الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 241 ـ 255
(241)
الانسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الاخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شئ من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار.
    هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا ، وأما ما لا خبرة للانسان فيه من الاخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والاخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.
     فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الانساني ، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب ، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه ، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شئ أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة ، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والائمة من أهل بيته. هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.

     من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل ، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الافعال أو لم ينقل إليه شئ من ذلك ـ قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الاسباب الطبيعية العادية ، فكثير من هذه الافعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم وحمل الاثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك ، وكثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه ولا يقرأه إلا صاحبه ، وإنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك.
     وكثير منها يحصل بحركات


(242)
سريعة تخفي على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة ، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية على حسنا أو غير مقدورة لنا ، لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الاسباب الطبيعية الجارية على العادة كالاخبار عن بعض المغيبات ، وخاصة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحب والبغض والعقد والحل والتنويم والتمريض وعقد النوم والاحضار والتحريكات بالارادة مما يقع من أرباب الرياضات وهي امور غير قابلة للانكار ، شاهدنا بعضا منها ونقل الينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه ، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وايران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق والتأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العملي في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بانها مستندة ألى قوة إلارادة والايمان بالتأثير على تشتت أنواعها ، فالارادة تابعة للعلم والاذعان السابق عليه ، فربما توجد على اطلاقها وربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابه شئ خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب والبغض ، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك ، فجميع ذلك شرائط لحصول الارادة الفاعلة ، فالعلم إذا تم علما قاطعا اعطى للحواس مشاهدة ما قطع به ، ويمكنك ان تختبر صحة ذلك بان تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شئ غيره فانك تجده امامك على ما تريد ، وربما توجد في الآثار معالجة بعض الاطباء الامراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.
     وإذا كان الامر على هذا فلو قويت الارادة أمكنها أن تؤثر في غير الانسان المريد نظير ما توجده في نفس الانسان المريد إما من غير شرط وقيد أو مع شئ من الشرائط.
     ويتبين بما مر امور : احدها : أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الارواح المتعلقة بالاجرام الفلكية ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذين يستخرج اصحاب الدعوات والعزائم اسمائهم


(243)
ويدعون بها على طرق خاصة عندهم ، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الارواح حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج والا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي ، وبه تنحل شبهة أخرى في احضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الانسان ليس له الا روح واحدة ، وبه تنحل أيضا شبهة اخرى وهي ان الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان ، وبه تنحل أيضا شبهة ثالثه ، وهي : أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر. وبه تنحل أيضا شبهة رابعة ، وهي : ان الارواح ربما تكذب عند الاحضار في أخبارها وربما يكذب بعضها بعضا. فالجواب عن الجميع : أن الروح انما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالاشياء المادية الطبيعية.
     ثانيها : أن صاحب هذه الارادة المؤثرة ربما يعتمد في ارادته على قوة نفسه وثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في ارادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الاثر عند المريد وفي الخارج ، وربما يعتمد فيه على ربه كالانبياء والاولياء من أصحاب العبودية لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا الا لربهم وبربهم ، وهذه ارادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الارادة منها بوجه ولم تتلون بشئ من ألوان الميول النفسانية ولا اتكاء لها الا على الحق فهي ارادة ربانية غير محدودة ولا مقيدة.
     والقسم الثاني : ان أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الانبياء سميت آية معجزة وان تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة ان كانت مع دعاء ، والقسم الاول إن كان بالاستخبار والاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة وإن كان بدعوة أعزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.
     ثالثها : أن الامر حيث كان دائرا مدار الارادة في قوتها وهي على مراتب من القوة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو ان لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة وهو مشهود في أعمال التنويم والاحضار ، هذا وسيأتي شطر من الكلام في ذلك.


(244)
    العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة والقول الكلي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدا ، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره : منها : السيمياء ، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الارادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الامور الطبيعية ، ومنه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون وهذا الفن من أصدق مصاديق السحر ، ومنها الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الارادية باتصالها بالارواح القوية العالية كالارواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها أو باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم ، وهو فن التسخيرات ، ومنها : الهيمياء : وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات ، فإن للكواكب العلوية والاوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما ان العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك ، فلو ركبت الاشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان ، وحيوة فلان ، وبقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم ، ومنها : الريمياء ، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقه بنحو من لانحاء وهو الشعبذة ، وهذه الفنون الاربعة مع فن خامس يتلوها وهو الكليميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية ، قال شيخنا البهائي : أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات إسمه ( كله سر ) وقد ركب إسمه من أوائل إسماء هذه العلوم ، الكيميا ، والليميا ، والهيميا ، والسيميا ، و الريميا ، إنتهى ملخص كلامه.
    ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسر وشاهي والذخيرة الاسكندرية والسر المكتوم للرازي والتسخيرات للسكاكي واعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.
    ومن العلوم الملحقة بما مر علم الاعداد والاوفاق وهو الباحث عن ارتباطات


(245)
الاعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص ، ومنها : الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الاسماء واستخراج اسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني والسيد حسين الاخلاطي وغيرهما.
    ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي واحضار الارواح وهما كما مر من تأثير الارادة والتصرف في الخيال وقد ألف فيها كتب ورسائل كثيرة ، واشتهار أمرها يغني عن الاشارة إليها هينها ، والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.
    يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ـ 104. ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ـ 105.
( بيان )
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا ، وهو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة وثمانين موضعا والتعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الامة ، وأما الامم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله : « قوم نوح وقوم هود » وقوله : « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة » الآية و قوله : « أصحاب مدين وأصحاب الرس » ، وبني إسرائيل ، ويا بني إسرائيل ، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا


(246)
مما يختص التشرف به بهذه الامة ، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى : « وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون » : النور ـ 31 ، بحسب المصداق ، قال تعالى : « الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم » المؤمن ـ 7 و 8 ، فجعل استغفار الملائكة وحملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله : للذين تابوا واتبعوا ، والتوبة هي الرجوع ، ثم علق دعائهم بالذين آمنوا وعطف عليهم آبائهم وذرياتهم ولو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الايمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كيف ما كانوا ، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء والابناء والازواج ولم يبق للعطف والتفرقة محل وكان الجميع في عرض واحد ووقعوا في صف واحد. ويستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى : « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم شئ كل إمرء بما كسب رهين » الطور ـ 21 ، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للالحاق وجه ، ولو كان قوله : ( واتبعتهم ذريتهم ) قرينة على ارادة اشخاص خاصة من الذين آمنوا وهم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم ، المؤمنين لم يبق للالحاق أيضا وجه ، ولا لقوله ، وما ألتناهم من عملهم من شئ ، وجه صحيح الا في الطبقة الاخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم ، وهذا وان كان معنى معقولا الا أن سياق الآية وهو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا : المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض وهم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض ولا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الايمان وهو في الجميع واحد وهذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة وتشريف للسابق بالحاق ذريته به ، فقوله : وإتبعتهم ذريتهم بايمان ، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله : الذين آمنوا ، وهم السابقون الاولون في الايمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المهاجرين والانصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء ، ويشعر بذلك أيضا قوله تعالى :


(247)
« للفقراء المهاجرين ، إلى أن قال : والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم ، إلى أن قال : « والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا إغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم » الحشر ـ 10 ، فلو كان مصداق قوله : الذين آمنوا ، عين مصداق قوله : الذين سبقونا بالايمان ، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.
     ويشعر بما مر أيضا قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، إلى أن قال : « وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما » الفتح ـ 29.
    فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الاولين من المؤمنين ، ولا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مشركي مكة وأترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى : « إن الذين كفروا سواء عليهم ، ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » البقرة ـ 6.
     فان قلت : فعلى ما مريختص الخطاب بالذين آمنوا بعدة خاصة من الحاضرين في زمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور وغيره والحاضرين الموجودين في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وغيرهم وخاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية.
     قلت : نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فان لسعة التكليف وصيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب وصيقه من الاسباب ، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب ، فعل هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا ايها الذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيها لنبي ، ويا أيا الرسول مبينا على التشريف ، والتكليف عام ، والمراد وسيع ، ومع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى : « إن الذين آمنو ثم كفروا


(248)
ثم آمنوا كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم » النساء ـ 137 ، وقوله تعالى : حكاية عن نوح : « وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم » هود ـ 29.
     قوله تعالى : لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا ، أي بدلوا قول ( راعنا من قول ( انظرنا ) ولئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا وللكافرين عذاب أليم ففيه نهى شديد عن قول راعنا وهذه كلمة ذكرتها آية أخرى وبينت معناها في الجملة وهي قوله تعالى « من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين » النساء ـ 46 ، ومنه يعلم ان اليهود كانت تريد بقولهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راعنا نحوا من معنى قوله : اسمع غير مسمع ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل : أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك إذا القى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله ـ يريدون أمهلنا وانظرنا حتى نفهم ما تقول ـ وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك يظهرون التأدب معه وهم يريدون الشتم ومعناه عندهم اسمع لا اسمعت فنزل : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ، الآية ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو انظرنا فقال : لا تقولوا راعنا وتقولوا أنظرنا.
     قوله تعالى : وللكافرين عذاب أليم : يريد المتمردين من هذا النهى وهذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية.
     قوله تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الاشارة إلى العلة ، وهو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه ، ومعارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته وعظم فضله ، ولو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل ، وهم على غيظ من الاسلام ، وربما يؤيد هذا الوجه بعض


(249)
الآيات اللاحقة كقوله تعالى : « وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى » البقرة ـ 111 ، وقوله تعالى : « وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب » البقرة ـ 113.
( بحث روائي )
    في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن إبن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أنزل الله آية فيها ، يا ايها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها.
     اقول : والرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في على أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى : « كنتم خير أمة اخرجت للناس » آل عمران ـ 110 ، وقوله تعالى : « لتكونوا شهداء على الناس » البقرة ـ 143 ، وقوله تعالى : وكونوا مع الصادقين ، التوبة ـ 119.
    ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ـ 106. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ـ 107.
( بيان )
    الآيتان في النسخ ومن المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء وهو الابانة عن انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها ومن مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.
     قوله تعالى : ما ننسخ ، النسخ هو الازالة ، يقال : نسخت الشمس الظل إذا


(250)
ازلته وذهبت به ، قال تعالى : « وما أرسلنا من رسول ولا نبي الا إذا تمنى ألقى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان » الحج ـ 51 ، ومنه أيضا قولهم : نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى اخرى فكأن الكتاب أذهب به وأبدل مكانه ولذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى : « وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون » النحل ـ 101 ، وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى : ألم تعلم ، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو اذهاب اثر الآية ، من حيث أنها آية ، اعني إذهاب كون الشئ آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من إقتران قوله : ننسها بقوله : ما ننسخ ، والانساء إفعال من النسيان وهو الا ذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الا ذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.
    ثم إن كون الشئ آية يختلف باختلاف الاشياء والحيثيات والجهات ، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن اتيان مثله ، والاحكام والتكاليف الالهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى ، والموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه ، وأنبياء الله واوليائه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل وهكذا ، ولذلك كانت الآية تقبل الشدة والضعف قال الله تعالى : « لقدر أي من آيات ربه الكبرى » النجم ـ 18.
    ومن جهة اخرى الآية ربما كانت في انها آية ذات جهة واحدة وربما كانت ذات جهات كثيرة ، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كاهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة ، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.
    وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى : ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ، ألم تعلم أن الله له ملك السموات


(251)
والارض ، وذلك إن الانكار المتوهم في المقام أو الانكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين :
    احدهما : من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شئ دونها ، فلو زالت الآية فاتت المصلحة ولن تقوم مقامها شئ تحفظ به تلك المصلحة ، ويستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد ، وليس شأنه تعالى كشأن عباده ولا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا ويتعلق بمصلحة اخرى فاتت عنه بالامس ، فيتغير الحكم ، ويقضي ببطلان ما حكم سابقا ، وإتيان آخر لاحقا ، فيطلع كل يوم حكم ، ويظهر لون بعد لون ، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الاشياء ، فكانت أحكامهم وأوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح والمفاسد زيادة ونقيصة وحدوثا وبقاء ، ومرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة وإطلاقها.
     وثانيهما : أن القدرة وإن كانت مطلقة إلا أن تحقق الايجاد وفعلية الوجود يستحيل معه التغير ، فان الشئ لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة وهذا مثل الانسان في فعله الاختياري فان الفعل اختياري للانسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له ، ومرجع هذا الوجه إلى نفي اطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود : يد الله مغلولة : فاشار سبحانه إلى الجواب عن الاول بقوله : ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامه ما هو مثل الفائت مقامه وأشار إلى الجواب عن الثاني بقوله : إلم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ، أي إن ملك السموات والارض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس لغيره شئ من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من ابواب تصرفه سبحانه ، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته ، فلا يملك شئ شيئا ، لا ابتداء ولا بتمليكه تعالى ، فان التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الاول ويحصل ملك الثاني ، بل هو مالك


(252)
في عين ما يملك غيره ما يملك ، فإذا نظرنا إلى حقيقة الامر كان الملك المطلق والتصرف المطلق له وحده ، وإذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا وإذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال ـ وهو في الحقيقة فقر في صورة الغنى ، وتبعية في صورة الاستقلال ـ لم يمكن لنا أيضا أن ندبر امورنا من دون إعانته ونصره ، كان هو النصير لنا.
     وهذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى : « إن الله له ملك السموات والارض » فقوله تعالى : « ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض » ، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين ، ومن الشاهد على كونهما اعتراضين إثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل ، وقوله تعالى : وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي وإن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال واستقلال فهو وحده وليكم ، فله أن يتصرف فيكم وفي ما عندكم ما شاء من التصرف ، وإن لم تنظروا إلى عدم إستقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك والاستقلال وانجمدتم على ذلك فحسب ، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة والملك والاستقلال لا تتم وحدها ، ولا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم وإرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله ونصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا ، وقوله : وما لكم من دون الله ، جئ فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.
    فقد ظهر مما مر : اولا ، ان النسخ لا يختص بالاحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.
     وثانيا : ان النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ.
     وثالثا : ان الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.
     ورابعا : ان الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته وإنما يرتفع التناقض بينهما من


(253)
جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفى نبي وبعث نبى آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والاجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب إختلاف الاعصار وتكامل الافراد من الانسان ، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحت الوقت ، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة. وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الاسلام وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين. والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى : « فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره » البقرة ـ 109 ، المنسوخ بأية القتال وقوله تعالى : « فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا » النساء ـ 14 ، المنسوخ بأية الجلد فقوله : حتى يأتي الله بأمره وقوله : « أو يجعل الله لهن سبيلا » لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ.
     وخامسا : أن النسبة التي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين المجمل والمبين ، فان الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما ، بخلاف الرافع للتنافي بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين فانه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص والمقيد والمبين ، المفسر للعام بالتخصيص ، وللمطلق بالتقييد ، وللمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقة ، وكذلك في المحكم والمتشابه على ما سيجئ في قوله : « منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات » آل عمران ـ 7.
     قوله تعالى : أو ننسها ، قرء بضم النون وكسر السين من الانساء بمعنى الا ذهاب عن العلم والذكر وقد مر توضيحه ، وهو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى : « سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله » الاعلى ـ 7 ، وهي آية مكية وآية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى :


(254)
فلا تنسى وأما اشتماله على الاستثناء بقوله : إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى : « خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ » هود ـ 109 ، جئ بها لاثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الامر ، ولو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله : فلا تنسى معنى ، إذ كل ذي ذكر وحفظ من الانسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى وذكره نسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيته ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كذلك قبل هذا الاقراء الامتناني الموعود بقوله : سنقرئك يذكر بمشية الله وينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى ابدا والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا. وقرء قوله : ننسأها بفتح النون والهمزة من نسئ نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا : ما ننسخ من آية بأزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها ولا يوجب التصرف الالهي بالتقديم والتأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة والدليل على أن المراد بيان أن التصرف الالهة يكون دائما على الكمال والمصلحة هو قوله : بخير منها أو مثلها فأن الخيرية إنما يكون في كمال شئ موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.
( بحث روائي )
    قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وعن أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) : ان في القرآن ناسخا ومنسوخا.
    وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بعد ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ قال ( عليه السلام ) : ونسخ قوله تعالى : وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون قوله : عزوجل ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم.
     أقول : وفيها دلالة على أخذه ( عليه السلام ) النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الاولى ،


(255)
وبعبارة واضحة : الآية الاولى تثبت للخلقة غاية وهي العبادة ، والله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء والضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الالهية ، وشملته رحمة الهداية ولذلك خلقهم أي ولهذه الرحمة خلقهم ، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية ، وهو الرحمة المقارنة للعبادة والاهتداء ولا يكون إلا في البعض دون الكل والآية الاولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لاجل البعض الاخر وهذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة وهم العابدون المخلوقون للعبادة فصح ان العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة وغرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الاية الاولى ، وفي تفسير النعماني أيضا عنه ( عليه السلام ) : قال : ونسخ قوله تعالى : « وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا » قوله : « الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها بعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما أشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الاكبر ».
     اقول : ليست الآيتان من قبيل العام والخاص لقوله تعالى : كان على ربك حتما مقضيا ، والقضاء الحتم غير قابل الرفع ولا ممكن الابطال ويظهر معنى هذا النسخ مما سيجئ إنشاء الله في قوله : « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون » الانبياء ـ 101.
    وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) : ان من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى : يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، ونجاة قوم يونس.
     اقول : والوجه فيه واضح.
    وفي بعض الاخبار عن أئمة أهل البيت عد ( عليه السلام ) موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ.
     اقول : وقد مر بيانه ، والاخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة.
    وفي الدر المنثورا خرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس