الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 31 ـ 45
(31)
في هذه الآيات يوجب القطع بان هؤلاء المؤمنين و ( شأنهم هذا الشأن ) فيهم بقية بعد لو تمت فيهم كانوا من الذين انعم الله عليهم ، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلهم نوع من العلم بالله ، ذكره في قوله تعالى : « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات » المجادلة ـ 11. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي ارفع النعم قدرا ، يربو على نعمة الايمان التام ، وهذا ايضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
    ثم انه تعالى على انه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل ، لم ينسب لنفسه ازيد من صراط مستقيم واحد ، وعد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل : « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » العنكبوت ـ 69. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى احد من خلقه إلا ما في هذه الآية « صراط الذين انعمت عليهم » الاية ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه ، فقال تعالى : « قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة » يوسف ـ 108. وقال تعالى « سبيل من أناب الي » لقمان ـ 15. وقال : « سبيل المؤمنين » النساء ـ 114. ويعلم منها : ان السبيل غير الصراط المستقيم فانه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما ) يشير إليه قوله تعالى : « قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بأذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم » المائدة ـ 16 ، فعد السبل كثيرة والصراط واحدا وهذا الصراط المستقيم اما هي السبل الكثيرة واما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها.
    وأيضا قال تعالى : « وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون » يوسف ـ 106. فبين ان من الشرك ( وهو ضلال ) ما يجتمع مع الايمان وهو سبيل ، ومنه يعلم ان السبيل يجامع الشرك ، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال : ولا الضالين.
    والتدبر في هذه الآيات يعطى ان كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز ، بخلاف الصراط المستقيم ، وان كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه


(32)
    غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين انه يتحد مع ما يخالفه ، كما يستفاد من بعض الايات المذكورة وغيرها كقوله : « وان اعبدوني هذا صراط مستقيم » يس ـ 61. وقوله تعالى : « قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا » الانعام ـ 161. فسمى العبادة صراطا مستقيما وسمى الدين صراطا مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعا ، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن ، فكما ان للبدن اطوارا في حيوته هو عند كل طور غيره عند طور آخر ، كالصبي والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن ان تطرء عليه اطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الانسان ، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلا ان السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو غير ذلك من سبل الله تعالى ، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت ان الايمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شئ من ذلك الصراط المستقيم ، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده ، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
    وقد بين الله سبحانه هذا المعنى ، اعني : اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه ، فقال تعالى : « انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال » الرعد ـ 17. فبين : ان القلوب والافهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة ، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد ، وسيجئ تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد ، وبالجملة فهذا ايضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
     وإذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك ان الصراط المستقيم


(33)
مهيمن على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى ، بمعنى ان السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة ، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا ومن غير شرط وقيد ، ولذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما ، فان الصراط هو الواضح من الطريق ، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا ، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه ، والمستقيم هو الذي يريد ان يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره ، ويرجع المعنى إلى انه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وايصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى : « فاما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما » النساء ـ 174. اي لا يتخلف امر هذه الهداية ، بل هي على حالها دائما ، وقال تعالى : « فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كانما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما » الانعام ـ 126. أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف ، وقال تعالى : « قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين » الحجر ـ 42. أي هذه سنتي وطريقتي دائما من غير تغيير ، فهو يجري مجرى قوله : « فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا » الفاطر ـ 42.
    وقد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم امور.
    احدها : ان الطرق إلى الله مختلفة كمالا ونقصا وغلائا ورخصا ، في جهة قربها من منبع الحقية والصراط المستقيم كالاسلام والايمان والعبادة والاخلاص والاخبات ، كما ان مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك ، قال سبحانه « ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم اعمالهم وهم لا يظلمون » الاحقاف ـ 19.
    وهذا نظير المعارف الالهية التى تتلقاها العقول من الله فانها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بالوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى :


(34)
« انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها » الآية.
    وثانيها : انه كما إن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل ، فكذلك اصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى امرهم وولاهم امر هداية عباده حيث قال : « وحسن اولئك رفيقا » النساء ـ 71. وقال تعالى : « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوه وهم راكعون » المائدة ـ 55. والآية نازلة في أمير المؤمنين علي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاخبار المتواترة وهو ( عليه السلام ) اول فاتح لهذا الباب من الامة وسيجئ تمام الكلام في الآية.
    وثالثها : إن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه ، وتوضيح ذلك ان الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح ، وفيه ان تعديتها لمفعولين لغة اهل الحجاز ، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بالى ، وقوله هو الظاهر ، وما قيل : ان الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها ، فهي بمعنى الايصال إلى المطلوب ، وإذا تعدت بالى فبمعنى إرائة ، الطريق مستدلا بنحو قوله تعالى : « إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء » القصص ـ 56. حيث ث إن هدايته بمعنى ارائة الطريق ثابتة فالمنفى غيرها وهو الايصال إلى المطلوب قال تعالى : « وهديناهم صراطا مستقيما » النساء ـ 70. وقال تعالى : « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » الشورى ـ 52.
    فالهداية بالايصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها ، والهداية بارائة الطريق بالى ، وفيه ان النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى ، لا نفي لها اصلا ، وبعبارة اخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة ، مضافا إلى انه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون : « يا قوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد » غافر ـ 38. فالحق انه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية ، ومن الممكن ان يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار.
    وبالجملة فالهداية هي الدلالة وارائة الغاية بارائة الطريق وهي نحو ايصال إلى المطلوب ، وانما تكون من الله سبحانه ، وسنته سنة الاسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره ، وقد بينه الله سبحانه بقوله : « فمن


(35)
يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام » الانعام ـ 125. وقوله : « ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء » الزمر ـ 23. وتعدية قوله تلين بالى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان ، فهو ايجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه ، وكما أن سبله تعالى مختلفة ، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.
    وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى : « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين » العنكبوت ـ 69. إذ فرق بين ان يجاهد العبد في سبيل الله ، وبين أن يجاهد في الله ، فالمجاهد في الاول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فانه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به ، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.
    ورابعها : ان الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها ، صح ان يهدي الله الانسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط ، بمعنى أن يهيه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة ، كما أن قوله تعالى : إهدنا الصراط ( وهو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة ) من هذا القبيل ، ولا يرد عليه : ان سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال ، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلق به سؤال ، والجواب ظاهر.
    وكذا الايراد عليه : بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الامم السابقة ، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم ؟ وذلك ان كون شريعة اكمل من شريعة امر ، وكون المتمسك بشريعة اكمل من المتمسك بشريعة امر آخر ورائه ، فان المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( مع كون شريعته اكمل وأوسع ) ليس بأكمل من نوح وابراهيم ( عليهما السلام ) مع كون شريعتهما اقدم وأسبق ، وليس ذلك إلا ان حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها ، فصاحب مقام التوحيد الخالص وان كان من اهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر


(36)
حيوة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الالهية من قلبه ، وإن كان عاملا بالشريعة المحمدية ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي هي اكمل الشرائع وأوسعها ، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.
    ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام ، ما ذكره بعض المحققين من اهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة : ان دين الله واحد وهو الاسلام ، والمعارف الاصلية وهو التوحيد والنبوة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع ، وانما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي ان الاحكام الفرعية فيها اوسع واشمل لجميع شئون الحيوة ، فهي اكثر عناية بحفظ مصالح العباد ، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الاحسن ، ثم ان الدين وان كان دينا واحدا والمعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا وتقدموا في ذلك علينا ، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا.
    أقول : وهذا الكلام مبنى على اصول في مسلك التفسير مخالفة للاصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها ، فانه مبني على أن حقائق المعارف الاصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات ، وكذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية ، فأفضل الانبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجي التكويني على حد سواء ، وإنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير ان يتكي على تكوين ، كما ان التفاضل بين الملك والرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الانساني هذا.
    ولهذا الاصل أصل آخر يبنى عليه ، وهو القول باصالة المادة ونفى الاصالة عما ورائها والتوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل ، وقد وقع في هذه الورطة من وقع لاحد امرين : إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية وإما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.
    وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الابحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.


(37)
     وخامسها : ان مزية اصحاب الصراط المستقيم على غيرهم ، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم ، إنما هو بالعلم لا العمل ، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم ، إذ قد تبين مما مر : ان العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم ، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم ، واما ما هذا العلم ؟ وكيف هو ؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى : « انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها » الرعد ـ 17.
    ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى : « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات » المجادلة ـ 11 ، وكذا قوله تعالى : « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » الملائكة ـ 10 ، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم ، واما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب والامداد دون الصعود إليه تعالى ، وسيجئ تمام البيان في البحث عن الآية.

