الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 46 ـ 60
(46)
الذي اشير إليه بقوله : « والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك » فالمراد بالايمان بالغيب في مقابل الايمان بالوحي والايقان بالآخرة ، هو الايمان بالله تعالى ليتم بذلك الايمان بالاصول الثلاثة للدين ، والقرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط ويحرص على اتباع سليم العقل وخالص اللب.
    وقوله سبحانه : وبالاخرة هم يوقنون ، العدول في خصوص الاذعان بالاخرة عن الايمان إلى الايقان ، كأنه للاشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالاخرة الذي لا يجامع نسيانها ، دون الايمان المجرد ، فان الانسان ربما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه ، لكنه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من اعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى : « ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب » ص ـ 26. فبين تعالى : ان الضلال عن سبيل الله انما هو بنسيان يوم الحساب ، فذكره واليقين به ينتج التقوى.
    وقوله تعالى : اؤلئك على هدى من ربهم ، الهداية كلها من الله سبحانه ، لا ينسب إلى غيره البتة الا على نحو من المجاز كما سيأتي ان شاء الله ، ولما وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها : « فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره » : لانعام ـ 125 ، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح ، يدفع عنه كل ضيق وشح ، وقد قال تعالى : « ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون » الحشر ـ 9 ، عقب سبحانه ههنا أيضا قوله : اؤلئك على هدى من ربهم ، بقوله : « واولئك هم المفلحون » الآية.
( بحث روائي )
     في المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : « الذين يؤمنون بالغيب » ، قال : من آمن بقيام القائم ( عليه السلام ) انه حق.
    اقول : وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية وهو من الجرى.


(47)
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : « ومما رزقناهم ينفقون » قال : ومما علمنا هم يبثون.
    وفي المعاني عنه ( عليه السلام ) : في الآية : « ومما علمناهم يبثون » ، وما علمناهم من القرآن يتلون.
    اقول : والروايتان مبنيتان على حمل الانفاق على الاعم من انفاق المال كما ذكرناه.

    هل يجوز التعويل على غير الادراكات الحسية من المعاني العقلية ؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين ، وان كان المعظم من القدماو حكماء الاسلام على جواز التعويل على الحس والعقل معا ، بل ذكروا ان البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث انه محسوس ، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك ، والمعظم منهم وخاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس ، وقد احتجوا على ذلك بان العقليات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطأ وهو الحس والتجربة المماسان للجزئيات بخلاف الادراكات الحسية فانا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس اتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الامثال ، ولا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك ، والحجة باطلة مدخولة.
    اولا : بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها.
    وثانيا : بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطأ والغلط في العقليات ، كما يرشد إليه الابحاث التي اوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات ، فلو كان مجرد وقوع الخطأ في باب موجبا لسده وسقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس اوجب والزم.


(48)
     وثالثا : ان التميز بين الخطأ والصواب مما لا بد منه في جميع المدر كات غير ان التجربة وهو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير احدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب ، فانا إذا ادركنا بالحس خاصة من الخواص ثم اتبعناه بالتجربة بتكرار الامثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل : ان هذه الخاصة دائمي الوجود أو اكثري الوجود لهذا الموضوع ، ولو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو اكثري ، لكنه دائمي أو اكثري وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية ولا تجريبية.
    ورابعا : هب ان جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة اخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس ، فالاعتماد على الحس والتجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.
    وخامسا : ان الحس لا ينال غير الجزئي المتغير والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلية وهي غير محسوسة ولا مجربة ، فان التشريح مثلا انما ينال من الانسان مثلا افرادا معدودين قليلين أو كثيرين ، يعطي للحس فيها مشاهدة ان لهذا الانسان قلبا وكبدا مثلا ، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر وذلك غير الحكم الكلي في قولنا : كل انسان فله قلب أو كبد ، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحس والتجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا ادراك كلي ولا فكر نظري ولا بحث علمي ، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية ، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية والمدرك لهذه الاحكام العامة ، ولا ريب ان الانسان معه شئ شأنه هذا الشأن ، وكيف يتصور ان يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأسا ؟ أو يمكن ان يخطئ في فعله الذي خصه به التكوين ؟ والتكوين انما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما ، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط ؟
    واما وقوع الخطأ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الامر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.


(49)
    الانسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحيوة لا يرى من نفسه إلا انه ينال من الاشياء اعيانها الخارجية من غير ان يتنبه انه يوسط بينه وبينها وصف العلم ، ولا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن ، وعند ذلك يتنبه : انه لا ينفك في سيره الحيوي ومعاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما وهو ربما يخطئ ويغلط في تميزاته ، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الاعيان ، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم ( وهو الادراك المانع من النقيض ) فيه.
    ثم البحث البالغ يوصلنا ايضا إلى هذه النتيجة ، فان ادراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية اول الاوائل ( وهى ان الايجاب والسلب لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا ) فما من قضية بديهية أو نظرية الا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الاولية ، حتى انا لو فرضنا من انفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض ، وإذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها ، وعليها معول الانسان في انظاره واعماله.
    فما من موقف علمي ولا واقعة عملية إلا ومعول الانسان فيه على العلم ، حتى انه انما يشخص شكه بعلمه أنه شك ، وكذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم انه ظن أو وهم أو جهل هذا.
    ولقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسو فسطائيين نفوا وجود العلم ، وكانوا يبدون في كل شئ الشك حتى في انفسهم وفي شكهم ، وتبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن انفسهم وافكارهم ( ادراكاتهم ) وربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.
    منها : أن اقوى العلوم والادراكات ( وهي الحاصلة لنا من طرق الحواس ) مملوءة


(50)
خطأ وغلطا فكيف بغيرها ؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شئ من العلوم والتصديقات المتعلقة بالخارج منا ؟
    ومنها : انا كلما قصدنا نيل شئ من الاشياء الخارجية لم ننل عند ذلك الا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشئ من الاشياء ؟ إلى غير ذلك من الوجوه.
    والجواب عن الاول : أن هذا الاستدلال يبطل نفسه ، فلو لم يجز الاعتماد على شئ من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال ، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه ، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل انما يدعيه في الجملة ، وبعبارة اخرى يدعي الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي والحجة لا تفي بنفي ذلك.
    والجواب عن الثاني : أن محل النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ما ورائه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الاشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ ، ونحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة ، ولم يدع احد في باب وجود العلم : انا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه ، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحيوة الاختيارية وغيرها ، فانهم يتحركون إلى الغذاء والماء عند احساس الم الجوع والعطش ، وكذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي ، ويهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره ، وبالجملة كل حاجة نفسانية الهمتها إليهم احساساتهم اوجدوا حركة خارجية لرفعها ولكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها ، وبين التصورين فرق لا محالة ، وهو ان احد العلمين يوجده الانسان باختياره ومن عند نفسه والاخر انما يوجد في الانسان بايجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه ، وهو الذي يكشف عنه العلم ، فاذن العلم موجود وذلك ما اردناه.
     واعلم : أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر وهو الذي وضع عليه اساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت ( وكل علم ثابت ) ، بيانه : ان البحث العلمي


(51)
يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول والتكامل ، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة متوجه إلى الكمال ، فما من شئ إلا وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الآول من وجوده ، ولا شك ان الفكر والادراك من خواص الدماغ فهي خاصة مادية لمركب مادي ، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول والتكامل ، فهذه الادراكات ( ومنها الادراك المسمى بالعلم ) واقعة في التغير والتحول فلا معنى لوجود علم ثابت باق وانما هو نسبي ، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمرا أو أخفى نقيضا ونقضا من بعض آخر وهو المسمى بالعلم فيما وجد.
     والجواب عنه : أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده وليس ذلك بينا ولا مبينا بل الحق ان العلم ليس بمادي البتة ، وذلك لعدم إنطباق صفات المادة وخواصها عليه.
     ( 1 ) فان الماديات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة.
     ( 2 ) والماديات مكانية زمانية والعلم بما أنه علم لا يقبل مكانا ولا زمانا ، والدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين وزمان معين في كل مكان وكل زمان مع حفظ العينية.
     ( 3 ) والماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية فالتغير خاصة عمومية فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير ، فان حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير والتبدل وهو ظاهر عند المتأمل.
     ( 4 ) ولو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شئ واحد ولا حادثة واحدة فوقتين مختلفين معا ولا تذكر شئ أو حادثة سابقة في زمان لاحق ، فان الشئ المتغير وهو في الآن الثاني غيره في الآن الآول ، فهذه الوجوه ونظائرها دالة على ان العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة ، وأما ما يحصل في العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلا ولا دليل على أنه هو العلم ، ومجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الامور لا يدل على كونهما أمرا واحدا ، والزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر.


(52)
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ـ 6. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ـ 7.
( بيان )
    قوله تعالى : إن الذين كفروا ، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكن الجحود من قلوبهم ، ويدل عليه وصف حالهم بمساواة الانذار وعدمه فيهم ، ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش وكبراء مكة الذين عاندوا ولجوا في أمر الدين ولم يألوا جهدا في ذلك ولم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره ، ويؤيده أن هذا التعبير وهو قوله : « سواء عليهم ، أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » ، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار وإلا انسد باب الهداية القرآن ينادي على خلافه ، وايضا هذا التعبير إنما وقع في سورة يس ( وهي مكية ) وفي هذه السورة ( وهي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة ) نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد ، فالأشبه أن يكون المراد من الذين كفروا ، هيهنا وفي ساير الموارد من كلامه تعالى : كفار مكة في اول البعثة إلا أن تقوم قرينة على خلافه ، نظير ما سيأتي ان المراد من قوله تعالى : « الذين آمنوا ، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الاولون من المسلمين » ، خصوا بهذا الخطاب تشريفا.
     وقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ( الخ) يشعر تغيير السياق : ( حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم انفسهم ) بأن فيهم حجابا دون الحق في أنفسهم وحجابا من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم ، فأعمالهم متوسطة بين حجا بين : من ذاتهم ومن الله تعالى ، وسيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى : « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ». واعلم ان الكفر كالايمان وصف قابل للشدة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالايمان.


(53)
    في الكافي عن الزبيري عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له : أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل ، قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود ، والجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البرائة ، وكفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول : لا رب ولا جنة ولا نار ، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية وهم الذين يقولون وما يهلكنا إلا الدهر وهو دين وضعوه لانفسهم بالاستحسان منهم ولا تحقيق لشئ مما يقولون : قال عزوجل : ان هم إلا يظنون ، أن ذلك كما يقولون ، وقال : « ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » ، يعني بتوحيد الله ، فهذا أحد وجوه الكفر.
     وأما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة ، وهو ان يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده ، وقد قال الله عزوجل : « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا » ، وقال الله عزوجل : « وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين » ، فهذا تفسير وجهى الجحود ، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان : « هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن يكفر فإن الله غني كريم » ، وقال : « لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » ، وقال : « فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ».
     والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزوجل به ، وهو قول عزوجل : « وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض » فكفرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ونسبهم إلى الايمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال : فما جزاء من يفعل


(54)
ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون.
     والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة وذلك قول الله عزوجل يحكي قول ابراهيم : « وكفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده » ، يعني تبرأنا منكم ، وقال : « يذكر ابليس وتبريه من أوليائه من الانس يوم القيامة » إني كفرت بما أشركتمون من قبل ، وقال : انما اتخذتم من دون الله اوثانا مودة بينكم في الحيوة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ، يعني يتبرأ بعضكم من بعض.
     اقول : وهي في بيان قبول الكفر الشدة والضعف كما مر.
    ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ـ 8. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ـ 9. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ـ 10. وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون ـ 11. ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ـ 12. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء لكن لا يعلمون ـ 13. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزون ـ 14. الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ـ 15. أؤلئك


(55)
الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ـ 16. مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما اضائت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ـ 17. صم بكم عمي فهم لا يرجعون ـ 18. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ـ 19. يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير ـ 20.
( بيان )
     قوله تعالى : ومن الناس من يقول إلى آخر الآيات ، الخدعة نوع من المكر ، والشيطان هو الشرير ولذلك سمي إبليس شيطانا.
    وفي الآيات بيان حال المنافقين ، وسيجئ إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين وغيرها.
     وقوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( الخ) مثل يمثل به حالهم ، انهم كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر ولا نافع من ضار فتسبب لرفعها بسبب من أسباب الاستضائة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلما توقدت وأضائت ما حولها أخمدها الله بسبب من الاسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقى فيما كان عليه


(56)
من الظلمة وتورط بين ظلمتين : ظلمة كان فيها وظلمة الحيرة وبطلان السبب.
     وهذه حال المنافق ، يظهر الايمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغيرهما حتى إذا حان حين الموت وهو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الايمان ذهب الله بنوره وأبطل ما عمله وتركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئا ويقع بين الظلمة الاصلية وما أوجده من الظلمة بفعاله.
     وقوله تعالى : أو كصيب من السماء الخ ، الصيب هو المطر الغزير ، والبرق معروف ، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الابراق ، والصاعقة هي النازلة من البروق.
     وهذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الايمان ، انهم كالذي أخذه صيب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الابصار والتمييز ، فالصيب يضطره إلى الفرار والتخلص ، والظلمة تمنعه ذلك ، والمهولات من الرعد والصاعقة محيطة به فلا يجد مناصا من أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متصل كلما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام.
     وهذه حال المنافق فهو لا يحب الايمان ولا يجد بدا من اظهاره ، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضئ له طريقه تمام الاستضائة ، فلا يزال يخبط خبطا بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا ويقف قليلا ويفضحه الله بذلك ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره فيفتضح من اول يوم.
    يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ـ 21. الذى جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ـ 22. وإن كنتم في ريب مما نزلنا


(57)
على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين ـ 23. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس الحجارة أعدت للكافرين ـ 24. وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون ـ 25.
( بيان )
    قوله تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ( الخ) ، لما بين سبحانه : حال الفرق الثلاث : المتقين والكافرين ، والمنافقين ، وان المتقين على هدى من ربهم والقرآن هدى لهم ، وان الكافرين مختوم على قلوبهم ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وأن المنافقين مرضى وزادهم الله مرضا وهم صم بكم عمى « وذلك في تمام تسع عشرة » آية فرع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته وأن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين والمنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله : خالدون. وهذا السياق يعطي كون قوله : لعلكم تتقون متعلقا بقوله : اعبدوا ، دون قوله خلقكم وان كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين.
     وقوله تعالى : « فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون » ، الانداد جمع ند كمثل ، وزنا ومعنى وعدم تقييد قوله تعالى : وانتم تعلمون بقيد خاص وجعله حالا من قوله تعالى : فلا تجعلوا ، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأن الانسان وله علم ما كيفما كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أندادا والحال انه سبحانه هو الذي خلقهم والذين من قبلهم ثم نظم النظام الكوني لرزقهم وبقائهم.
     وقوله تعالى : فأتوا بسورة من مثله أمر تعجيزي لابانة إعجاز القرآن ، وأنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه ، إعجازا باقيا بمر الدهور وتوالي القرون ،


(58)
وقد تكرر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى : « قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا » الاسراء ـ 88 ، وقوله تعالى : « أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين » هود ـ 13. وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى : مما نزلنا ، ويكون تعجيزا بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه.
     ويمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله : عبدنا ، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث ان الذي جاء به رجل امي لم يتعلم من معلم ولم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى : « قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون » يونس ـ 16 ، وقد ورد التفسيران معا في بعض الاخبار.
     واعلم : ان هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلا ، وما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جمعا ولا يخصص قوله ذاك بسورة دون سورة ، فلا معنى لرده باتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا : وان تكنتم في من سورة الكوثر أو الاخلاص مثلا فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهم بين الاستهجان هذا.

    اعلم : ان دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذى أبدتها هذه الآية تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين ، وهما دعوى ثبوت أصل الاعجاز وخرق العادة الجارية ودعوى ان القران مصداق من مصاديق الاعجاز ومعلوم ان الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الاولى ، والقرآن ايضا يكتفى بهذا النمط من البيان ويتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الاعجاز مع


(59)
اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من إستناد المسببات إلى أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببية أو تخلف واختلاف في قانون العلية ، والقرآن يبين حقيقة الامر ويزيل الشبهة فيه.
     فالقرآن يشدق في بيان الامر من جهتين.
     الاولى : أن الاعجاز ثابت ومن مصاديقه القران المثبت لاصل الاعجاز ولكون منه بالتحدي.
     الثانية : أنه ما هو حقيقة الاعجاز وكيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها وينقض كليتها.

    لا ريب في أن القرآن يتحدى بالاعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية ومدنية تدل جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى : « وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله » الآية ، اي من مثل لنبي ( صلى إليه عليه وآله وسلم ) إستدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا أنه إستدلال على النبوة مستقيما وبلا واسطة ، والدليل عليه قوله تعالى في اولها : ( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) ولم يقل وان كنتم في ريب من رسالة عبدنا ، فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله ، والآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمها تحديا قوله تعالى : « قل لئن إجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا » الاسراء ـ 88 ، والآية مكية وفيها من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.
    فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن وجزالة اسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا وهم العرب العرباء من الجاهليين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده ، وقد قرع بالآية أسماع الانس والجن.
     وكذا غير البلاغة والجزالة من كل صفة خاصة إشتمل عليها القرآن كالمعارف


(60)
الحقيقية والاخلاق الفاضلة والاحكام التشريعية والاخبار المغيبة ومعارف اخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك ، كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم ، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.
     فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالم في علمه وللاجتماعي في اجتماعه ، وللمقنين في تقنينهم وللسياسيين في سياستهم ، وللحكام في حكومتهم ، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان.
    ومن هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه اعجازا لكل فرد من الانس والجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول ، فان الانسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها ، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة ، فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟ وهل يمكنها أن تاتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كل حكم ونتيجته ، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الاحصاء العجيب والاتقان الغريب من رجل امي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الانسانية على مزاياها التي لا تحصى وكمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات الغزوات ونهب الاموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الاولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الامهات ويتباهوا بالفجور ويذموا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميتهم الكاذبة اذلاء لكل مستذل وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويوما للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس