تعالى فطارد لكل عدم و بطلان. قال عزّ من قائل : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ) ( الحج/62 ).
و بتقرير آخر : إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الاُمور التالية : 1 ـ كون الشيء محدوداً بالماهيّة و مزدوجاً بها ، فإنّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلاماهية غير محدَّد و لامقيّد و إنّما يتحدّد بالماهية. 2 ـ كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتّصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر. 3 ـ كون الشيء في حيز المكان ، و هو أيضاً يحدّد وجود الشيء و يخصّه بمكان دون آخر. و غير ذلك من أسباب التحديد و التضييق. و اللّه سبحانه وجود مطلق غير محدّد بالماهيّة إذ لا ماهيّة له كما سيوافيك البحث عنه ، كما لايحويه زمان ولامكان ، فتكون عوامل التناهي معدودمة فيه ، فلايتصوّر لوجوده حدّ و لاقيد و لايصحّ أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر أو مكان دون آخر ، بل وجوده أعلى و أنبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي. و أمّا الكبرى : فهي واضحة بأدنى تأمّل ، و ذلك لأنّ فرض تعدّد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. و لايقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميّزاً عن الآخر ، و التَّمَيّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، و كذا العكس. و هذه هي « المحدوديّة » و عين « التناهي » ، و المفروض أنّه سبحانه غير محدود ولامتناه. و اللّه سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود ، يصف نفسه في الذكر الحكيم ب ـ ( الواحِد القَهّار ) ( الرعد/16 ) ، و ما ذلك إلاّ لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود و القيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكّم فيه
(482)
الحدود ، فكأنّ اللامحدوديّة تلازم وصف القاهرية ، و قدعرفت أنَّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد ، فقوله سبحانه و هو الواحد القهار ، من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة و البرهان.
قال العلاّمة ( الطباطبائي ) : « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره ، فإنّ هذه الوحدة لاتتم إلاّ بتميّز هذا الواحد ، من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر ، و إنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه ، و كذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، و هذا إنْ دلّ فإنّما يدلّ على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقّق بالمقهورية و المسلوبية أي قاهرية الحدود ، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور و غالباً لايغلبه شيء لم تتصوّر في حقّه وحدة عددية ، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلاً على الاُولى ، قال سبحانه : ( أَأَرْبابٌ مُتَفَرَّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ ) ( يوسف/39 ) ، و قال : ( وَ ما مِنْ اِله إِلّا اللّهُ الْواحِدُ القَهّارُ ) ، و قال سبحانه : ( لَوْ أَرادَ اللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ ) ( الزمر/4 ). و باختصار : إنَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة ، مقهور بالحد الذي يميّز الفرد عن الآخر و النوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لايقهره شيء و هو القاهر فوق كل شيء ، فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لايشوبه عدم ، و حق لايعرضه بطلان ، وحي لايخالطه موت ، و عليم لايدبّ إليه جهل ، و قادر لايغلبه عجز ، و عزيز لايتطرّق إليه ظلم ، فله تعالى من كل كمال محضة » (1).
1 ـ الميزان : ج 6 ، ص 88 و 89 بتلخيص.
(483)
و من عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا ( عليهماالسلام ) في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء ، و قال في ضمن تحميده سبحانه : « لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِى إِلى حَدِّه ، و لا له مِثْلٌ فيُعرَفُ مثله » (1). ترى أنَّ الإمام ( عليه السلام ) بعد ما نفى الحد عن اللّه ، أتى بنفي المِثْل له سبحانه ، لارتباط و ملازمة بين اللامحدودية و نفي المثيل ، و التقرير ما قدعرفت.
3 ـ صِرف الوجود لايتثنّى و لايتكرّر إنَّ هذا البرهان مركّب من صغرى و كبرى على الشكل التالي : اللّه سبحانه وجود صِرْف. و كل وجود صرف واحد لايتثنّى و لايتكرّر. فالنتيجة : اللّه سبحانه واحدٌ لايتثنَّى و لايتكرَّر. أمّا الصغرى فإليك بيانها : أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده ، و تحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول : كل ما يقع في اُفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلّف من وجود هو رمز عينيّته في الخارج ، و ماهيّة تحد الوجود و تبيّن مرتبته في عالم الشهود و الخارج. مثلاً : الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا لها وجود به تتمثّل أمام نظرنا ، و لها ماهية تحدّدها بحد النباتية ، و تميزّها عن الجماد و الحيوان ، و لأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قدارتقت من عالم الجماد و لم تصل بعد إلى عالم الحيوان. و بذلك تعرف أن واقعيّة الماهيّة هي واقعيّة التحديد. هذا من جانب.
1 ـ توحيد الصدوق ، ص 33.
(484)
و من جانب آخر ، الماهيّة إذا لوحظت من حيث هي هي ، فهي غير الوجود كما هي غير العدم ، بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة و بالثاني أخرى ، و يقال : النبات موجود ، كما يقال : غير موجود. و هذا يوضح أن مقام الحد و الماهيّة مقام التخلية عن الوجود و العدم ، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود و العدم ، ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. و أمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود و لامعدوم ، فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات و الماهية موجوداً ، سواء كان الوجود جزْءَه أو عَيْنه يكون الوجود نابعاً من ذاته ، و ما هذا شأنه يكون واجب الوجود ، يمتنع عروض العدم عليه ، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ، سواء كان العدم جزءه أو عينه يكون العدم نفس ذاته ، و ما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود و العدم لامناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصحّ كونه معروضاً لأحدهما. و إلى هذا يهدف قول الفلاسفة : « الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة و لامعدومة ». و مع هذا كلِّه فهي في الخارج لاتخلو إما أنْ تكون موجودة أو معدومة. فالنبات و الحيوان و الإنسان في الخارج لايفارق أحد الوصفين. و بهذا تبيّن أنَّ اتّصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقّف على علّة ، لكن اتّصافها بالوجود يتوقّف على علّة موجودة ، و يكفي في اتّصافها بالعدم ، عدم العلّة الموجدة. فاتّصاف الماهيات بالأعدام الأزلية خفيف المؤونة ، بخلاف اتّصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علّة حقيقية خارجية. و على ضوء هذا البيان يتّضح أنّه سبحانه منزَّه عن التحديد و الماهيّة و إلاّ لزم أنْ يحتاج في اتّصاف ماهيته بالوجود إلى علّة (1). و ما هذا شأنه لايكون واجباً بل يكون ممكناً. وهذا يجرّنا إلى القول بأنّه سبحانه صرف الوجود المنزّه عن كل حد.
1 ـ و هنا يبحث عن العلّة ما هي؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأوّل لزم الدور ، و إن كان الثاني لزم التسلسل. و التفصيل يؤخذ من محلّه. لاحظ الأسفار : ج 1 ، فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.
(485)
و أمّا الكبرى فإليك بيانها : إنّ كل حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أي خليط و صارت صرف الشيء لايمكن أن تتثنّى و تتعدّد ، من غير فرق بين أن يكون صرف الوجود أو يكون وجوداً مقروناً بالماهيّة كالماء و التراب و غيرهما ، فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لايتكرّر و لايتعدّد ، فالماء بما هو ماء لايتصوّر له التعدّد إلاّ إذا تعدّد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدّد و التميّز. فالماء الصرف و البياض الصرف و السواد الصرف ، و كل شيء صرف ، في هذا الأمر سواسيه ، فالتعدّد و إلاثْنَيْنيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره. و على هذا ، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لاماهيّة له ـ وجوداً صرفاً ، لايتطرّق إليه التعدّد ، لأنّه فرع التميّز ، و التميّز فرع وجود غَيْريّة فيه ، و المفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه ، فالوجود المطلق و التحقّق بلا لون و لاتحديد ، و العاري عن كل خصوصيّة و مغايرة ، كلّما فرضتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل ، لا شيئاً غيره ، فاللّه سبحانه بحكم الصغرى صرف الوجود ، و الصرف لايتعدّد و لايتثنّى. فينتج : أنَّ اللّه سبحانه واحدٌ لايتثنّى و لايتعدّد.
خرافة التثليث : الأب و الابن و روح القدس قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام و الغموض كما تعاني منها عقيدة التثليث في المسيحية. إنّ كلمات المسيحين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنَّ الإعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم ، و لامناص لأي مسيحي من الإعتقاد به ، و في الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبّديّة التي لاتدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصوّرات البشرية لاتستطيع أن تصل إلى فهمه ، كما أنّ المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث ، لأنّ حقيقته
(486)
حسب زعمهم فوق المقاييس الماديّة.
هذا و مع تكريزهم على التثليث في جميع أدوارهم و عصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، و أنَّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ، و مع كونه ثلاثة واحدٌ أيضاً. و قدعجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين ، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه و أقصى ما عندهم ما يلي : إنَّ تجارب البشر مقصورة على المحدود ، فإذا قال اللّه بأنَّ طبيعته غير محدودة تتألّف من ثلاثة أشخاص لزم قبول ذلك ، إذ لامجال للمناقشة في ذلك و إن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي به ، و إنَّ هؤلاء الثلاثة يشكّلون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » و كل واحد منهم في عين تشخّصه و تميزّه عن الآخرين ، ليس بمنفصل و لامتميّز عنهم ، رغم أنّه ليست بينهم أية شركة في الاُلوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته و مالك بانفراده لكامل الاُلوهية ، فالأب مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة و كاملها من دون نقصان ، و الإبن كذلك مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة ، و روح القدس هو أيضاً مالك بانفراده لكمال الألوهيّة ، و إنّ الألوهيّة في كل واحد متحقّقة بتمامها دون نقصان. هذه العبارات و ما يشابهها توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الإستدلال و البرهنة العقلية ، و أنّها بالتالي « منطقة محرّمة على العقل » ، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال ، بل المستند في ذلك هو الوحي و النقل. و يلاحظ عليه أوّلاً : وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطاركة و من فوقهم أو دونهم من القسّيسين ، إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص و متميّز عن البقية ، و في الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً حقيقة لامجازاً. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل ، فإنَّ التَمَيّز و التشخص آية التعدّد ، و الوحدة الحقيقية آية رفعهما ، فكيف يجتمعان؟
(487)
و باختصار ، إنّ « البابا » و أنصاره و أعوانه لامناص أمامهم إلاّ الإنسلاك في أحد الصفّين التاليين : صف التوحيد و أنّه لا إله إلاّ إله واحد ، فيجب رفض التثليث ، أو صفّ الشرك والأخذ بالتثليث و رفض التوحيد. ولايمكن الجمع بينهما. ثانياً : إنّ عالم ماوراء الطبيعة و إن كان لايقاس بالاُمور المادّية المألوفة ، لكن ليس معناه أنَّ ذلك العالم فوضوي ، و غير خاضع للمعايير العقليّة البحتة ، و ذلك لأنّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لاتقبل النقاش و الجدل ، و عالم المادة و ماوراؤه بالنسبة إليها سيّان ، و مسألة امتناع اجتماع النقيضين و امتناع ارتفاعهما و استحالة الدور و التسلسل و حاجة الممكن إلى العلّة ، من تلك القواعد العامّة السائدة على عالمي المادة و المعنى. فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلامجال للإعتقاد بها. و أمّا الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنّها ليست كتباً سماوية ، بل تدلّ طريقة كتابتها على أنّها اُلّفت بعد رفع المسيح إلى اللّه سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين ، و الشاهد أنّه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفيّة صلبه و دفنه ثم عروجه إلى السماء.و احتمال إلحاق القسم الأخير له يوجب سقوطه عن الاعتبار ، لاحتمال تطرّق التحريف إلى غير الأخير أيضاً. ثالثاً : إنّهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم : « الطبيعة الإلهيّة تتألّف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، أي الأب و الابن و روح القدس ، و الأبّ هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، و الابن هو الفادي ، و روح القدس هو المطهر. و هذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة و عمل واحد ». فنسأل : ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإنّ لها صورتين لاتناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه : 1 ـ أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث
(488)
يظهر كل واحد منها في تشخّص و وجود خاص ، و يكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل و شخصيّة خاصّة متميّزة عمّا سواها.
لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية و قدتجلّى في النصرانية بصورة التثليث. و قد وافتك أدلّة وحدانية اللّه سبحانه. 2 ـ أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركّب من هذه الاُمور الثلاثة ، و هذا هو القول بالتركيب ، و سيوافيك أنّه سبحانه بسيط غيرمركّب ، لأنّ المركّب يحتاج في تحقّقه إلى أجزائه ، والمحتاج ممكن غير واجب. هذا هي الإشكالات الأساسية المتوجّهة إلى القول بالتثليث.
تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية إنَّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك و الوثنيّة ، تحت تأثير المضلّين ، و بذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي و الغاية القصوى لبعثهم ، إنَّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى ( عليه السلام ) ، أفضل نموذج لما ذكرناه ، و هو ممّا أثبته القرآن و التاريخ. و على هذا فلاداعي إلى العجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح ( عليه السلام ) و غيابه عن أتباعه. مع مرور الزمن رسّخ موضوع التثليث و عمّق في قلوب النصارى و عقولهم ، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي ـ أعني لوثر ـ الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير و الخرافات ، و أسّس المذهب البروتستاني ، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة. إنَّ القرآن الكريم يصرّح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها ، حيث يقول تعالى : ( وَ قالَتِ النَّصارى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ
(489)
ذلِك قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ ) ( التوبة/30 ). لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنَّ هذا التثليث كان في الديانة البَرَهْمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر و آلهة : 1 ـ بَرَاهما ( الخالق ). 2 ـ فيشنو ( الواقي ). 3 ـ سيفا ( الهادم ). وقدتسرّبت من هذه الديانة البراهمانيّة إلى الديانة الهندوكيّة ، و يوضّح الهندوس هذه الاُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي : « براهما » هو المبتدىء بإيجاد الخلق ، و هو دائماً الخالق اللاهوتي ، و يسمّى بالأب. « فيشنو » هو الواقي الذي يسمّى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه. « سيفا » هو المُفْنِي الهادم المعيد للكون إلى سيرته الاُولى. و بذلك يظهر قوّة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي « غستاف لوبون » قال : « لقدواصلت المسيحيّة تطورها في القرون الخمسة الاُولى من حياتها ، مع أخذ ما تيّسر من المفاهيم الفلسفية و الدينية اليونانية و الشرقية ، و هكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية و الإيرانية التي انتشرت في المناطق الاُوروبية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب و الإبن و روح القدس ، مكان التثليث القديم المكوّن من « نروبي تر » و « وزنون » و « نرو » (1).
1 ـ قصة الحضارة.
(490)
القرآن و نفي التثليث إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث و يبطله بأوضح البراهين و أجلاها ، يقول : ( مَاالمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلّا رَسُولٌ قَدْخَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) ( المائدة/75 ). و هذه الآية تبطل اُلوهيّة المسيح و اُمّه ، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة ، بحجّة أنّ شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء و شأن الاُمّ شأن بقية الناس ، يأكلان الطعام ، فليس بين المسيح و اُمّه و بين غيرهما من الأنبياء و الرسل و سائر الناس أي فرق و تفاوت ، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون و يتناولون الطعام كلّما أحسّوا بالجاجة إليه. و هذا العمل منضمّاً إلى الحاجة إلى الطعام آية المخلوقيّة. و لايقتصر القرآن على هذا البرهان ، بل يستدل على نفي اُلوهيّة المسيح بطريق آخر ، و هو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح و اُمّه و من في الأرض جميعاً ، و القابل للهلاك لايكون إلهاً واجب الوجود. يقول سبحانه : ( لَقَدْكَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً ) ( المائدة/17 ). و هذه الآية ناقشت اُلوهيّة المسيح و أبطلتها عن طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. و يظهر من سائر الآيات أنَّ اُلوهيّته كانت مطروحة بصورة التثليث ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَة وَ ما مِنْ اِله إِلّا إِلهٌ واحِدٌ ) ( المائدة/73 ). و على كل تقدير ، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح ( عليه السلام ) أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً ، و عدم كونه إلهاً ، سواء طرح بصورة التثليث أو غيره. ثم إنَّ القرآن الكريم كما يُفَنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلهاً ابناً للّه في الآيات المتقدّمة ، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضاً على وجه الإطلاق سواء كان عيسى هو الابن أو غيره ، بالبيانات التالية :