|
|||
(286)
فليس الاسلام الذي ساله لذريته الا حقيقة الاسلام ، وفي قوله تعالى :
امة مسلمة لك ،
اشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الاسلام على الذرية لقيل :
امة مسلمة ،
وحذف قوله :
لك هذا.
قوله تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الخ دعوة للني ( عليه السلام ) وقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( أنا دعوة ابراهيم ). ( بحث روائي )
في الكافي عن الكتاني ، :
قال سئالت أبا عبد الله ( عليه السلام )
عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام ابراهيم في طواف الحج والعمرة ، فقال ( عليه السلام )
إن كان بالبلد صلى الركعتين عند مقام ابراهيم ، فإن الله عزوجل يقول :
« واتخذوا من
مقام ابراهيم » :
مصلى وان كان قد ارتحل ، فلا آمره أن يرجع.
أقول : وروى قريبا منه ، الشيخ في التهذيب ، والعياشي في تفسيره بعدة أسانيد وخصوصيات الحكم ـ وهو الصلوة عند المقام أو خلفه ، كما في بعض الروايات ليس لاحد أن يصلي ركعتي الطواف إلا خلف المقام ، الحديث ـ مستفادة من لفظة من ، ومصلى من قوله تعالى : واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى الآية. وفي تفسير القمي عن الصادق (ع) في قوله تعالى : « أن طهرا بيتي للطائفين » الآية يعني ( نح عنه المشركين ). وفي الكافي عن الصادق (ع) قال إن الله عزوجل يقول في كتابه : طهرا بيتى للطائفين والعاكفين ، والركع السجود ، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه ، والاذى ، وتطهر. أقول : وهذا المعنى مروي في روايات اخر ، واستفادة طهارة الوارد من طهارة المورد ، ربما تمت من آيات أخر ، كقوله تعالى « الطيبات للطيبين ، والطيبون للطيبات » (287)
النور ـ 26 ، ونحوها.
وفي المجمع عن ابن عباس قال : لما أتي إبراهيم باسمعيل وهاجر ، فوضعهما بمكة واتت على ذلك مدة ، ونزلها الجرهميون ، وتزوج إسمعيل امرأه منهم ، وماتت هاجر ، واستأذن ابراهيم سارة ، فأذنت له ، وشرطت عليه أن لا ينزل ، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت اسمعيل ، فقال لامرأته أين صاحبك ؟ قالت له ليس هو هيهنا ، ذهب يتصيد ، وكان اسمعيل يخرج من الحرم يتصيد ويرجع ، فقال لها ابراهيم : هل عندك ضيافة ؟ فقالت ليس عندي شئ ، وما عندي أحد ، فقال لها ابراهيم : إذا جاء زوجك ، فاقرئيه السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه وذهب ابراهيم فجاء اسمعيل ، ووجد ريح أبيه ، فقال لامرأاته : هل جاءك أحد ؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا ، كالمستخفه بشأنه ، قال : فما قال لك ؟ قالت : قال لى : اقرأي زوجك السلام ، وقولي له : فليغير عتبة بابه ، فطلقها وتزوج أخرى ، فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة : أن يزور اسمعيل وأذنت له ، واشترطت عليه : أن لا ينزل فجاء ابراهيم ، حتى انتهى إلى باب اسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يتصيد وهو يجئ الآن إنشاء الله ، فانزل ، يرحمك الله ، قال لها : هل عندك ضيافة ؟ قالت : نعم فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لها بالبركة ، فلو جائت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا ، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه ، فبقى أثر قدمه عليه ، فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولت المقام إلى شقه الايسر فغسلت شق رأسه الايسر فبقي أثر قدمه عليه ، فقال لها : إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام ، وقولي له : قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسمعيل (ع) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جائك أحد ؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها ، وأطيبهم ريحا ، فقال لي كذا وكذا وقلت له : كذا وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدميه على المقام ، فقال اسماعيل لها : ذاك ابراهيم. أقول : وروى القمي ، في تفسيره : ما يقرب منه. وفي تفسير القمي ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن ابراهيم كان نازلا ، في بادية (288)
الشام فلما ولد له من هاجر إسمعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا ، لانه لم يكن لها
ولد ، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه ، فشكى ابراهيم ذلك إلى الله عزوجل ، فأوحى
الله إليه :
« مثل المرئة مثل الضلع العوجاء ، إن تركتها استمتعت بها ، وإن أقمتها
كسرتها » ثم أمره :
إن يخرج إسمعيل وامه ، فقال :
يا رب إلى أي مكان ؟ فقال إلى حرمى
وأمنى ، وأول بقعة خلقتها من الارض ، وهي مكة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل
هاجر وإسمعيل وإبراهيم وكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر وزرع ونخل إلا وقال
ابراهيم :
يا جبرئيل إلى هيهنا ، إلى هيهنا ، فيقول جبرئيل لا امض ، امض ، حتى وافى مكة
فوضعه في موضع البيت ، وقد كان ابراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها ، فلما
نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها ،
فاستظلوا تحته ، فلما سرحهم ابراهيم ووضعهم أراد الانصراف عنهم إلى سارة ، قالت له
هاجر :
يا ابراهيم أتدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال ابراهيم :
الله
الذي أمرني ، أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم ، فلما بلغ ، كداء ، ( وهو
جبل بذي طوى ) التفت ابراهيم ، فقال :
رب انى أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ، عند
بيتك المحرم ، ربنا ليقيموا الصلوة ، فاجعل أفئده من الناس تهوي إليهم ، وارزقهم من
الثمرات ، لعلهم يشكرون ، ثم مضى وبقيت هاجر ، فلما ارتفع النهار عطش اسمعيل ، فقامت
هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا ، ولمع لها السراب في الوادي ، فظنت أنه ماء ،
فنزلت في بطن الوادي ، وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها اسمعيل ، عادت حتى بلغت
الصفاء ، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع ، وهي على المروة
نظرت إلى اسمعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملا ، فإنه كان
سائلا ، فزمته بما جعلت حوله ، فلذلك سميت زمزم وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات ،
فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء ، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير
والوحش على ذلك المكان فأتبعتها ، حتى نظروا إلى امرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع ،
قد استظلا بشجرة ، وقد ظهر الماء لهما ، فقالوا لهاجر :
من أنت وما شأنك وشأن هذا
الصبي ؟ قالت :
أنا أم ولد ابراهيم خليل الرحمن ، وهذا ابنه ، أمره الله أن ينزلنا
هيهنا ، فقالوا له :
أتأذنين لنا أن نكون
(289)
بالقرب منكم ؟ فقالت لهم :
حتى يأتي إبراهيم ، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث
قالت هاجر :
يا خليل الله إن هيهنا قوما من جرهم يسئلونك :
أن تأذن لهم ، حتى يكونوا
بالقرب منا ، أفتأذن لهم في ذلك ؟ قال ابراهيم :
نعم فأذنت هاجر لهم ، فنزلوا بالقرب
منهم ، وضربوا خيامهم ، فأنست هاجر واسمعيل بهم ، فلما زارهم ابراهيم في المرة الثانية
نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سرورا شديدا ، فلما تحرك اسمعيل وكانت جرهم قد
وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة ، وشاتين فكانت هاجر واسمعيل ، يعيشان بها فلما بلغ
اسمعيل مبلغ الرجال ، أمر الله ابراهيم :
ان يبني البيت إلى أن قال :
فلما أمر الله
ابراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه ، فبعث الله جبرئيل ، وخط له موضع
البيت إلى أن قال فبنى ابراهيم البيت ، ونقل اسمعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة
اذرع ، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه ابراهيم ، ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن ،
فلما بنى جعل له بابين بابا إلى الشرق ، وبابا إلى الغرب ، والباب الذي إلى الغرب ،
يسمى المستجار ، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر ، وألقت هاجر على بابها كسائا كان معها
وكانوا يكونون تحته ، فلما بنى وفرغ منه ، حج ابراهيم واسمعيل ، ونزل عليهما جبرئيل
يوم التروية ، لثمان من ذي الحجة فقال :
يا إبراهيم قم وارتو من الماء ، لانه لم يكن
بمنى وعرفات ماء ، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل
بآدم ، فقال ابراهيم لما فرغ من بناء البيت :
« رب اجعل هذا بلدا آمنا ، وارزق أهله من
الثمرات من آمن منهم » الآية قال ( عليه السلام ) :
من ثمرات القلوب ، أي حببهم إلى الناس ، ليستأنسوا بهم ، ويعودوا إليهم.
أقول : هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصه القصة ، وقد اشتملت عدة منها ، وورد في اخبار أخرى : أن تاريخ بناء البيت يتضمن امورا خارقة للعادة ، ففي بعض الاخبار ، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور : نزلت على آدم ، واستقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت ، ولم تزل حتى وقع طوفان نوح ، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى ، ولم تغرق البقعة ، فسمى لذلك البيت العتيق. (290)
وفي
بعض الاخبار :
أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة.
وفي بعضها ان الحجر الاسود نزل من الجنة ـ وكان أشد بياضا من الثلج ـ فاسودت : لما مسته إيدي الكفار. وفي الكافي أيضا عن إحدهما ( عليه السلام ) قال : ان الله إمر إبراهيم ببناء الكعبة ، وان يرفع قواعدها ، ويرى الناس مناسكهم ، فبنى إبراهيم واسمعيل البيت كل يوم ساقا ، حتى انتهى إلى موضع الحجر الاسود ، وقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فنادى أبو قبيس : ان لك عندي وديعة ، فأعطاه الحجر ، فوضعه موضعه. وفي تفسير العياشي عن الثوري عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال سألته عن الحجر ، فقال : نزلت ثلاثة أحجار من الجنة ، الحجر الاسود استودعه إبراهيم ، ومقام إبراهيم ، وحجر بني إسرائيل. وفي بعض الاخبار : ان الحجر الاسود كان ملكا من الملائكة. أقول : ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة ، وهي وان كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا ، أو معنى ، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس. أما ما ورد من نزول القبة على آدم ، وكذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق ، ونحو ذلك ، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة ، فهي امور لا دليل على استحالتها ، مضافا إلى ان الله سبحانه خص أنبيائه بكثير من هذه الآيات المعجزة ، والكرامات الخارقة ، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها. وأما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة ونزول الحجر الاسود من الجنة ، ونزول حجر المقام ـ ويقال : انه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم ـ من الجنة وما أشبه ذلك ، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر ، وقد ورد في عدة من النباتات والفواكه وغيرها : انها من الجنة ، وكذا ما ورد : انها من جهنم ، (291)
ومن
فورة الجحيم ، ومن هذا الباب أخبار الطينة القائلة :
ان طينة السعداء من الجنة ، وان
طينة الاشقياء من النار ، أو هما من عليين ، وسجين ، ومن هذا الباب أيضا ما ورد :
ان
جنة البرزخ في بعض الاماكن الارضية ، ونار البرزخ في بعض آخر ، وان القبر اما روضة من
رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، إلى غير ذلك ، مما يعثر عليه المتتبع البصير في
مطاوي الاخبار ، وهي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع
بالذى يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه وإنما هو من الهيات المعارف التي سمح
بها القرآن الشريف ، وانعطف إلى الجري على مسيرها الاخبار الذي يقضى به كلامه تعالى :
ان الاشياء التي في هذه النشأه الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله
سبحانه ، فما كانت منها خيرا جميلا ، أو وسيلة خير ، أو وعاء لخير ، فهو من الجنة ،
وإليها تعود ، وما كان منها شرا ، أو وسيلة شر ، أو وعاء لشر ، فهو من النار ، وإليها
ترجع ، قال تعالى :
« وان من شئ إلا عندنا خزائنه ، وما ننزله إلا بقدر معلوم » الحجر ـ
21 ، أفاد :
ان كل شئ موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد ، ولا مقدر بقدر ، وعند
التنزيل ـ وهو التدريج في النزول ـ يتقدر بقدره ويتحدد بحده ، فهذا على وجه العموم ،
وقد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى :
« وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج » الزمر
ـ 6 ، وقوله تعالى :
« وأنزلنا الحديد » الحديد ـ 25 ، وقوله تعالى :
« وفي السماء رزقكم
وما توعدون » الذاريات ـ 22 ، على ما سيجئ من توضيح معناها إنشاء الله العزيز ، فكل شئ
نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه ، وقد أفاد في كلامه :
أن الكل راجع إليه سبحانه ،
فقال :
« وان إلى ربك المنتهى » النجم ـ 42 ، وقال تعالى :
« إلى ربك الرجعى » العلق ـ 8 ،
قال :
« وإليه المصير » المؤمن ـ 3 ، وقال تعالى :
« ألا إلى الله تصير الامور » الشورى ـ
53 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وأفاد : أن الاشياء ـ وهي بين بدئها وعودها ـ تجري على ما يستدعيه بدؤها ، ويحكم به حظها من السعادة والشقاء ، والخير والشر ، فقال تعالى : « كل يعمل على شاكلته » أسراء ـ 84 ، وقال : « ولكل وجهة هو موليها » البقرة ـ 148 ، وسيجئ توضيح دلالتها جميعا ، والغرض هيهنا مجرد الاشارة إلى ما يتم به البحث ، (292)
وهو
ان هذه الاخبار الحاكية عن كون هذه الاشياء الطبيعية ، من الجنة ، أو من النار ، إذا
كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة ، المطابقتها لاصول قرآنية
ثابتة في الجملة ، وان لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا ، يصح الركون إليه ،
فافهم المراد.
وربما قال القائل : ان قوله تعالى : « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل » الآية ظاهر في انهما ، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية ، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين ، جاؤنا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا ، وتفننوا في رواياتهم ، عن قدم البيت ، وعن حج آدم ، وعن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان وعن كون الحجر الاسود من أحجار الجنة ، وقد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه ، وهذه التزيينات بزخارف القول ، وان أثرت أثرها في قلوب العامة ، لكن أرباب اللب والنظر من أهل العلم يعلمون ان الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه ، بتكريم بعض الاشياء على بعض ، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتا لله ، منسوبا إليه ، وشرف الحجر الاسود بكونه موردا للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه ، وأما كون الحجر في أصله ياقوتة ، أو درة ، أو غير ذلك ، فلا يوجب مزية فيه ، وشرفا حقيقا له ، و ما الفرق بين حجر أسود ، وحجر أبيض ، عند الله تعالى في سوق الحقائق ، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إياه بيته ، وجعله موضعا لضروب من عبادته ، لا تكون في غيره ـ كما تقدم ـ لا بكون أحجاره تفضل سائر الاحجار ، ولا بكون موقعه تفضل سائر المواقع ، ولا بكونه من السماء ، وعالم الضياء وكذلك شرف الانبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ، ولافي ملابسهم ، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم ، وتخصيصهم بالنبوة ، التي هي أمر معنوي ، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة ، وأكثر نعمة منهم. قال : وهذه الروايات فاسده ، في تناقضها وتعارضها في نفسها ، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها ، وفاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب. قال : وهذه الروايات خرافات إسرائيلية ، بثها زنادقة اليهود في المسلمين ، (293)
ليشوهوا عليهم دينهم ، وينفروا أهل الكتاب منه.
اقول : ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة ، الا انه أفرط في المناقشة ، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى وأشنع. أما قوله : أن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض والتعارض وثانيا من جهة مخالفة الكتاب ، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها ، وأما الاخذ بمجموعها من حيث المجموع ( بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا ) فلا يضره التعارض الموجود فيها وإنما نعني بذلك : الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة ، كالنبى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والطاهرين من أهل بيته ، وأما غيرهم من مفسري الصحابة ، والتابعين ، فحالهم حال غيرهم من الناس وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض ، حال كلامهم المشتمل على التناقض وبالجملة لا موجب لطرح رواية ، أو روايات ، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية ، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل ، كما لا حجية إلا للكتاب والسنة القطعية ، في اصول المعارف الدينية الالهية. فهناك ما هو لازم القبول ، وهو الكتاب والسنة القطعية وهناك ما هو لازم الطرح ، وهو ما يخالفهما من الآثار ، وهناك مالا دليل على رده ، ولا على قبوله ، وهو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته ، ولا من جهة النقل أعني : الكتاب والسنة القطعية على منعه. وبه يظهر فساد اشكاله بعدم صحة أسانيدها ، فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح. وأما مخالفتها لظاهر قوله : « واذ يرفع ابراهيم القواعد » الآية فليت شعري : أن الآية الشريفة كيف تدل على نفى كون الحجر الاسود من الجنة ؟ أم كيف تدل على نفى نزول قبة على البقعة في زمن آدم ، ثم ارتفاعها في زمن نوح ؟ وهل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر والطين بناء ابراهيم ؟ وأي ربط له اثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها ، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل ، ولا يرتضيه رأيه (294)
لعصبية مذهبية توجب نفى معنويات الحقائق عن الانبياء ، واتكاء الظواهر الدينية على
اصول وأعراق معنوية ، أو لتبعية غير ارادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم ، حيث
تحكم :
أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية ، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات
يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة ، الحاكمة في جميع شؤون الحوادث
كالتعليمات الاجتماعية.
وقد كان من الواجب : أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة وتراكيبها وارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها ذاك ، الارتباط الطبيعي وكذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط. وأما الحقائق الخارجة عن حومة المادة وميدان عملها ، المحيطة بالطبيعة وخواصها وارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية وما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية والاجتماعيه ، ولا يسعها أن تتكلم فيها أو تتعرض لاثباتها ، أو تقضي بنفيها العلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين والحجر ، وإلى بان يبنيه ويعطيه بحركاته وأعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الاحجار السود وكذا الابحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء ابراهيم للبيت ، وهي جمل من تاريخ حياته ، وحياة هاجر ، واسمعيل ، وتاريخ تهامة ، ونزول جرهم ، إلى غير ذلك ، وأما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه ، أو تنفى ما قيل ، أو يقال فيه ، وقد عرفت : أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها ومستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه « أيما إلى جنة أيما إلى نار » ، وهو الناطق بكون الاعمال صاعدة إلى الله ، مرفوعة نحوه ، نائلة إياه ، مع أنها حركات وأوضاع طبيعية ، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية ، قال تعالى : « ولكن يناله التقوى منكم » الحج ـ 37 ، والتقوى فعل ، أو صفة حاصلة من فعل ، وقال تعالى : « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » الفاطر ـ 10 ، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات والاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي على الاستقامة وانما اتكاؤها وركونها (295)
إلى
حقائق ومعان وراء ذلك.
وأما قوله : إن شرف الانبياء والمعاهد والامور المنسوبة إليهم كالبيت والحجر الاسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الالهي فكلام حق ، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه ، فما هذا الامر المعنوي الذي يتضمن الشرافة ؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها وموادها نظير الرتب والمقامات التي يتداولها الدول والملل كالرئاسة والقيادة في الانسان وغلاء القيمة في الذهب والفضة وكرامة الوالدين وحرمة القوانين والنواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي ، لا أثر منها في خارج الوهم والاعتبار الاجتماعي ، ومن المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدي عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية ، والله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حيوة الانسان ، ومع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر ، وان كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور والظلمة ، والعلم والجهل ، والعقل والسفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره وان كانت حواسا الظاهرية لا تنال ذلك وهو اللائق بساحة قدسه من الفعل والحكم ، كما قال الله تعالى : « وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين ، ما خلقناهما إلا بالحق ، ولكن أكثرهم لا يعلمون » الدخان ـ 39 ، وسيجئ بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة فإذا جاز تحققها في الانبياء بنحو فليجز تحققها في غير الانبياء كالبيت والحجر ونحوهما وإن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع. وليت شعري : ما ذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة وتشريف أهلها بالذهب والفضة ، وهما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود ؟ فما ذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما ؟ وما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة ولا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع ؟ فهل لهذه البيانات الالهية والظواهر الدينية وجه غير انها حجب من الكلام وأستار وراءها أسرار ؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الامور نشأه الدنيا. (296)
وفي
تفسير العياشي عن الزبيري عن أبى عبد الله ( عليه السلام )
قال :
قلت له :
أخبرني عن أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
من هم ؟ قال أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
بنو هاشم خاصة قلت :
فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟
قال :
قول الله :
وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل ربنا تقبل منا ، انك أنت
السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب
علينا انك أنت التواب الرحيم ، فلما أجاب الله ابراهيم واسمعيل وجعل من ذريتهما أمة
مسلمة وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الامة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وردف دعوته الاولى دعوته الاخرى فسال لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة
الاصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم ، فقال :
واجنبني وبني أن نعبد الاصنام رب
انهن أضللن كثيرا من الناس ، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ففي هذا
دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة ، التي بعث فيها محمدا الا من ذرية
ابراهيم لقوله :
أجنبني وبني أن نعبد الاصنام.
أقول : استدلاله ( عليه السلام ) في غاية الظهور ، فإن ابراهيم (ع) انما سال امة مسلمة من ذريته خاصة ، ومن المعلوم من ذيل دعوته : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم اه : أن هذه الامة المسلمة هي أمة محمد (ص) لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث (ص) إليهم ولا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الامة أعم من ذرية ابراهيم واسمعيل بل امة مسلمة هي من ذرية ابراهيم (ع) ثم سال ربه أن يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة ، ومن المعلوم أن ذرية ابراهيم واسمعيل ـ وهم عرب مضر أو قريش خاصة ـ فيهم ضال ومشرك فمراده من بنيه في قوله : وبني ، أهل العصمة من ذريتة خاصه ، وهم النبي وعترته الطاهرة ، فهؤلاء هم أمة محمد (ص) في دعوة ابراهيم (ع) ، ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين ، ويؤيده قوله : (ع) : فمن تبعني فإنه مني ، ومن عصاني فانك غفور رحيم الآية. حيث أتى بفاء التفريع وأثبت من تبعه جزءا من نفسه ، وسكت عن غيرهم كأنه ينكرهم ولا يعرفهم ، هذا. وقوله ( عليه السلام ) : فسئل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ، انما سئل (297)
ابراهيم (ع) التطهير من عبادة الاصنام الا أنه (ع) علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير
من جميع الضلال من عبادة الاصنام ومن أي شرك حتى المعاصي ، فإن كل معصية شرك كما مر
بيانه في قوله تعالى :
« صراط الذين أنعمت عليهم » فاتحة الكتاب ـ 6.
وقوله ( عليه السلام ) وفي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة ، إلخ أي إنهما واحد ، وهما من ذرية إبراهيم كما مر بيانه. فان قلت : لو كان المراد بالامة في هذه الآيات ونظائرها كقوله تعالى « كنتم خير أمة أخرجت للناس » آل عمران ـ 110 ، عدة معدودة من الامة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك ولا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى ، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة. قلت : إطلاق أمة محمد وإرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن وانتشار الدعوة الاسلامية وإلا فالامة بمعنى القوم كما قال تعالى « على امم ممن معك وأمم سنمتعهم » هود ـ 48 ، وربما اطلق على الواحدة كقوله تعالى « إن إبراهيم كان أمة قانتا لله » النحل ـ 120 ، وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها ، أو اريد فيه معناها. فقوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية ـ والمقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم ـ لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذا قوله : كنتم خير امة خرجت للناس وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الامة ، وكيف يشمل فراعنة هذه الامة دجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه ومحوه ، ولا لاوليائه عظما إلا كسروه وسيجئ تمام البيان في الآية إنشاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل ) : « وإنى فضلتكم على العالمين » البقرة ـ 47 ، فإن منهم قارون ولا يشمله الآية قطعا ، كما أن قوله تعالى : « وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا » الفرقان ـ 30 ، لا يعم جميع هذه الامة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى. (298)
واما قوله تعالى :
« تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا
يعملون » البقرة ـ 134 ، فالخطاب فيه متوجة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي ، أو من بعث
إليه.
( بحث علمي )
إذا رجعنا إلى قصة ابراهيم ( عليه السلام )
وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكة ، وإسكانهما هناك ، وما جرى عليهما من الامر ، حتى آل
الامر ، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت ، وجدنا القصة دورة
كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه ، ومن أرض
البعد إلى حظيرة القرب بالاعراض عن زخارف الدنيا ، وملاذها ، وأمانيها من جاه ، ومال ،
ونساء وأولاد ، والانقلاع والتخلص عن وسائس الشياطين ، وتكديرهم صفو الاخلاص والاقبال
والتوجه إلى مقام الرب ودار الكبرياء.
فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت وتألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحب والوله والاخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة ولمعانا. ثم : إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم ، أن يشرع للناس عمل الحج ، كما قال « وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق إلى آخر الآيات » الحج ـ 27 ، وما شرعه ( عليه السلام ) وان لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته ، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى : « قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا » الانعام ـ 161 ، وقوله تعالى : « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى ، وعيسى » الشورى ـ 13. وكيف كان فما شرعه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من نسك الحج المشتمل على الاحرام والوقوف (299)
بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمى الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف
والصلوة بالمقام تحكي قصة إبراهيم ، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من
مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية والسائق نحوها ذلة العبودية.
والعبادات المشروعة ـ على مشرعيها أفضل السلام ـ صور لمواقف الكملين من الانبياء من ربهم ، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى ، كما قال تعالى : « لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة » الاحزاب ـ 21 ، وهذا أصل. وفي الاخبار المبينة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى ، يعثر عليها المتتبع البصير. ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ـ 130. إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ـ 131. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ـ 132. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ـ 133. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون ـ 134. (300)
( بيان )
قوله تعالى :
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، الرغبة ، إذا عديت بعن
أفادت معنى الاعراض والنفرة ، وإذا عديت بفي أفادت :
معنى الشوق والميل ، وسفه يأتي
متعديا ولازما ، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله :
نفسه مفعول لقوله :
سفه ، وذكر آخرون أنه
تمييز لا مفعول ، والمعنى على أي حال :
أن الاعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس ،
وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث أن
العقل ما عبد به الرحمن.
قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا ، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه ، وهو التحقق بالدين في جميع الشؤون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في امور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضيه الله لعبده في جميع اموره كما قال الله تعالى : « إن الدين عند الله الاسلام » آل عمران ـ 19 ، فظهر : أن مقام الاصطفاء هو مقام الاسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى : « إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين » الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله : اصطفيناه ، فيكون المعنى أن إصطفائه إنما كان حين قال له ربه : أسلم ، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى : ( إذ قال له ربه أسلم : قال أسلمت لرب العالمين ، بمنزله التفسير لقوله : اصطفيناه. وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله : إذ قال له ربه أسلم ، ولم يقل إذ قلنا له أسلم ، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم : قال أسلمت لرب العالمين ، ولم يقل : قال أسلمت لك اما الاول ، فالنكتة فيه : الاشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب ، فأفاد : أن القصة من مسامرات الانس وخصائص الخلوة. |
|||
|