    في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) في معنى العبادة قال : العبادة ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفا ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبا ، فتلك عبادة الاحرار ، وهي افضل العبادة.
    وفي نهج البلاغة : ان قوما عبدوا الله رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار.
    وفي العلل والمجالس والخصال ، عن الصادق ( عليه السلام ) : ان الناس يعبدون الله على ثلاثة اوجه : فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع ، وآخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد ، وهي رهبة ، ولكني اعبده حبا له عزوجل فتلك عبادة الكرام ، لقوله عزوجل : « وهم من فزع يومئذ آمنون ». ولقوله عزوجل « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله » ، فمن احب الله عزوجل


(38)
احبه ، ومن احبه الله كان من الآمنين ، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.
    اقول : وقد تبين معنى الروايات مما مر من البيان ، وتوصيفهم ( عليهم السلام ) عبادة الاحرار تارة بالشكر وتارة بالحب ، لكون مرجعهما واحدا ، فان الشكر وضع الشئ المنعم به في محله ، والعبادة شكرها ان تكون لله الذي يستحقها لذاته ، فيعبد الله لانه الله ، اي لانه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته ، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته ، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه ، فقولنا فيه تعالى هو معبود لانه هو ، وهو معبود لانه جميل محبوب ، وهو معبود لانه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.
    وروي بطريق عامي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : « إياك نعبد » الاية ، يعني : لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل : كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.
    اقول : والرواية تشير إلى ما تقدم ، من استلزام معنى العبادة للحضور وللاخلاص الذي ينافي قصد البدل.
    وفي تحف العقول عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث : ومن زعم انه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب ، ومن زعم انه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لان الصفة غير الموصوف ، ومن زعم انه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير ، وما قدروا الله حق قدره. الحديث.
    وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) في معنى قوله تعالى : « اهدنا الصراط المستقيم » يعني ارشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك ، والمبلغ إلى جنتك ، والمانع من أن نتبع اهواءنا فنعطب ، أو ان نأخذ بارائنا فنهلك.
    وفي المعاني ايضا عن علي ( عليه السلام ) : في الآية ، يعني ، ادم لنا توفيقك الذي اطعناك به في ماضي ايامنا ، حتى نطيعك كذلك في مستقبل اعمارنا.
    اقول : والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي ، فالرواية الاولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا والثانية إلى اتحادها مفهوما.


(39)
    وفي المعاني أيضا عن علي ( عليه السلام ) : الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو ، وارتفع عن التقصير واستقام ، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.
    وفي المعاني أيضا عن علي ( عليه السلام ) : في معنى صراط الذين الآية : اي : قولوا : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك ، لا بالمال والصحة ، فانهم قد يكونون كفارا أو فساقا ، قال : وهم الذين قال الله : ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن اولئك رفيقا ).
    وفي العيون عن الرضا ( عليه السلام ) عن آبائه عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : لقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : قال الله عزوجل : قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سئل ، إذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدء عبدي باسمي ، وحق علي ان اتمم له اموره ، وابارك له في احواله ، فإذا قال : الحمد لله رب العالمين ، قال الله جل جلاله : حمدني عبدي ، وعلم ان النعم التي له من عندي وان البلايا التي دفعت عنه بتطولي ، أشهدكم أني اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال الرحمن الرحيم ، قال الله جل جلاله : « شهد لي عبدي اني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه ولاجز لن من عطائي نصيبه » ، فإذا قال : مالك يوم الدين قال الله تعالى : أشهدكم ، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين ، لاسهلن يوم الحساب حسابه ، ولا تقبلن حسناته ولا تجاوزن عن سيئاته ، فإذا قال : إياك نعبد ، قال الله عزوجل : صدق عبدي ، إياى يعبد اشهدكم لاثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادتة لي ، فإذا قال : وإياك نستعين قال الله تعالى : بي استعان عبدي والي التجأ ، اشهدكم لاعيننه على أمره ، ولاغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه ، فإذا قال : إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة ، قال الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سئل ، وقد استجبت لعبدي واعطيته ما امل وآمنته مما منه وجل.
    اقول : وروى قريبا منه الصدوق في العلل عن الرضا ( عليه السلام ) ، والرواية كما ترى


(40)
تفسر سورة الفاتحة في الصلوة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه النيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة واظهار العبودية من الثناء لربه واظهار عبادته ، فهى سورة موضوعة للعبادة ، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها واعنى بذلك :
    اولا : ان السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية ونصب نفسه في مقام العبودية.
    وثانيا : انها مقسمة قسمين ، فنصف منها لله ونصف منها للعبد.
    وثالثا : أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على ايجازها واختصارها فان القرآن على سعته العجيبة في معارفه الاصلية وما يتفرع عليها من الفروع من اخلاق واحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيات ووعد ووعيد وقصص وعبر ، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوة والمعاد وفروعاتها ، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به اولاهم وعقباهم ، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ واوضح معنى.
    وعليك ان تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلوة المسلمين بما يضعه النصارى في صلوتهم من الكلام الموجود في انجيل متى : ( 6 ـ 9 ـ 13 ) وهو ما نذكره بلفظه العربي ، ( أبانا الذي في السموات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيتك كما في اسماء كذلك على الارض ، خبزنا كفافنا ، أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين الينا ، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير آمين ).
    تأمل في المعاني التي تفيدها الفاظ هذه الجمل بعنوان انها معارف سماوية ، وما يشتمل عليه من الادب العبودي ، إنها تذكر أولا : أن اباهم ( وهو الله تقدس اسمه ) في السموات !! ثم تدعو في حق الاب بتقدس اسمه واتيان ملكوته ونفوذ مشيتة في الارض كما هي نافذة في السماء ، ولكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الاحزاب السياسية اشبه ؟ ثم تسئل الله اعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة ، و


(41)
جعل الاغماض عن الحق في مقابل الاغماض ، وما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا ؟ وتسئله ان لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير ، ومن المحال ذلك ، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لولا الابتلاء والامتحان ؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين (1) من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين : أن الاسلام لا يربو على غيره في المعارف ، فان جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح ، وإنما تتفاضل الاديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية !!
( بحث آخر روائي )
    في الفقيه وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : الصراط المستقيم أمير المؤمنين ( عليه السلام )
    وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) قال : هي الطريق إلى معرفة الله ، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، فاما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم.
    وفي المعاني ايضا عن السجاد ( عليه السلام ) قال : ليس بين الله وبين حجته حجاب ، ولا لله دون حجته ستر ، نحن ابواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه ، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سره.
    وعن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي ، عن اسباط ومجاهد ، عن ابن عباس في قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم ، قال : قولوا معاشر العباد ! ارشدنا إلى حب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واهل بيته ( عليه السلام )
    اقول : وفي هذه المعاني روايات أخر ، وهذه الاخبار من قبيل الجري ، وعد المصداق للآية ، واعلم ان الجري و ( كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب ) اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت ( عليه السلام )
1 ـ القيس الفاضل كوستار لبون في تاريخ تمدن الاسلام.

(42)
    ففي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن هذه الرواية ، ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف إلا وله حد ، ولكل حد مطلع ما يعنى بقوله ظهر وبطن ؟ قال ؟ ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر ، كلما جاء منه شئ وقع الحديث.
    وفي هذا المعنى روايات أخر ، وهذه سليقة أئمه أهل البيت فإنهم ( عليه السلام ) يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل ان ينطبق عليه من الموارد وان كان خارجا عن مورد النزول ، والاعتبار يساعده ، فان القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل ، وما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان دون زمان ، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع.
    وما ورد من شأن النزول ( وهو الامر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة ) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لان البيان عام والتعليل مطلق ، فان المدح النازل في حق افراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم ، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا ، والقرآن ايضا يدل عليه ، قال تعالى : « يهدي به الله من اتبع رضوانه » المائدة ـ 16 ـ وقال : « وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه » حم سجده ـ 42. وقال تعالى : « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » الحجر ـ 9.
    والروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم ( عليه السلام ) أو على اعدائهم اعني : روايات الجري ، كثيرة في الابواب المختلفة ، وربما تبلغ المئين ، ونحن بعد هذا التنبيه العام نترك ايراد أكثرها في الابحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب ، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.


(43)
بسم الله الرحمن الرحيم الم ـ 1. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ـ 2. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ـ 3. والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون ـ 4. أولئك هدي من ربهم وأولئك هم المفلحون ـ 5.
( بيان )
    لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا ان معظمها تنبئ عن غاية واحدة محصلة وهو بيان ان من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي ووحي ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك ، ثم تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله والتفريق بين رسله ، ثم التخلص إلى بيان عدة من الاحكام كتحويل القبلة واحكام الحج والارث والصوم وغير ذلك.
    قوله تعالى : ألم ، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في اوائل السور ، في اول سورة الشورى ان شاء الله ، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتابا.
    وقوله تعالى : هدى للمتقين الذين يؤمنون الخ ، المتقون هم المؤمنون ، وليست التقوى من الاوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم اعني : لمرتبة من مراتب الايمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الاحسان والاخبات والخلوص ، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الايمان إذا تلبس الايمان بلباس التحقق ، والدليل على ذلك انه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي اخذه تعالى من الاوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها


(44)
    حال المؤمنين والكفار والمنافقين ، خمس صفات ، وهي الايمان بالغيب ، واقامة الصلوة ، والانفاق مما رزق الله سبحانه ، والايمان بما انزله على انبيائه ، والايقان بالآخرة ، وقد وصفهم بانهم على هدى من ربهم فدل ذلك على ان تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه ، فهم انما صاروا متقين اولي هذه الصفات بهداية منه تعالى ، ثم وصف الكتاب بانه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى : « ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين » فعلمنا بذلك : ان الهداية غير الهداية ، وان هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين ، هداية اولى بها صاروا متقين ، وهداية ثانية اكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين ، فانه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين ، ضلال اول هو الموجب لاوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق ، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الاول ، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار : « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة » البقرة ـ 7 ، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى انفسهم ، وكما يقوله في حق المنافقين : « في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا » البقرة ـ 10 فنسب المرض الاول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى : « يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين » البقرة ـ 26 ، وقوله تعالى : « فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم » الصف ـ 5.
    وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين ، كما ان الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين.
    ثم ان الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة ، فان الفطرة إذا سلمت لم تنفك من ان تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى امر خارج عنها ، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى امر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج ، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدء الجميع واليه ينتهي ويعود ، وانه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الاعمال والاخلاق ، وهذا هو


(45)
الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين ، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيتة ، واستعمال ما في وسع الانسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لاحياء هذا الامر ونشره ، وهذان هما الصلاة والانفاق.
    ومن هنا يعلم : ان الذي اخذه سبحانه من اوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وانه سبحانه وعدهم انه سيفيض عليهم امرا سماه هداية ، فهذه الاعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت ، هداية سابقة وهداية لاحقة ، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل ، ومن الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الاولى ، آيات كثيرة كقوله تعالى : « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة » ابراهيم ـ 27. وقوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به » الحديد ـ 28. وقوله تعالى : « إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم » محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ 7. وقوله تعالى : « والله لا يهدي القوم الظالمين » الصف ـ 7. وقوله تعالى : « والله لا يهدي القوم الفاسقين » الصف ـ 5. إلى غير ذلك من الآيات.
    والامر في ضلال الكفار والمنافقين كما في المتقين على ما سيأتي انشاء الله.
    وفي الآيات اشارة إلى حيوة اخرى للانسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحيوة الدنيوية ، وهي الحيوة التي بها يعيش الانسان في هذه الدار و بعد الموت وحين البعث ، قال تعالى : « أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها » الانعام ـ 123 وسيأتي الكلام فيه انشاء الله.
    وقوله سبحانه : يؤمنون الايمان ، تمكن الاعتقاد في القلب ماخوذ من الامن كأن المؤمن يعطي لما امن به الامن من الريب والشك وهو آفة الاعتقاد ، والايمان كما مر معنى ذو مراتب ، إذ الاذعان ربما يتعلق بالشئ نفسه فيترتب عليه اثره فقط ، وربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه ، وربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه ان للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الايمان.
    وقوله سبحانه : بالغيب ، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه الحس ، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا ، ومنها الوحي هو
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس