الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 226 ـ 240
(226)
الاستدلالات الاعتزاليه غير انه من الممكن ان يجعل على نفسه حقا ، جعلا بحسب لسان التشريع ـ فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى : « وكذلك حقا علينا ننجي المؤمنين » يونس ـ 103 ، وقال تعالى : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. جندنا لهم الغالبون » الصافات ـ 171 و 172 و 173.
     والنصر كما ترى مطلق ، غير مقيد بشئ فالانجاء حق للمؤمنين على الله ، والنصر حق للمرسل على الله تعالى وقد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرف للحق والمقسم بكل أمر شريف.
    إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو بحق نبيه وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم وقد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت. وأما قول القائل : ليس لاحد على الله حق فكلام واه.
    نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه. كلام لاحد في ذلك ولا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا.
    إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ـ 94. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ـ 95. ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود


(227)
أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر والله بصير بما يعملون ـ 96. قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ـ 97. من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبرئيل وميكال فإن الله عدو للكافرين ـ 98. ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ـ 99.
( بيان )
     قوله تعالى : قل إن كانت لكم إلخ ، لما كان قولهم : لن تمسنا النار إلا إياما معدودة ، و قولهم : نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعويهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم وأن نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لانهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة وهي أيام عبادتهم للعجل قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعويهم وانهم يعلمون ذلك من غير تردد وإرتياب فقال تعالى لنبيه : « قل إن كانت لكم الدار الآخرة » أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه ويحبه ويحل منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله تعالى : ( عند الله ) أي مستقرا عنده تعالى وبحكمه وإذنه ، فهو كقوله تعالى : « إن الدين عند الله الاسلام » آل عمران ـ 19 وقوله تعالى : ( خالصة ) أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة ، قوله تعالى : ( من دون الناس ) وذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم ، وقوله تعالى : « فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » وهذا كقوله تعالى : « قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم انكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » الجمعة ـ 6 ، وهذه مؤاخذه بلازم فطري بين الاثر في


(228)
الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك وهو إن الانسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة والتعب إختار الراحة من غير تردد وتذبذب وإذا خير بين حيوة وعيشة مكدرة مشوبة وأخرى خالصة صافية إختار الخالصة الهنيئة قطعا ولو فرض إبتلائه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الاخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله.
    فلو كانوا صادقين في دعويهم أن السعادة الخالصة الاخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا ولسانا أركانا ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين.
     قوله تعالى : بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الايدي دون أصحاب الايدي وعد كل عملا للايدي.
     وبالجملة أعمال الانسان وخصة ما يستمر صدورن منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والاعمال الطالحة والافعال الخبثه لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى القاء الله والحلول في دار أوليائه.
     قوله تعالى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ، كالدليل المبين لقوله تعالى : ولن يتمنوه أبدا أي ويشهد على أنهم لن يتمنوا الموت ، أنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الدنيا التي لا حاجب ولا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها والاخلاد إليها ، والتنكير في قوله تعالى : على حيوة للتحقير كما قال تعالى : « وما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ». العنكبوت ـ 64.
     قوله تعالى : ومن الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس والمعنى ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.
     قوله تعالى : وما هو بمز حزحه من العذاب أن يعمر ، الظاهر أن ما نافية وضمير


(229)
هو إما للشأن والقصة وأن يعمر مبتدأ خبره قوله : بمزحزحه أي بمبعده ، وإما راجع إلى ما يدل عليه قوله : يود أحدهم ، أي وما الذي يوده بمزحزحه من العذاب ، وقوله تعالى : أن يعمر بيان له ومعنى الآية ولن يتمنوا الموت وأقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحيوة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحيوة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا ولا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعده من العذاب لان العمر وهو عمر بالاخرة محدود منته إلى إمد وأجل.
     قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، أي اطول العمر وأكثره ، فالالف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الافرادي عند العرب والزائد عليه يعبر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة الف وألف ألف.
     قوله تعالى : والله بصير بما يعملون ، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب إسم العليم.
     قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك الخ ، السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود وأنهم تابوا واستنكفوا عن الايمان بما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه. والشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معا في الآيتين وما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم : إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به اولا : أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله ، وثانيا : أن القرآن مصدق لما في ايديهم من الكتاب الحق ولا معنى للايمان بأمر والكفر بما يصدقه. وثالثا. أن القرآن هدى للمؤمنين به ، ورابعا أنه بشرى وكيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوا له.
     وأجاب عن قولهم : إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا إمتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون


(230)
الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم وإستعدائهم بغض وإستعداء لله ومن كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم ، وإلى هذين الجوابين تشير الايتان.
     وقوله تعالى : فإنه نزله على قلبك ، فيه إلتفات من التكلم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي ، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه وتبليغه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا وهو مأمور بالتبليغ.
     واعلم أن هذه الآيات في أواخرها ، أنواع الالتفات وإن كان الاساس فيها الخطاب لبني إسرائيل ، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام إستملال للحديث مع المخاطب وإستحقار. لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الاعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.
     قوله تعالى : عدو للكافرين ، فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علة الحكم كانه قيل : فإن الله عدو لهم لانهم كافرون والله عدو للكافرين.
     قوله تعالى : وما يكفر بها إلا الفاسقون ، فيه دلالة على علة الكفر وأنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون ولا يبعد أن يكون اللام في قولة الفاسقون للعهد الذكري ، ويكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى : « وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه » الآية.
     وأما الكلام في جبريل وكيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذا الكلام في ميكال والملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.
( بحث روائي )
    في المجمع في قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل الآيتان ، قال إبن عباس كان


(231)
سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة سألوه فقالوا : يا محمد كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان.
     فقال تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا : صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا : صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس له من شبه أخواله شئ ؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال أيهما علا مائه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه : قل هو الله أحد إلى آخر السورة. فقال له إبن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك. ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ قال : فقال جبرئيل. قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.
     أقول : قوله : تنام عيناى وقلبي يقظان ، قد استفاض الحديث من العامة والخاصة أنه كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تنام عينه ولا ينام قلبه ومعناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان وهو في النوم يعلم أنه نائم وأن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة ، وهذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم وإشتغالها بذكر مقام ربهم وذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحيوة الدنيوية ونحو تعلقها بربها. وهذا نحو مشاهدة يبين للانسان أنه في عالم الحيوة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط وكذا اليقظة التي يراها الناس يقظة وأن الناس وهم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة ، رقود وان عدوا أنفسهم أيقاظا. فعن علي عليه اسلام : الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا الحديث. وسيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث وكذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إنشاء الله.
    أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا


(232)
يؤمنون ـ 100. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ـ 101.
( بيان )
    قوله تعالى : نبذه ، النبذ الطرح.
     قوله تعالى : ولما جاءهم رسول ، المراد به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم ، لعدم دلالة قوله : « ولما جائهم على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة » ، والآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم.
     واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن إشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ـ 102. ولو أنهم آمنوا


(233)
واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ـ 103.
    
( بيان )
قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك ، الخ ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية إختلافا عجييا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد ، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله : إتبعوا ، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان ، أو الذين في عهد رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم أو الجميع ؟ واختلفوا في قوله : تتلوا ، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به إو بمعنى تقرأ ، أو بمعنى تكذب ؟ واختلفوا في قوله : الشياطين ، فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الانس وقيل هما معا ، واختلفوا في قوله : على ملك سليمان ، فقيل معناه في ملك سليمان ، وقيل معناه في عهد ملك سليمان ، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على ، وقيل معناه على عهد ملك سليمان ، واختلفوا في قوله : ولكن الشياطين كفروا ، فقيل إنهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر ، وقيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر ، واختلفوا في قوله : يعلمون الناس السحر ، فقيل إنهم القوا السحر إليهم فتعلموه ، وقيل إنهم دلوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه ، واختلفوا في قوله : وما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة والعطف على قوله : ما تتلوا ، وقيل ما موصولة والعطف على قوله : السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين ، وقيل ما نافية والواو إستينافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود ، واختلفوا في معنى الانزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الارض وأعاليها ، واختلفوا في قوله : الملكين ، فقيل كانا من ملائكة السماء ، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه ، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين ، أو متظاهرين بالصلاح. أن قرأناه على ما قرأ به المشهور ، وإختلفوا في قوله : ببابل ، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند ، وقيل ، من نصيبين إلى رأس العين ، وإختلفوا في قوله : وما يعلمان ، فقيل علم بمعناه الظاهر ، وقيل علم بمعنى اعلم ، واختلفوا في قوله : فلا تكفر ، فقيل ، لا تكفر بالعمل بالسحر ، وقيل لا تكفر بتعلمه ، وقيل بهما معا ،


(234)
و اختلفوا في قوله : فيتعلمون منهما ، فقيل أي من هاروت وماروت ، وقيل أي من السحر والكفر ، وقيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله ، واختلفوا في قوله : ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، فقيل أي يوجدون به حبا وبغضا بينهما ، وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما إختلاف الملة والنحلة وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة ، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجملة ، وهناك إختلافات اخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة ، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل ؟ أو غير ذلك ؟ وإذا ضربت بعض الارقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر ، ارتقى الحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من الف الف ومائتين وستين الف احتمال(4 * 9 3 * 4 2) !.
     وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب وإحتمالات تدهش العقول وتحير الالباب ، والكلام بعد متك على اريكة حسنه متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته وفصاحته وسيمر بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى : « أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة » هود ـ 17.
     والذي ينبغي أن يقال : أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم ، وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت ، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية ، وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان ( عليه السلام ) انما ملك الملك وسخر الجن والانس والوحش والطير ، واتى بغرائب الامور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم ، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان ( عليه السلام ) لم يكن يعمل


(235)
بالسحر ، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها ؟ ولم يكفر سليمان ( عليه السلام ) وهو نبي معصوم ، وهو قوله تعالى : « وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر » وقوله تعالى : « ولقد علموا لمن إشتريه ما له في الآخرة من خلاق » فسليمان ( عليه السلام ) أعلى كعبا وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الانعام والانبياء والنمل وسورة (ص) وفيها أنه كان عبدا صالحا ونبيا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لاحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية والاساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرؤها على أوليائهم من الانس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر. ورد عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنه وإن انزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لانه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحانا وهو من القدر ، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به اصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة ، فيفرقون به بين المرء وزوجه إبتغاءا للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فقوله تعالى : واتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا ، أي تضع وتكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان والدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه ، وبذلك كان ( عليه السلام ) يحبسهم عن الافساد ، قال تعالى : « ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين » الانبياء ـ 82 ، وقال تعالى : « فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين » السبأ ـ 14
    قوله تعالى : وما كفر سليمان ، أي والحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر ولكن الشياطين كفروا ، والحال انهم يضلون الناس ويعلمونهم السحر.
     قوله تعالى : وما أنزل ، أي واتبعت اليهود ما انزل بالاخطار والالهام على


(236)
الملكين ببابل هاروت وماروت ، والحال انهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به ويقولا انما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.
     قوله تعالى : فيتعلمون منهما أي من الملكين وهما هاروت وماروت ، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه.
     قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ، دفع لما يسبق إلى الوهم إنهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين ، وانما قدم هذه الجملة على قوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، لان هذه الجملة أعني : ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وحدها مشتملة على ذكر التأثير فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.
     قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق ، علموا ذلك بعقولهم لان العقل لا يرتاب في أن السحرأ شئم منابع الفساد في الاجتماع الانساني وعلموا ذلك أيضا من قول موسى فانه القائل : « ولا يفلح الساحر حيث أتى » طه ـ 69.
     قوله تعالى : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ، اي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا وجهلا لا علما ، قال تعالى : « أفرأيت من إتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم » الجاثية ـ 23.
     فهؤلاء مع علمهم بالامر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم والهداية.
     قوله تعالى : ولو انهم آمنوا واتقوا ، الخ أي اتبعوا الايمان والتقوى ، بدل اتباع اساطير الشياطين ، والكفر بالسحر ، وفيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكوة ، لا كفر في مرتبة الاعتقاد ، ولو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى : ولو أنهم آمنوا لمثوبة ، الخ ، وإقتصر على الايمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقوا ولم يرعوا محارم الله ، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.


(237)
قوله تعالى : لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ، أي من المثوبات والمنافع التي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.

    في تفسير العياشي والقمي في قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر ( عليه السلام ) في حديث : فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره ، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون : ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيه ، فقال الله جل ذكره : وإتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.
     اقول : إسناد الوضع والكتابة والقرائة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والانس لانتهاء الشر كله إليه وإنتشاره منه لعنه الله ، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الاخبار وظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القرائة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق : إن تتلو بمعنى يكذب لان افادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه ، وتقدير قوله : تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرؤنه كاذبين على ملك سليمان والاصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى لى ولاية وهو أن يملك الشئ من حيث الترتيب ووقوع جزء منه عقيب جزء آخر ، وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : « إنما وليكم الله ورسوله » المائدة ـ 58.
    وفي العيون : في حديث الرضا ( عليه السلام ) مع المأمون واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء وزوجه ، قال الله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.


(238)
    وفي الدر المنثور أخرج إبن جرير عن ابن عباس ، قال : كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادخ وهي أمرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلى سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فاخذه ولبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن والانس فجائها سليمان فقال : هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلى به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الايام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرء الناس من سليمان واكفروه حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا.
     أقول : والقصة مروية في روايات اخرى وهي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الانبياء مذكورة في جملتها.
    في الدر المنثور أيضا وأخرج سعيد بن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل ، قال يا نافع : انظر هل طلعت الحمراء ؟ قلت لا ، مرتين أو ثلثا ثم قلت : قد طلعت. قال : لا مرحبا بها ولا أهلا قلت : سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). قال : إن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال : إني أبليتهم وعافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك ، قال فاختاروا ملكين منكم ، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت فنزلا ، فألقى الله عليهما الشبق ، قلت : وما الشبق ؟ قال : الشهوة فجائت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفى عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي ؟ قال : نعم ، فطالباها لانفسهما فقالت لا امكنكما حتي تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان فأبيا ثم سئلاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال ان شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه ، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما ، وان شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه ، فقال احدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول فاختارا


(239)
عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله اليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والارض معذبان إلى يوم القيامة.
     اقول : وقد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر ( عليه السلام ) وروي السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفا وعشرين حديثا ، صرحوا بصحة طريق بعضها.
    وفي منتهى أسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر. وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية ، وهو : عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت ـ وإنها اضحوكة ـ وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله : « والجوار الكنس » التكوير ـ 16 ، على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.
     فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل : من قصة هاروت وماروت ، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.
    ومن هيهنا يظهر للباحث المتأمل : أن هذه الاحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الانبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الاول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون.
    لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة الهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم إتبعه بشهاب مبين ، فقال عز من قائل : « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » الحجر ـ 9 ، وقال و « إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد » فصلت ـ 42 ، وقال : « وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا » أسرى ـ 82 ،


(240)
فأطلق القول ولم يقيد ، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخة ، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان : ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه. فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه ، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما اميت عن الاعيان. تعالى : « بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه » الانبياء ـ 18 ، وقال تعالى : « ويريد الله أن يحق الحق بكلماته » الانفال ـ 7 ، وقال تعالى : « ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون » الانفال ـ 8 ولا معنى لاحقاق الحق ولا لابطال الباطل إلا إظهار صفتهما.
     وبعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الابحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط ، قبال ما سلكه بعض الاخباريين وإصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الافراط والاخذ بكل رواية منقولة كيف كانت. وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثنائه : « ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » الحشر ـ 7 ، وقوله تعالى : « وما إرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله » النساء ـ 64 ، إذ لو لم يكن لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حجية أو لما ينقل من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر ، والركون على النقل والحديث مما يعنوره البشر ويقبله في حيوتة الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الانسانية لا غنى له عن ذلك ، وأما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الاخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة ، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب ؟ ونحن على فطرتنا
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس