الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 196 ـ 210
(196)
قرابين متعلقة بالكواكب واصنامها وهياكلها ، وذبائح يتولاها كهنتهم وفاتنوهم ، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرب وجواب ما يسأل عنه ، وقد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ ، وبعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس.
    وقد قيل : إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة ، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء والوثنية ، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في ايام كورش وايام ارطحشست إلى بيت المقدس ، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنصر ، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية واليهودية ، كالسامرة بالشام ، وقد توجد اكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهرى الصلة منتمين إلى انوش بن شيث ، ومخالفين للحرانية ، عائبين مذاهبهم ، لا يوافقونهم الا في أشياء قليلة ، حتى انهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي والحرانية إلى الجنوبي ، وزعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي ، وأن الصابئة سموا به ، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الارض وكانوا عبدة اوثان ، وبقاياهم الآن بالهند والصين والتغزغز ويسميهم أهل خراسان شمنان ، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند ، ويقولون : بقدم الدهر ، وتناسخ الارواح وهوي الفلك في خلا غير متناه ، ولذلك يتحرك على استدارة فإن الشئ المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران ، زعموا ومنهم من أقر بحدوث العالم ، وزعم أن مدته ألف الف سنة إنتهى موضع الحاجة.
     أقول : وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية هو الاوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لاهل الملة.
    إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة وأذكروا ما فيه لعلكم تتقون ـ 63. ثم توليتم


(197)
من بعد ذلك فلو لا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ـ 64. ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فلنا لهم كونوا قردة خاسئين ـ 65. فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ـ 66. وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا اتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ـ 67. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ـ 68. قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ـ 69. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون ـ 70.قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ـ 71. وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ـ 72. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ـ 73. ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الآنهار وأن منها لما


(198)
يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ـ 74.
( بيان )
    قوله تعالى : ورفعنا فوقكم الطور ، الطور هو الجبل كما بدله منه في قوله تعالى : « وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة » الاعراف ـ 171 ، والنتق هوالجذب والاقتلاع ، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولا والامر بأخذ ما أوتوا وذكر ما فيه أخيرا ووضع رفع الطور فوقهم بين الامرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدل على أنه كان لارهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لاجبارهم وإكراههم على العمل بما اوتوه وإلا لم يكن لاخذ الميثاق وجه ، فما ربما يقال : أن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه : « لا إكراه في الدين » البقرة ـ 256 ، وقال تعالى : « أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين » يونس ـ 99 ، غير وجيه فإن الآية كما مر لا تدل على أزيد من الاخافة والارهاب ولو كان مجرد رفع الجبل فوق بني اسرائيل إكراها لهم على الايمان أو العمل ، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للاكراه ، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها ، والقول بأن بني اسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتى أظل رأسه عليهم ، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم ، مبنى على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات ، وقد مر الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور ، ولا لبلاغة الكلام وفصاحتة أصل تتكي عليه وتقوم به.
     قوله تعالى : لعلكم تتقون. لعل كلمة ترج واللازم في الترجي صحتة في الكلام سواء كان قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام ، كان يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الامر فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الامور ، كما نبه عليه الراغب في مفرداته.


(199)
قوله تعالى : كونوا قردة خاسئين أي صاغرين.
     قوله تعالى : فجعلناها نكالا أي عبرة يعتبر بها ، والنكال هو ما يفعل من الاذلال والاهانة بواحد ليعتبر به آخرون.
     قوله تعالى : « وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » الخ ، هذه قصة بقرة بني اسرائيل ، وبها سميت السورة سورة البقرة. والامر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فان القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى : « وإذ قال موسى لقومه إلى آخره » ثم قال : « وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها » ثم إنه أخرج فصل منها من وسطها وقدم أولا ووضع صدر القصة وذيلها ثانيا ، ثم إن الكلام كان مع بني اسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال : « وإذ قال موسى لقومه ثم التفت إلى الخطاب ثانيا » بقوله : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها.
    أما الالتفات في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل ، وتوجيهه إلى النبي في شطر من القصة وهو أمر ذبح البقرة وتوصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ، فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله : وإذ قال موسى إلى قوله : وما كادوا يفعلون ، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء ادبهم وإيذائهم لرسولهم ، برميه بفضول القول ولغو الكلام ، مع ما فيه من تعنتهم وتشديدهم واصرارهم في الاستيضاح والاستفهام المستلزم لنسبة الابهام إلى الاوامر الالهية وبيانات الانبياء مع ما في ، كلامهم من شوب الاهانة والاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى ( عليه السلام ) لهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وقولهم : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ، وقولهم ثانيا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ، وقولهم ثالثا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا ، فأتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا ، ثم كرروا قولهم : ما هي وقالوا ان البقر تشابه علينا فادعوا التشابه بعد البيان ، ولم يقولوا : ان البقرة تشابهت علينا بل قالوا : إن البقر


(200)
تشابه علينا كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه ولا يؤثر هذا إلاثر إلا بعض أفراد هذا النوع وهذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب وتشخيصه ، مع ان التأثير لله عز إسمه لا للبقرة ، وقد أمرهم أن يذبحوا بقرة فاطلق القول ولم يقيده بقيد ، وكان لهم أن يأخذوا بإطلاقه ، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم : أتتخذنا هزوا ، المتضمن لرميه ( عليه السلام ) بالجهالة واللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله : أعوذ بالله أن اكون من الجاهلين ، وقولهم أخيرا بعد تمام البيان الالهي : الآن جئت بالحق ، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الالهى والتبليغ النبوي.
     وبالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لابانة الامر في الخطاب التالي كما ذكر مضافا إلى نكتة اخرى ، وهي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة اصلا أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف ، فأعرض عن خطابهم اولا بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الاصل ، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل ، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة وهاك عبارة التوراة.
    قال في الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنيه الاشتراع : إذا وجد قتيل في الارض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لانه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا بإسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرخون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر إغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم برئ في وسط شعبك اسرائيل فيغفر لهم الدم نتهى.
    إذا عرفت هذا على طوله ، علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل


(201)
فصل لقصة ، بل القصة مبينة على نحو الاجمال في الخطاب الذي في قوله : وإذ قتلتم نفسا الخ وشطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة اخرى لنكتة دعت إليه.
     فقوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو كلام في صورة قصة وانما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكرمعها السبب الباعث على هذا الامر والغاية المقصودة منها بل اطلقت إطلاقا ليتنبه بذلك نفس السامع وتقف موقف التجسس ، وتنتشط إذا سمعت أصل القصة ، ونالت الارتباط بين الكلامين ، ولذلك لما سمعت بنو اسرائيل قوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة تعجبوا من ذلك ولم يحملوه إلا على أن نبي الله موسى يستهزء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة وما يسألونه من فصل الخصومة والحصول على القاتل قالوا أتتخذنا هزوا وسخرية.
     وانما قالوا ذلك لفقدهم روح الاطاعة والسمع وإستقرار ملكة الاستكبار والعتو فيهم ، وقولهم : إنا لا نحوم حول التقليد المذموم ، وانما نؤمن بما نشاهده ونراه كما قالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وانما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم والقضاء فيما لهم ذلك ، وفيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر وقالوا : « يا موسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون » الاعراف ـ 138 ، وزعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم ، ويلعب كلعبهم ، فرموه بالاستهزاء والسفه والجهالة حتى رد عليهم ، وقال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، وانما استعاذ بالله ولم يخبر عن نفسه بأنه ليس يجاهل لان ذلك منه ( عليه السلام ) أخذ بالعصمة الالهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف.
     وزعموا أن ليس للانسان أن يقبل قولا إلا عن دليل ، وهذا حق لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا ولا يكفي في ذلك الاجمال ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الاحياء ، فإن كان ولا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان ولذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ، وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم ، وقال موسى إنه يقول إنها بقرة لا فارض ، إي ليست بمسنة إنقطعت


(202)
ولادتها ولا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك ، والعوان من النساء والبهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض والبكر ، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال ، ولا يشددوا على أنفسهم ويقنعوا بما بين لهم فقال : فافعلوا ما تؤمرون ، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها ، قال إنه يقول انها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين وتم بذلك وصف البقرة بيانا ، واتضح أنها ما هي وما لونها وهم مع ذلك لم يرضوا به ، وأعادوا كلامهم الاول ، من غير تحجب وانقباض وقالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا انشاء الله لمهتدون ، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها ولونها وقال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث والسقي تثير الارض بالشيار ولا تسقي الحرث فلما تم عليهم البيان ولم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالالزام والحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا ، فيعترف بالحق إضطرارا ، ويعتذر عن المبادرة إلى الانكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل ، ولا بينا تاما. والدليل على ذلك قوله تعالى : فذبحوها وما كادوا يفعلون.
     قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، شروع في أصل القصة والتدارء هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا نفسا ـ وكل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها ـ واراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.
     قوله تعالى : فقلنا إضربوه ببعضها ، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل ، وثانيهما إلى البقرة وقد قيل : إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التورية الذي نقلناه ، والمراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول ، نظير ما ذكره تعالى بقوله : « ولكم في القصاص حيوة » البقرة ـ 179 ، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الاعجاز هذا ، وأنت خبير بأن سياق الكلام وخاصة قوله تعالى : فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتي يأبى ذلك.
     قوله تعالى : ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة القسوة ، في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر وكلمة أو بمعنى بل ، والمراد بكونها بمعنى بل إنطباق معناه على موردها ،


(203)
وقد بين شده قسوة قلوبهم بقوله : وإن من الحجرة لما يتفجر منه الانهار وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الانهار على لين مائها وتشقق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها ، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق ، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع ،
    قوله تعالى : وإن منها لما يهبط من خشية الله ، وهبوط الحجارة ما نشاهد من إنشقاق الصخور على قلل الجبال ، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل ، وصيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء مائا في فصل الربيع إلى غير ذلك ، وعد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لان جميع الاسباب منتهية إلى الله سبحانه فإنفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها إنفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط ، وهي شاعرة لامر ربها شعورا تكوينيا ، كما قال تعالى : « وإن من شئ إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم » اسرى ـ 44 ، وقال تعالى : « كل له قانتون » البقرة ـ 116 ، والانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى ، فالآية جارية مجرى قوله تعالى : « ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفتة » الرعد ـ 13 : وقوله تعالى : « ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال » الرعد ـ 15 ، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد وعد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.
     وبالجملة فقوله : وإن منها لما يهبط ، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى ، فتهبط من خشيتة ، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه.
( بحث روائي )
     في محاسن : عن الصادق ( عليه السلام ) : في قول الله خذوا ما آتيناكم بقوة ، أقوة


(204)
لابدان أو قوة القلب ؟ قال ( عليه السلام ) : فيهما جميعا.
     أقول : ورواه العياشي أيضا في تفسيره.
    وفي تفسير العياشي. عن الحلبي في قوله تعالى : وأذكروا ما فيه ، قال : قال أذكروا ما فيه وأذكروا ما في تركه من العقوبة.
     أقول : وقد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى : ورفعنا فوقكم الطور خذوا.
    وفي الدر المنثور : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لو لا أن بني إسرائيل قالوا وإنا إنشاء الله لمتهدون ما أعطوا أبدا ولو أنهم إعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لاجزات عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
    وفي تفسير القمي : عن إبن فضال قال : سمعت أبا الحسن ( عليه السلام ) يقول : إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة وإنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم.
    وفي المعاني وتفسير العياشي : عن البزنطي قال : سمعت الرضا ( عليه السلام ) يقول : إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى ان سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله قال : إئتوني ببقرة قالوا : أتتخذنا هزوا ؟ قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم ، قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر يعني لا صغيرة ولا كبيرة عوان بين ذلك ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون. قال : إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحق فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا


(205)
بملؤ مسك ذهبا ، فجاءوا إلى موسى وقالوا له ذلك قال إشتروها فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ثم أمر إن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول وقال يا رسول الله إن إبن عمي قتلني ، دون من إدعى عليه قتلي ، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ فقال وما هو ؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بابيه وإنه اشترى بيعا فجاء إلى أبيه والاقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت ، هذه البقرة فهي لك عوضا مما فاتك فقال له رسول الله موسى أنظر إلى البر ما بلغ بأهله.
     اقول : والروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.

    السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة ، في قصص بني إسرائيل وغيرهم ، كفرق البحر وإغراق آل فرعون في قوله تعالى : « وإذ فرقنا بكم البحر أغرقنا آل فرعون » الآية ، وأخذ الصاعقة بني إسرائيل وإحيائهم بعد الموت في قوله تعالى : « وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك » الآية ، وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى عليهم في قوله تعالى : « وظللنا عليكم الغمام » الآية ، وإنفجار العيون من الحجر في قوله تعالى : « وإذ إستسقى موسى لقومه » الآية ، ورفع الطور فوقهم في قوله تعالى : « ورفعنا فوقكم الطور » الآية ، ومسخ قوم منهم في قوله تعالى : « فقلنا لهم كونوا قردة » الآية ، وإحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله : « فقلنا إضربوه ببعضها » الآية ، وكإحياء قوم آخرين في قوله « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم » الآية ، وكإحياء الذي مر على قرية خربة في قوله أو « كالذى مر على قرية وهي خاوية على عروشها » الآية ، وكإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى : « وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى » الآية ، فهذه إثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل ـ ذكرها القرآن ـ وقد بينا فيما مر إمكان وقوع المعجزة وأن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود وهي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية والمعلولية الكلي ، وتبين به أن


(206)
لا دليل علي تأويل لآيات الظاهرة في وقوع الاعجاز ، وصرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة ، بخلاف المحالات كإنقسام الثلثة بمتساويين وتولد مولود يكون أبا لنفسه ، فإنه لا سبيل إلى جوازها.
    نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى والمسخ ببحث آخر ، فقد قيل : إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال والفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانيا ، وكذلك كل ما هو أكمل وجودا فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجودا منه من حيث هو كذلك. والانسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجودا مجردا مثاليا أو عقليا ، وهاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة ، والوجود فيهما أقوى من الوجود المادي ، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانيا ، وإلا لزم رجوع الشئ إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل ، وهو محال ، وأيضا الانسان أقوى وجودا من سائر أنواع الحيوان ، فمن المحال أن يعود الانسان شيئا من سائر أنواع الحيوان بالمسخ.
     أقول : ما ذكره من إستحاله رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لا ريب فيه ، لكن عود الميت إلى حيوته الدنيا ثانيا في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه. بيان ذلك : أن المحصل من الحس والبرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية ، فيتصور بالصورة الحيوانية وهي صورة مجردة بالتجرد البرزخي ، وحقيقتها إدراك الشئ نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوما إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسدا لا حراك به ، ثم أن الصورة الحيوانية مبدأ لافعال إدراكية تصدر عنها ، وأحوال علمية تترتب عليها ، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الاحوال بصدورها منها ، ولا يزال نقش عن نقش ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلع للزوال ، وملكة راسخة ، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيوانى فتصير حيوانا خاصا ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس


(207)
على مرتبتها الساذجة السابقة ، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتا ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية ، ولو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الادراكية المتعلقة بالمادة شيئا فشيئا حتى تصير حيوانا خاصا إن عمر العمر الطبيعي أو قدرا معتدا به ، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية ، ثم أن الحيوان إذا وقعت في صراط الانسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلا كليا مجردا عن المادة ولوازمها من المقادير والالوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي ، وتحققت له صورة الانسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان.
    ثم إن لهذه الصورة أيضا أفعالا وأحوالا تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الانسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.
    إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنسانا رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضا وهي مع التعلق ثانيا حافظة لتجردها ، والذي كان لها بالموت أن الاداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والدوات اللازمة لها ، فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الاحوال والملكات بواسطة الافعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالا جديدا من غير أن يكون ذلك منه رجوعا قهقرى وسيرا نزوليا من الكمال إلى النقص ، ومن الفعل إلى القوة.
    فان قلت : هذا يوجب القول : بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه ، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة لافعال المادية بالتعلق بالمادة ثانيا كان بقائها على الحرمان من الكمال إلى الابد حرمانا عما تستدعيه بطباعها ، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة ، والحرمان المستمر


(208)
قسر دائم.
     قلت : هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا واتصلت إلى حد وماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائما بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك وتبقى على ذلك وتزول الامكان المذكور بعد ذلك فالانسان الذي مات وله نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالا وخلط عملا صالحا وآخر سيئا لو عاش حينا أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيده أو شقيه وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الافعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية وعند ذلك يبطل الامكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقلية فإن عاد إلى الدنيا كالانبياء والاولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة والافعال المتعلقة بها ولو لم يعد فليس له إلا ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه ، والسير في صراطه ، هذا.
    ومن المعلوم أن هذا ليس قسرا دائما ولو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل وتأثير علل مؤثرة قسرا دائما لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم ، وموطن التضاد أو جميعها قسرا دائما ، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع ، وإنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الانواع إقتضاء كمال من الكمالات أو إستعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائما إما لا مر في داخل ذاته أو لامر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزا باطلا وتجبيلا هباء لغوا فافهم ذلك ، وكذا لو فرضنا إنسانا تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير فإنما هي صورة على صورة ، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة ، لا إنسان بطلت إنسانيتة وخلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها ، فالانسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت ، وقد مر أن النفس


(209)
الانسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الابهام وتقيدها بعد الاطلاق والقبول فالممسوخ من الانسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للانسانية هذا ، ونحن نقرا في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا وأمريكا ما يؤخذ جواز الحيوة بعد الموت ، وتبدل صورة الانسان بصورة المسخ ، وإن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الاخبار ، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالامس.
    فإن قلت : فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ.
     قلت : كلا فإن لتناسخ وهو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال ، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد ، وهو وحدة الكثير ، وكثرة الواحد ، وإن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة ، كرجوع الشيخ إلى الصبا ، وكذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نبأتي أو حيواني بما مر من البيان.

    أكثر الا مم الماضية قصة في القرآن امة بني اسرائيل ، وأكثر الانبياء ذكرا فيه موسى بن عمران ( عليه السلام ) ، فقد ذكر اسمه في القرآن ، في مائة وستة وثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم ( عليه السلام ) الذي هو أكثر الانبياء ذكرا بعد موسى ، فقد ذكر في تسعة وستين موضعا على ما قيل فيهما ، والوجه الظاهر فيه أن الاسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم ( عليه السلام ) وأتمه الله سبحانه وأكمله لنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال تعالى : « ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل » الحج ـ 78 ، وبنو إسرائيل أكثر الامم لجاجا وخصاما ، وأبعدهم من الانقياد للحق ، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلى بهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على هذه الصفة ، فقد آل الامر إلى أن نزل فيهم : « إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » البقرة ـ 6.


(210)
ولا ترى رذيلة من رذائل بني اسرائيل في قسوتهم وجفوتهم مما ذكره القرآن إلا وهو موجود فيهم ، وكيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني اسرائيل المذكورة في القرآن ، وأمعنت فيها ، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية ، فقد كانت هذه الامة لا تؤمن بما وراء الحس ، ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي وهم اليوم كذلك. وهذا الشأن هو الذي صير عقلهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة ، لا يعقلون إلا ما يجوزانه ، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس ، وإن كان حقا وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة ، وزخرف الحياة وإن لم يكن حقا ، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا ، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم ، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحيوة ، وان كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية ، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم على مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت إستذلال المصريين ، واسترقاقهم ، وتعذيبهم ، يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربهم عظيم.
     وبالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم ، والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم ( تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى وغيره ) وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم.
    وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي اتحفها إليها عالم الغرب ، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية ، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الانسانية في أحكامهاو ارتحال المعارف العالية والاخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الانسانية بالانهدام ، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين.
     واستيفاء البحث في الاخلاق ينتج خلاف ذلك ، فما كل دليل بمطلوب ، وما كل تقليد بمذموم ، بيان ذلك : أن النوع الانساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس