الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 271 ـ 285
(271)
بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله ، إني جاعلك للناس إماما ، وعدله ( عليه السلام ) بالامامة في ما سيأتي ، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة ، فقد كان (ع) نبيا قبل تقلده الامامة فليست الامامة في الآية بمعنى النبوة ( ذكره بعض المفسرين ).
     واما ثانيا : فلانا بينا في صدر الكلام : أن قصة الامامة ، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم ( عليه السلام ) بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل ، وإنما جائت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم ، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا ، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما ، فإمامته غير نبوته.
     ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الالفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الالفاظ لفظ الامامة ، ففسره قوم : بالنبوة والتقدم والمطاعية مطلقا ، وفسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية ، أو الرئاسة في امور الدين والدنيا ـ وكل ذلك لم يكن ـ فإن النبوة معناها : تحمل النبأ من جانب الله ، والرسالة معناها تحمل التبليغ ، والمطاعية والاطاعة قبول الانسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوة والرسالة ، والخلافة نحو من النيابة ، وكذلك والوصاية ، والرئاسة نحو من المطاعية وهو مصدرية الحكم في الاجتماع وكل هذه المعاني غير معنى الامامة التي هي كون الانسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعية ، ولا معنى لان يقال لنبي من الانبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا ، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك ، أو رئيسا تأمر وتنهى في الدين ، أو وصيا ، أو خليفة في الارض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.
     وليست الامامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط ، إذ لا يصح أن يقال لنبي ـ من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته ـ إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك ، ولا يصح ان يقال له ما يؤل إليه معناه وان اختلف بمجرد عناية لفظية ، فإن المحذور هو المحذور ، وهذه المواهب الالهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية ، بل دونها حقائق من المعارف


(272)
الحقيقية ، فلمعنى الامامة حقيقة وراء هذه الحقائق.
     والذي نجده في كلامه تعالى : إنه كلما تعرض لمعنى الامامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير ، قال تعالى في قصص إبراهيم ( عليه السلام ) : « ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا » الانبياء ـ 73 ، وقال سبحانه : « وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون » السجدة ـ 24 ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ، ثم قيدها بالامر ، فبين أن الامامة ليست مطلق الهداية ، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله ، وهذا الامر هو الذي بين حقيقته في قوله : « إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ » يس ـ 83 ، وقوله : « وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر » القمر ـ 50 ، وسنبين في الايتين ان الامر الالهي وهو الذي تسميه الاية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق ، يواجهون به الله سبحانه ، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان ، خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة ـ كن الذي ليس إلا وجود الشئ العيني ، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الاشياء فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان ، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز.
     وبالجملة فالامام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالامامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة ، قال تعالى : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء » ابراهيم ـ 4 ، وقال تعالى : « في مؤمن آل فرعون وقال الذي آمن يا قوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد » مؤمن ـ 38 ، وقال تعالى : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون » التوبة ـ 122 ، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح.
    ثم انه تعالى بين سبب موهبة الامامة بقوله : « لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون »


(273)
الاية فبين ان الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله ـ وقد أطلق الصبر ـ فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته ، وكونهم قبل ذلك موقنين ، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم ( عليه السلام ) قوله : « وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين » الانعام ـ 75 ، والآية كما ترى تعطي بظاهرها : أن إرائة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه ، ويتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى : « كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم » التكاثر ـ 6 وقوله تعالى : « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ـ إلى أن قال ـ كلا إن كتاب الابرار لفي عليين ، وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون » المطففين ـ 21 ، وهذه الآيات تدل على ان المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك ، فهم أهل اليقين بالله ، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم.
     وبالجملة فالامام يجب أن يكون إنسانا ذايقين مكشوفا له عالم الملكوت ـ متحققا بكلمات من الله سبحانه ـ وقد مر أن الملكوت هو الامر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم ، فقوله تعالى : يهدون بأمرنا ، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية ـ وهو القلوب والاعمال ـ فللامام باطنه وحقيقتة ، ووجهه الامري حاضر عنده غير غائب عنه ، ومن المعلوم أن القلوب والاعمال كسائر الاشياء في كونها ذات وجهين ، فالامام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد ، خيرها وشرها ، وهو المهيمن على السبيلين جميعا ، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضا : « يوم ندعوا كل اناس بإمامهم » الاسراء ـ 71 ، وسيجئ تفسيره بالامام الحق دون كتاب الاعمال ، على ما يظن من ظاهرها ، فالامام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر ، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحيوة الدنيا وباطنها ، والآية مع ذلك تفيد أن الامام لا يخلو عنه زمان من الازمنة ، وعصر من الاعصار ، لمكان قوله تعالى كل اناس ، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه.
    ثم إن هذا المعنى أعني الامامة ، على شرافته وعظمته ، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه ، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم والشقاء ، فإنما سعادته بهداية من غيره ، وقد قال الله تعالى : « أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي »


(274)
يونس ـ 35.وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره ، أعني المهتدي بغيره ، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه ، أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة.
     ويستنتج من هنا أمران : أحدهما : أن الامام يجب أن يكون معصوما عن الضلال و المعصية ، والا كان غير مهتد بنفسه ، كما مر كما ، يدل عليه أيضا قوله تعالى : « وجعلناهم أئمة بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة ، وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين » الانبياء ـ 73 فأفعال الامام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي ، وتسديد رباني والدليل عليه قوله تعالى : ( فعل الخيرات ) بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع ، ففرق بين مثل قولنا : وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق والوقوع ، بخلاف قوله « وأوحينا إليهم فعل الخيرات » فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحى باطني وتأييد سماوي. الثاني : عكس الامر الاول وهو أن من ليس بمعصوم فلا يكون اماما هاديا إلى الحق البتة.
     وبهذا البيان يظهر : ان المراد بالظالمين في قوله تعالى ، « قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين » مطلق من صدر عنه ظلم ما ، من شرك أو معصية ، وان كان منه في برهة من عمره ، ثم تاب وصلح.
    وقد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه : عن تقريب دلالة على عصمة الامام.
     فأجاب : أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : من كان ظالما في جميع عمره ، ومن لم يكن ظالما في جميع عمره ، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره ، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيم ( عليه السلام ) أجل شأنا من أن يسئل الامامة للقسم الاول والرابع من ذريته ، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما ، وهو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره ، فبقي الآخر ، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور :
    الاول : أن الامامة لمجعولة.
     الثاني : أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.


(275)
    الثالث : أن الارض وفيه الناس ، لا تخلو عن إمام حق.
     الرابع : أن الامام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى.
     الخامس : أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الامام.
     السادس : أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور معاشهم ومعادهم.
     السابع : أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس. فهذه سبعة مسائل هي امهات مسائل الامامة ، تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات والله الهادي.
    فان قلت : لو كانت الامامة هي الهداية بأمر الله تعالى ، وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى : « أفمن يهدي إلى الحق إحق أن يتبع » الآية كان جميع الانبياء أئمة قطعا ، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى ، من غير أن يكون مكتسبا من الغير ، بتعليم أو إرشاد ونحوهما ، حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الامامة ، وعاد الاشكال إلى أنفسكم.
     قلت : الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الامامة تستلزم الاهتداء بالحق ، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق ، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما ، فلم يتبين بعد ، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى : « ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ، وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين. آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. اؤلئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده » الانعام ـ 90 ، وسياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير ويتخلف ، وأن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته ، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة ، كما يدل


(276)
عليه قوله تعالى : « وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فانه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون » الزخرف ـ 28 ، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل ، وهي الهداية بأمر الله حقا ، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار ، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله : إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني ، ثم أخبر الله : أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم ، وهذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الامر الخارجي دون القول ، كقوله تعالى : « وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها » الفتح ـ 26.
    وقد تبين بما ذكر : أن الامامة في ولد إبراهيم بعده ، وفي قوله تعالى : « قال ومن ذريتي. لا ينال عهدي الظالمين » إشاره إلى ذلك ، فإن إبراهيم ( عليه السلام ) إنما كان سئل الامامة لبعض ذريته لا لجميعهم ، فاجيب : بنفيها عن الظالمين من ولده ، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع ، ففيه إجابة لما سئله مع بيان أنها عهد ، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.
    قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الالهي ، فهي من الاستعارة بالكناية.
( بحث روائي )
     في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الله عزوجل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وأن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما ، فلما جمع له الاشياء قال : ( إني جاعلك للناس إماما ) قال ( عليه السلام ) : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال : لا يكون السفيه إمام التقي.
     أقول : وروي هذا المعنى أيضا عنه بطريق آخر وعن الباقر ( عليه السلام ) بطريق آخر ، ورواه المفيد عن الصادق ( عليه السلام )


(277)
    قوله : إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، يستفاد ذلك من قوله تعالى : « ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ـ إلى قوله ـ من الشاهدين » الانبياء ـ 56 ، وهو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم.
     واعلم ان اتخاذه تعالى أحدا من الناس عبدا غير كونه في نفسه عبدا ، فإن العبدية من الوازم الايجاد والخلقة ، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم وشعور ، ولا يقبل الجعل والاتخاذ وهو كون الانسان مثلا مملوك الوجود لربه ، مخلوقا مصنوعا له ، سواء جرى في حيوته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية ، واستسلم لربوبية ربه العزيز ، أو لم يجر على ذلك ، قال تعالى : « إن كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمن عبدا » مريم ـ 94 ، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية وسنن الرقية استكبارا في الارض وعتوا كان من الحري أن لا يسمى عبدا بالنظر إلى الغايات ، فإن العبد هو الذي أسلم وجه لربه ، وأعطاه تدبير نفسه ، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبدا في نفسه وعبدا في عمله ، فهو العبد حقيقة ، قال تعالى : « وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا » الفرقان ـ 63. وعلي هذا فاتخاذه تعالى إنسانا عبدا ـ وهو قبول كونه عبدا والاقبال عليه بالربوبية ـ هو الولاية وهو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده ، والعبودية مفتاح للولاية ، كما يدل عليه قوله تعالى : « قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب بالحق ، وهو يتولى الصالحين » الاعراف ـ 196 ، أي اللائقين للولاية ، فأنه تعالى سمى النبي في آيات من كتابه بالعبد ، قال تعالى : « الذي أنزل على عبده الكتاب » الكهف ـ 1 ، وقال تعالى : « ينزل على عبده آيات بينات » الحديد ـ 9 ، وقال تعالى : « قام عبد الله يدعوه » الجن ـ 19 ، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية.
     وقوله ( عليه السلام ) : وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، الفرق بين النبي الرسول على ما يظهر من الروايات المروية عن أئمة أهل البيت : أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحي به إليه ، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمة ، والذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب ، قال تعالى : « واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان صديقا نبيا ، إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغني عنك شيئا » مريم ـ 42 ، فظاهر الآية أنه ( عليه السلام ) كان صديقا نبيا حين يخاطب أباه بذلك ، فيكون هذا تصديقا لما أخبر به ابراهيم ( عليه السلام ) في أول وروده على قومه : « انني


(278)
براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فانه سيهدين » الزخرف ـ 27 ، وقال تعالى : « ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام » هود ـ 69 ، والقصة ـ وهي تتضمن مشاهدة الملك وتكليمه ـ واقعة في حال كبر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد مفارق أباه وقومه.
     وقوله ( عليه السلام ) : إن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، يستفاد ذلك من قوله تعالى : « واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلا » النساء ـ 125 ، فإن ظاهره انه إنما اتخذه خليلا لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف التي تشرف بسببها إبراهيم ( عليه السلام ) بالخلة والخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقا إذا صدق في معاشرته ومصاحبته ثم يصير خليلا إذا قصر حوائجه على صديقه ، والخلة الفقر والحاجة.
     وقوله ( عليه السلام ) : وان الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه اماما ، الخ يظهر معناه مما تقدم من البيان.
     وقوله : قال لا يكون السفيه امام التقى اشارة إلى قوله تعالى ، « ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين » البقره ـ 131 ، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة ابراهيم وهو الظلم سفها ، وقابلها بالاصطفاء ، وفصر الاصطفاء بالاسلام ، كما يظهر بالتدبر في قوله : ( إذ قال له ربه أسلم ) ثم جعل الاسلام والتقوى واحدا أو في مجرى واحد في قوله : « اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون » آل عمران ـ 102 ، فافهم ذلك.
    وعن المفيد عن درست وهشام عنهم (ع) قال : قد كان ابراهيم نبيا وليس بإمام ، حتى قال الله تبارك وتعالى : « اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي » فقال الله تبارك وتعالى : « لا ينهال عهدي الظالمين » ، من عببد صنما أو وثنا أو مثالا ، لا يكون اماما.
     أقول : وقد ظهر معناه مما مر.
    وفي أمالي الشيخ مسندا ، وعن مناقب ابن المغازلي مرغوعا عن ابن مسعود عن


(279)
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الآية عن قول الله لابراهيم : من سجد لصنم دوني لا أجعله اماما. قال (ع) وانتهت الدعوة إلى والى أخي علي ، لم يسجد أحدنا لصنم قط.
    وفي الدر المنثور : أخرج وكيع وابن مردويه عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن الني في قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : لا طاعة الا في المعروف.
    وفي الدر اللمنثور أيضا : أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول : لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
     أقول : معانيها ظاهرة مما مر.
    وفي تفسير العياشي ، بأسانيد عن صفوان الجمال قال : كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله : « وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال : فأتمهن بمحمد وعلي والائمة من ولد علي في قول الله : « ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ».
     اقول : والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الامامة كما فسرت بها في قوله تعالى : « فإنه سيهدين فجعلها كلمة باقية في عقبه » الآية فيكون معنى الاية : ( واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات ، هن امامته ، وامامة اسحق وذريته ، واتمهن بإمامة محمد ، والائمة من أهل بيته من ولد اسمعيل ثم بين الامر بقوله : قال إني جاعلك للناس اماما إلى آخر الآية.
    وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ـ 125. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن


(280)
منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ـ 126. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ـ 127. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ـ 128. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ـ 129.
( بيان )
    قوله تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، إشارة إلى تشريع الحج والامن في البيت ، والمثابة هي المرجع ، من ثاب يثوب إذا رجع.
     قوله تعالى : واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى كإنه عطف على قوله : جعلنا البيت مثابة ، بحسب المعنى ، فأن قوله : جعلنا البيت مثابة ، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه ، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وربما قيل إن الكلام على تقدير القول ، والتقدير : وقلنا اتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ، والمصلى اسم مكان من الصلوة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه ( عليه السلام ) مكانا للدعاء والظاهر ان قوله : جعلنا البيت مثابة إلخ بمنزلة التوطئة اشير به إلى مناط تشريع الصلوة ولذا لم يقل : وصلوا ، في مقام ابراهيم ، بل قال : واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ، فلم يعلق الامر بالصلوة في المقام ، بل علق على اتخاذ المصلى منه.


(281)
     قوله تعالى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا ، العهد هو الامر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين ، والعاكفين ، والمصلين ، ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية ، وأصل المعنى : أن خلصا بيتي لعبادة العباد ، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الاقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس ، والركع السجود جمعا راكع وساجد وكان المراد به المصلون.
     قوله تعالى : وإذ قال ابراهيم رب اجعل ، هذا دعاء دعا به ابراهيم يسئل به الامن على أهل مكة والرزق وقد اجيبت دعوته ، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغى به لاغ جاهل ، وقد قال تعالى : « والحق أقول » ص ـ 84 ، وقال تعالى : « إنه لقول فصل وما هو بالهزل » الطارق ـ 14.
    وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعابها ، وسئلها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره ، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسئلته بقاء الذكر الخير ، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات ، ودعائه لاهل مكة بعد بناء البيت ، ودعائه ومسئلته بعثة النبي من ذريته ، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة ، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عز اسمه ، وسائر قصصه وما مدحه به ربه ، يستنبط شرح حيوته الشريفة وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الانعام.
     قوله تعالى : من آمن منهم ، لما سئل ( عليه السلام ) لبلد مكة الامن ، ثم سئل لاهلة أن يرزقوا من الثمرات ، استشعر : أن الاهل سيكون منهم مؤمنون ، وكافرون ودعائه للاهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن ، وقد تبرا من الكافرين وما يعبدونه ، قال تعالى « فلما تبين أنه عدو لله تبرء منه » التوبة ـ 114 ، فشهد تعالى له : بالبرائة والتبري عن كل عدو لله ، حتى أبيه ، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم ـ وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين ، على ما يحكم به ناموس الحيوة الدنيوية الاجتماعية ـ غير أنه خص مسئلته ـ والله أعلم ـ بما يحكم لسائر عباده ، ويريد في حقهم ، فاجيب (ع) بما يشمل المؤمن والكافر ، وفيه


(282)
بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة ، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة ، ولم يقل : وارزق من آمن من أهلة من الثمرات لان المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم ، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع ، وقع فيه البيت ، ولو لا ذلك لم يعمر البلد ، ولا وجد أهلا يسكنونه.
     قوله تعالى : ومن كفر فامتعه قليلا ، قرء فامتعه من باب الافعال والتفعيل والامتاع والتمتيع بمعنى واحد.
     قوله تعالى : ثم اضطره إلى عذاب النار الخ ، فيه إشارة إلى مزيد اكرام البيت وتطييب لنفس ابراهيم (ع) ، كأنه قيل : ما سئلته من اكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة ، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله ، وانما ذلك اكرام لهذا البلد ، واجابة لدعوتك بأزيد مما سئلته ، فسوف يضطر إلى عذاب النار ، وبئس المصير.
     قوله تعالى : واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل ، القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الارض ، واستقر عليه الباقي ، ورفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها ، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها. وفي قوله تعالى : من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية.
     قوله تعالى : ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم ، دعاء لابراهيم واسمعيل ، وليس على تقدير القول ، أو ما يشبهه ، والمعنى يقولان : ربنا تقبل منا الخ ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه ، فإن قوله : يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل حكاية الحال الماضية ، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان وهما مشتغلان بالرفع ، والسامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعائهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما وعملهما ، وهذا كثير في القرآن ، وهو من أجمل السياقات القرآنية ـ وكلها جميل ـ وفيه من تمثيل القصة وتقريبه إلى الحس ما لا يوجد ولا شئ من نوع بداعته في التقبل بمثل القول ونحوه.
    وفي عدم ذكر متعلق التقبل ـ وهو بناء البيت ـ تواضع في مقام العبودية ،


(283)
واستحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير انك أنت السميع لدعوتنا ، العليم بما نويناه في قلوبنا.
     قوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، من البديهي أن الاسلام على ما تداول بيننا من لفظه ، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية ، وبه يمتاز المنتحل من غيره ، وهو الاخذ بظاهر الاعتقادات والاعمال الدينية أعم من الايمان والنفاق ، وابراهيم ( عليه السلام ) ـ وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم ، صاحب الملة الحنيفية ـ أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين ، وكذا ابنه اسمعيل رسول الله وذبيحه ، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك ، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك ، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى ، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم ، وهما أعلم بمن يسالانه ، وأنه من هو ، وما شأنه ، على أن هذا الاسلام من الامور الاختيارية التي يتعلق بها الامر والنهى كما قال تعالى : « إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين »البقرة ـ 131 ، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للانسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك.
     فهذا الاسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه ، فإن الاسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى : « إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت » الآية حيث يأمرهم إبراهيم بالاسلام وقد كان مسلما ، فالمراد بهذا الاسلام المطلوب غير ما كان عنده من الاسلام الموجود ، ولهذا نظائر في القرآن.
     فهذا الاسلام هو الذي سنفسره من معناه ، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه ، وهو إن كان معنى اختياريا للانسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا اضيف إلى الانسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له ـ وحاله حاله ـ كساير مقامات الولاية ومراحله العالية ، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الانسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة ، ولهذا يمكن إن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الانسان ، ويسئل من الله سبحانه أن يفيض به ، وأن يجعل الانسان متصفا به.


(284)
    على أن هنا نظرا أدق من ذلك ، وهو ان الذي ينسب إلى الانسان ويعد اختياريا له ، هو الافعال ، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة ، فمن الجائز أو الواجب ان ينسب إليه تعالى ، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى ، أولى من نسبتها إلى الانسان ، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن ، كما في قوله تعالى : « رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي » إبراهيم ـ 40 ، وقوله تعالى : « وألحقني بالصالحين » الشعراء ـ 83 ، وقوله تعالى : « رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ، وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضيه » النمل ـ 19 ، وقوله تعالى : « ربنا واجعلنا مسلمين لك » الآية ، فقد ظهر ان المراد بالاسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى : « قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم » الحجرات ـ 14 ، بل معنى أرقي وأعلى منه سيجئ بيانه.
     قوله تعالى : وأرنا مناسكنا وتب علينا. انك أنت التواب الرحيم ، يدل على ما مر من معنى الاسلام أيضا ، فأن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة ، كما في قوله تعالى : « ولكل امة جعلنا منسكا » الحج ـ 34 ، أو بمعنى المتعبد ، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق ، فالمراد بمناسكنا هي الافعال العبادية الصادرة منهما والاعمال التي يعملانها دون الافعال ، والاعمال التي يراد صدورها منهما ، فليس قوله : أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا ، بل التسديد بارائة حقيقة الفعل الصادر منهما ، كما أشرنا إليه في قوله تعالى : « وأوحينا إليهم فعل الخيرات ، وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة » الانبياء ـ 73 ، وسنبينه في محله : ان هذا الوحي تسديد في الفعل ، لاتعليم للتكليف المطلوب ، وكأنه إليه الاشارة بقوله تعالى : « واذكر عبادنا إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، أولي الايدي والابصار. انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار » ص ـ 46.
    فقد تبين ان المراد بالاسلام والبصيرة في العبادة ، غير المعنى الشائع المتعارف ، وكذلك المراد بقوله تعالى : وتب علينا ، لان إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى ، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه ، كتوبتنا من المعاصي


(285)
اصادرة عنا.
    فان قلت : كل ما ذكر من معنى الاسلام وإرائة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم واسمعيل ( عليه السلام ) ، لا يلزم ان يكون هو مراده في حق ذريته فانه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه اسمعيل إلا في دعوة الاسلام وقد سال لهم الاسلام بلفظ آخر في جملة اخرى ، فقال : ومن ذريتنا امة مسلمة لك ولم يقل : واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين ، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الاسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الاسلام ، فان الظاهر من الاسلام أيضا له آثار جميلة ، وغايات نفيسة في المجتمع الانساني ، يصح أن يكون بذلك بغية لابراهيم ( عليه السلام ) يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث اكتفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء ، ويجوز التزويج ، ويملك الميراث ، وعلى هذا يكون المراد بالاسلام في قوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ما يليق بشأن ابراهيم واسمعيل ، وفي قوله : ومن ذريتنا امة مسلمة لك ما هو اللائق بشأن الامة التي فيها المنافق ، وضعيف الايمان وقويه ، والجميع مسلمون.
     قلت : مقام التشريع ومقام السؤال من الله مقامان مختلفان ، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر ، فما اكتفى به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من امته بظاهر الشهادتين من الاسلام ، انما هو لحكمة توسعة الشوكة والحفظ لظاهر النظام الصالح ، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الاسلام ، ويصان به عن مصادمة الآفات الطارئة.
     وأما مقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق والغرض متعلق هناك بحق الامر ، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للانبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لابراهيم ( عليه السلام ) في ذريته ولو كان له هوى لبدء فيه لابيه قبل ذريته ولم يتبرا منه لما تبين أنه عدو لله ، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه « ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتي الله بقلب سليم » الشعراء ـ 89 ، ولم يقل « واجعل لي لسان صدق في الاخرين » ، الشعراء ـ 84 ، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس