالم و انّه لم يزل كان مع اللّه سبحانه ، و إن شئت قلت : إنّ الإرادة التي سأل عنها الراوي كان يراد منها العزم على الفعل الذي لاينفك عن المراد ، فاراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لايوصف بها سبحانه لأنها تستلزم قدم المراد أو حدوث المريد ، ولأجل أن يتلقّى الراوي معنى صحيحاً للإرادة يناسب مستوى تفكيره ، فسّرها الامام بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل ، و قال في جواب سؤال السائل :
    « لم يزل اللّه مريداً؟ : إنّ المريد لايكون إلاّ المراد معه ، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد » (1).

عصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) و المذاهب الكلاميّة
    كان عصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ( ت128 ـ م183 ) عصر ازدهار المذاهب الكلامية و كانت الأمصار و حواضرها الكبرى ميدانا لمطارحات الفرق المختلفة.
    فمن سلفيّ يقتصر في توصيفه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة و يأخذ بمعانيها الحرفية من دون امعان و تدبّر ، و يرفع عقيرته بأنّ للّه يداً و وجها و أنّه مستو و مستقرّ على عرشه و أنّ له رجلاًو ...
    إلى معتزلي يجعل للعقل قسطاً أوفر في مجال العقائد و المعارف و يتجاوز حدّه فيؤوّل الكتاب و السنّة فيما لايوافق معتقده و عقليّته.
    إلى مرجئيّ يكتفي في الإيمان بالقول و يقدّمه و يؤخّر العمل ، و لايحكم على
1 ـ الكافي ج1 ص 109 ، باب الارادة.

(85)
مرتكب الكبيرة بعقوبة.
    إلى مُحكِّم يكفّر كلّ الطوائف الاسلامية غير أهل نحلته الذين يبغضون الخليفتين عثمان و عليّاً و يكفّرون الصدّيق الاعظم عليّاً ( عليه السلام ).
    إلى غير ذلك من المذاهب الإسلاميّة التي ظهرت في القرن الثاني.
    و يعرب عن تشتت الفرق و تكثّرها ما رواه الكشّي عن محمدبن عيسى العبيدي ، عن يونس ، عن هشام ، إنّه لما كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الهوى ، و كتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس ، فقال يونس :
    قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة و اُخرى بمدينة الوضّاح (1).
    و لم يكن الخلاف مقتصراً على معتقدات الطوائف الماضية بل كان عصر الإمام يتسم بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية و الاتجاهات التي لاتمت إلى الاسلام بصلة ، و لأجل ذلك يجب امعان النظر في الروايات الواردة عن الكاظم ( عليه السلام ) و غيره مع ملاحظة الظروف السائدة عليه ، فإذا كان هذا عصر الإمام و الأئمّة بعده فلابدّ أن تكون رواياتهم متضمّنة ردّ أصحاب الأهواء و دعاة الضلال ، وأكثر ما ورد في المقام عن الإمامين الكاظم و الرضا ( عليهما السلام ) حول الإرادة و أنّها صفة فعله سبحانه لاذاته إنّما ورد في تلك الظروف المحرجة.

الإشكال الثالث : الإرادة يتوارد عليها النفي و الاثبات
    كيف نعد الإرادة من صفات الذات؟ مع أنّ الملاك الذي ذكره الكليني لاينطبق
1 ـ رجال الكشي : ترجمة هشام بن الحكم رقم131 ص227 ، و لعلّ هذا الكتاب أوّل ما اُلّف في المذاهب الاسلامية.

(86)
عليه بل ينطبق على كونها من صفات الفعل و حاصله :
    إنّ كلّ وصف يقع في اطار النفي و الاثبات فهو من صفات الفعل مثل قولنا : يعطي و لايعطى ، و ما لايقع في إطارهما ، بل يكون اُحادية التعلّق من صفات الذات فيقال « يعلم » و لايقال « لايعلم ».
    و على ضوء هذا تكون الإرادة من صفات الفعل لأنّها ممّا يتوارد عليه النفي و الاثبات. يقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة/185 ).
    و الجواب على هذا السؤال بوجهين :
    أحدهما : إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي و الاثبات هي الإرادة في مقام الفعل ، و أمّا الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة و هو الاختيار ، فلاتقع في إطار النفي و الاثبات.
    و ثانيهما : ما أجاب به صدر المتألّهين قائلاً بأنّ للّه سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه و إنّ الذي يتوارد عليه النفي و الإثبات ، الإرادة العددية الجزئية المتحقّقة في مقام الفعل ، و أمّا أصل الإرادة البسيطة ، و كونه سبحانه فاعلاً عن إرادة لا عن اضطرار و ايجاب ، فلايجوز سلبه عن اللّه سبحانه ، و إنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات التي لاتتعدّد و لاتتثنّى ، و بين الإرادة العددية المتحقّقة في مقام الفعل التي تتعدّد و تتثنّى و يرد عليها النفي و الاثبات.
    قال : « الفرق بين الإرادة التفصيلية العددية التي يقع تعلّقها بجزئي من اعداد طبيعية واحدة أو بكلّ واحد من طرفي المقدور ، كما في القادرين من الحيوانات ، و بين الإرادة ، البسيطة الحقّة الالهيّة التي يكلّّ عن ادراكها عقول أكثر الحكماء فضلاً عن غيرهم » (1).
1 ـ الاسفار ج 6 ص 324.

(87)
الإشكال الرابع : لو كانت الإرادة صفة للذات ، لزم قدم العالم
    هذا هو الإشكال الرابع في طريق جعل الإرادة من صفات الذات و حاصله : إنّ صفات الذات متّحدة معها ، فلو كانت الإرادة صفة للذات ، يلزم قدم العالم لأنّ الإرادة لاتنفك عن مرادها فقدم الذات يلازم قدم الإرادة و هو يلازم قدم المعلول و هو العالم.
    يلاحظ عليه أوّلاً : إن الإشكال لايختصّ بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه ، بل الإشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح ، لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتم الذي هو عين ذاته ، و استحالة انفكاك المعلوم عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها ، فلو كان النظام الأصلح معلولاً لعلمه ، و المفروض انّ علمه قديم ، لزم قدم النظام لقدم علّته.
    و ثانياً : إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين ، لايلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار ايجاد العالم متأخّراً عن ذاته.
    و ثالثاً : إنّ لصدر المتألّهين و من حذا حذوه في الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه ، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة و كيفيّة إعمالها ، يصدّنا عن البحث عن كيفيّة صدور فعله عنه ، و أنّه لماذا خلق العالم حادثاً و لم يخلقه قديماً؟
    و ها هنا نكتة نعلّقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر و هو : إنّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء و تغيّره من حال إلى حال ، و من مكان إلى مكان ، ومن صورة نوعية إلى أخرى ، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان ، فلولا المادة و حركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقي ، بل كان له مفهوم وهمي. هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان و الحركة ، و قد كان القدماء يزعمون : إنّ الزمان يتولد من حركة


(88)
الافلاك و النيّرين و غيرهما من الكواكب السيارة ، و لكن الحقيقة أن كلّ حركة حليفة الزمان و راسِمته و مولدته ، و إنّ التبدّلات عنصريّة كانت أو أثيرية ، مشتملة على أمرين :
    الأوّل : حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى ، سواء كان الانتقال في الوصف ، أو في الذات.
    الثاني : كون ذلك الإنتقال على وجه التدريج و السيلان لا على نحو دفعي.
    فباعتبار الأمر الأوّل توصف بالحركة ، و باعتبار الأمر الثاني توصف بالزمان ، فكأن شيئاً واحداً باسم التغير و التبدل و الانتقال ، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه ، لكن كلّ واحد منهما باعتبار خاص ، هذا من جانب.
    و من جانب آخر إنّ المادّة تتحقق على نحو النتدريج و التجزئة و لايصحّ وقوعها بنحو جمعي ، لأنّ حقيقتها حقيقة سيّالة متدرّجة أشبه بسيلان الماء ، فكلّّ ظاهرة مادية تتحقق تلو سبب خاص ، و ما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدّم جزء منه أو تأخّره بل لامناص عن تحقّق كلّ جزء في ظرفه و موطنه ، و بهذا الاعتبار تشبه الأرقام و الأعداد ، فالعدد مثل « الخمسة » ليس له موطن إلاّ الوقوع بين « الأربعة » و « الستة » و تقدمه على موطنه كتأخّره عنه مستحيل ، و على ذلك فالأسباب و المسبّبات المترتبة بنظام خاص ، يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه و محله.
    إذا عرفت هذا الأمر ، نرجع إلى بيان النكتة و هي ما ذا يريد القائل من قوله « لو كانت الإرادة صفة ذاتية للّه سبحانه ، يلزم قدم العالم؟ » فان أراد أنّه يلزم تحقّق العالم في زمان قبله و في فترة ماضية فهذا ساقط بحكم المطلب الأوّل ، لأنّ المفروض انّه لازمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة المادة ترسم الزمان و تولّده.
    و إن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم


(89)
فقد عرفت استحالته فإنّ اخراج كلّ جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم؟
    اتّفق الالهيّون على أنّ العالم حادث ذاتاً بمعنى أنّه مسبوق بعدم حقيقي و انّه لم يكن فكان و الفاعل المتخلّل في قولنا : « لم يكن فكان » هو الفاصل بين الواجب والممكن نظير الفصل بين حركة اليد و حركة المفتاح ، فالحركتان واقعتان في زمان واحد غير أنّ الثانية متأخّرة عن الاُولى رتبة لأنّها ناشئة من الاُولى ، و حركة اليد نابعة من ذاتها ، و حركة المفتاح ناشئة من حركتها ، فهي في طول الحركة الاولى.
    نعم هنا فرق بين المثال و الممثّل له ، فالعلّة و المعلول في المثال زمانيان دون الممثّل له فالعلّة هنا منزّهة عن الزمان و الزماني و هذا مما لاشبهة فيه ، إنّما الكلام في اثبات حدوث آخر للعالم و هو الحدوث الزماني.
    إنّ المتشرّعة تثبت للعالم وراء الحدوث الذاتي حدوثاً زمانياً بمعنى كونه مسبوقاً بعدم زماني واقعي مثلا كما أنّ حوادث اليوم مسبوقة بالعدم الزماني حيث إنها لم تكن قبل ذلك اليوم ثم حدث ، فهكذا العالم لم يكن في وقت ثم حدث. و هذه المسألة ممّا تصرّ عليها المتشرّعة حتى انّ الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد عند البحث عن حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة يقول : « أجمعت الشرايع السماويّة على انّ العالم حادث زماناً (1).
    و لكن تصوير الحدوث الزماني لكلّ جزء من أجزاء العالم بالنسبة إلى الزمان المتقدّم عليه أمر سهل يصدّقه البرهان و الحسّ ف ـ « زيد » المتولّد في هذا اليوم ، مسبوق بعدم زماني يوم أمس.
1 ـ الفرائد ، رسالة حجّية القطع.

(90)
    إنّما الكلام في اثبات الحدوث الزماني لمجموع العالم إذا أخذ صفقة واحدة و لوحظ شيئاً واحداً ، فإنّ اثبات الحدوث الزماني أمر لايخلو من خفاء و ذلك ببيانين :
    1 ـ إنّ الزمان مقدار الحركة ، و كلّّ حركه تعانق زمانا ما يعدّ مقداراً لها ، و ليس في العالم زمان واحد يتولّد من حركة الفلك أو الشمس و القمر بل كلّّ حركة مولد زماناً فيكون ذلك الزمان مقداراً لها كما حقّق في محلّه ، فإذا كان الزمان وليد الحركة و نتيجة سيلان المادّة إلى الغاية فكيف يمكن أن نقول بأنّه كان وقت حقيقي لميكن العالم فيه ثمّ حدث و وجد؟ لأنّ المفروض انّ هذا الوقت نتيجة حركة المادة التي لم تخلق بعد ، فلايتصوّر شيء بمعنى الوقت و الزمان قبل إيجاد العالم حتّى يتضمّن عدمه.
    2 ـ إنّه ينقل الكلام إلى نفس الزمان فهل هو حادث ذاتي و قديم زماناً أو لا؟
    فعلى الأوّل يجب الاعتراف بممكن حادث ذاتاً و قديم زماناً ، فلو كان القول بالقدم الزماني مقبولاً فيه فليكن مقبولاً في مجموع العالم إذا لوحظ شيئاً واحداً أو في الجزء الأوّل منه. و على الثاني يلزم أن يكون للزمان زمان حتّى يتضمّن الزمان الثاني عدم الزمان الأوّل في حاقّه ، و عندئذ إمّا يتوقّف تسلسل الزمان فيلزم كون الزمان الثاني قديماً زمانيّاً و إن لم يتوّقف يلزم التسلسل.
    فلأجل هذين الوجهين يعسر التصديق بالحدوث الزماني لمجموع العالم و يكتفى بالحدوث الذاتي ، ثم إنّ الداعي إلى ذهابهم إلى الحدوث الزماني للعالم كلّّه امران :
    أ : التركيز على التوحيد ، و إنّه لاقديم سواه و إنّ كلّ ما في الكون فهو حادث زماني مسبوق بعدم زماني حقيقي ، فحصر القديم في اللّه سبحانه يصدّهم عن الاعتراف بقدم العالم زماناً و الاكتفاء بالحدوث الذاتي.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس