الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول :::316 ـ 330
(316)
فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ـ 144. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جائك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ـ 145. الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ـ 146. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ـ 147. ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير ـ 148. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام إنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ـ 149. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطرة لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ـ 150. كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ـ 151.


(317)
( بيان )
    الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما وتأخرا أو إن فيها ناسخا ومنسوخا ، وربما رووا فيها شيئا من الروايات ، ولا يعبا بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.
     قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركوا العرب الراصدون لكل امر جديد يحتمل الجدال والخصام ، وقد مهد لذلك اولا بما ذكره الله تعالى من قصص ابراهيم وانواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه اسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والامة المسلمة وبنائهما البيت والامر بتطهيره للعبادة ، ومن المعلوم ان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من اعظم الحوادث الدينية واهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الاسلام في تحقيق اصوله ونشر معارفه وبث حقائقه ، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع ، لانهم كانوا يرون انه يبطل واحدا من اعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني ، على ان ذلك تقدم باهر في دين المسلمين ، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة اشد تأثيرا واقوى من امثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين ، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن ، فقد كانوا امة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا ، إذا جائهم حكم من احكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم امر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالانكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.


(318)
    وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة وعلم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم.
    أما اعتراضهم : فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت ، ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتي ما وجهه ؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ مشرعه ، واليهود ما كانت تعتقد النسخ ( كما تقدم في آية النسخ ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وان لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض ، إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.
     وأما الجواب : فهو ان جعل بيت من البيوت كالكعبة ، أو بناء من الابنية أو الاجسام كبيت المقدس ، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغائه ، بل جميع الاجسام والابنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الانسان في أنها لا تقتضي حكما ولا يستوجب تشريعا على السواء وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء ، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفردي والنوعي ، فلا يحكم إلا ليهدى به ولا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم.
     قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبر عنهم بالناس وإنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع ، والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي.
     قوله تعالى : ما وليهم ، تولية الشئ أو المكان جعله قدام الوجه وأمامه كالاستقبال ، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها الآية ، والتولية عن الشئ صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه ، والمعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها وهو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي والمسلمون أيام إقامته بمكة وعدة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع ان اليهود أقدم في الصلوة


(319)
إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب وأوجب للاعتراض ، وإنما قيل ما وليهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولى النبي والمسلمين لما ذكرنا من الوجه ، فلو قيل ما ولى النبي والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه وكان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.
     قوله تعالى : قل لله المشرق والمغرب ، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الاصليه والفرعية كالشمال والجنوب وما بين كل جهتين من الجهات الاربعة الاصلية ، والمشرق والمغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما ، يعمان جميع نقاط الارض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيتان ، ولعل هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات.
     قوله تعالى : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، تنكير الصراط لان الصراط يختلف باختلاف الامم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة.
     قوله تعالى : وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا ( هو كما ترى ) ، وأما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف ، وهذ الامة بالنسبة إلى الناس ـ وهم أهل الكتاب والمشركون ـ على هذا الوصف فإن بعضهم ـ وهم المشركون والوثنيون ـ إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحيوة الدنيا والاستكمال بملاذها وخارفها وزينتها ، لا يرجون بعثا ولا نشورا ، ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية ، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية ورفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لاجله الانسان ، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بابطال سببها واؤلئك اصحاب الجسم ابطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها ، لكن الله سبحانه جعل هذه الامة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين ـ جانب الجسم وجانب الروح ـ على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإن الانسان مجموع الروح والجسم لا روح محضا ولا جسم محضا ، ومحتاج


(320)
في حيوته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادية والمعنوية ، فهذه الامة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الاطراف والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو المثال الاكمل من هذه الامة ـ هو شهيد على نفس الامة فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميزان يوزن به حال الآحاد من الامة ، والامة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الافراط والتفريط ، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الامة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان ، وميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين ، أو يشاهد الطرفين ، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر ، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الامة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الامة على جعل الامة وسطا ، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه.
    على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية ، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى ، قال تعالى « فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » النساء ـ 41 ، وقال تعالى « ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون » النحل ـ 84 ، « وقال تعالى ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء » الزمر ـ 69 ، والشهادة فيها مطلقة وظاهر الجميع على اطلاقها هو الشهادة على اعمال الامم ، وعلى تبليغ الرسل أيضا ، كما يومي إليه قوله تعالى « ولنسئلن الذين ارسل إليهم ولنسئلن المرسلين » الاعراف ـ 6 ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيمة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى ـ حكاية عن عيسى ( عليه السلام ) ـ « وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد » المائدة ـ 117 ، وقوله تعالى « ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا » النساء ـ 159 ، ومن الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا ، والقوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الافعال والاعمال فقط ، وذلك التحمل أيضا ، إنما يكون في شئ يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه وأما حقائق الاعمال والمعاني النفسانية من الكفر والايمان والفوز والخسران ، وبالجملة كل خفي عن الحس ومستبطن عند الانسان ـ وهي التي تكسب


(321)
القلوب ، وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » البقرة ـ 225 ـ فهي مما ليس في وسع الانسان إحصائها والاحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده ، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى « ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون : » الزخرف ـ 86 ، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا ـ وقد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء ـ كما مر في الآيتين السابقتين ، فهو شهيد بالحق وعالم بالحقيقة.
     والحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الامة على دين جامع للكمال الجسماني والروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.
    بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ، ورد وقبول ، وانقياد وتمرد ، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شئ ، حتى من أعضاء الانسان ، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
    ومن المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الامة ، إذ ليست إلا كرامة خاصة للاولياء الطاهرين منهم ، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة ، والعدول من أهل الايمان فليس لهم ذلك ، فضلا عن الاجلاف الجافية ، والفراعنة ، الطاغية من الامة ، وستعرف في قوله تعالى « ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا » النساء ـ 69 ، ان أقل ما يتصف به الشهداء ـ وهم شهداء الاعمال ـ أنهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم ، وقد مر إجمالا في قوله تعالى « صراط الذين انعمت عليهم » فاتحة الكتاب ـ 7.
     فالمراد بكون الامة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم ، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين ، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم ، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه ، فكون الامة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.


(322)
    فان قلت : قوله تعالى « والذين آمنوا بالله ورسله اؤلئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم » الحديد ـ 19 ، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء.
     قلت : قوله عند ربهم ، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة ، ولم ينالوه في الدنيا ، نظير ذلك قوله تعالى « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنابهم ذريتهم » الطور ـ 21 ، على ان الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الامم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الامة فلا ينفع المستدل شيئا.
    فان قلت : جعل هذه الامة امة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الاعمال ولا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالاشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.
     قلت : معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الامة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء ، وقد قال الله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبيكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سميكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فاقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم ، فنعم المولى ونعم النصير » الحج ـ 78 ، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لابيكم إبراهيم الذي هو سميكم المسلمين من قبل ، وذلك حين دعا لكم ربه وقال : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين ، تسلمون له الحكم والامر من غير عصيان واستنكاف ، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين ، فلا يشق عليكم شئ منه ولا يحرج ، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط ، المسلمون لربهم الحكم والامر ، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، أي تتوسطوا بين الرسول وبين الناس فتتصلوا من جهة إليهم ، وعند ذلك يتحقق مصداق دعائه ( عليه السلام ) فيكم وفي الرسول


(323)
حيث قال « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم » البقرة ـ 129 ، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة ، ومزكين بتزكيته ، والتزكية التطهير من قذرات القلوب ، وتخليصها للعبودية ، وهو معنى الاسلام كما مر بيانه ، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم ، وللرسول في ذلك القدم الاول والهداية والتربية ، فله التقدم على الجميع ، ولكم التوسط باللحوق به ، والناس في جانب وفي أول الآية وآخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها نبينها في محله انشاء الله.
    فقد تبين بما قدمناه : اولا ، أن كون الامة وسطا مستتبع للغايتين جميعا ، وأن قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا الاية جميعا لازم كونهم وسطا.
     وثانيا : أن كون الامة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول وبين الناس ، لا بتخللها بين طرفي الافراط والتفريط ، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس.
     وثالثا : أن الاية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم ( عليه السلام ) وان الشهادة من شئون الامة المسلمة.
     واعلم : أن الشهادة على الاعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس ، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواس والقلب فله فيه شهادة.
     ويستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية وأن لها نحوا من الحيوة الشاعرة بها ، تتحمل بها خصوصيات الاعمال ، وترتسم هي فيها ، وليس من اللازم ان تكون الحيوة التي في كل شئ ، سنخا واحدا كحيوة جنس الحيوان ، ذات خواص وآثار كخواصها وآثارها ، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحيوة في نحو واحد ، هذا إجمال القول في هذا المقام وأما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به.
     قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن


(324)
ينقلب على عقبية ، المراد بقوله لنعلم : اما علم الرسل والانبياء مثلا ، لان العظماء يتكلمون عنهم وعن اتباعهم ، كقول الامير ، قتلنا فلانا وسجنا فلانا ، وإنما قتله وسجنه اتباعه لانفسه ، واما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة والايجاد ، دون العلم قبل الايجاد.
     والانقلاب على العقبين كناية عن الاعراض ، فان الانسان ـ وهو منتصب على عقبيه ـ إذا انقلب من جهة إلى جهة ، انقلب على عقبيه ، فجعل كناية عن الاعراض نظير قوله « ومن يولهم يومئذ دبره » الانفال ـ 16 ، وظاهر الآية انه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين : من تغيير القبلة ونسخها ، ومن جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة ، ما شأنها ؟
    ويظهر من ذلك ان المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها ، هو بيت المقدس دون الكعبة ، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين ، وجعل الكعبة قبلة مرتين ، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.
     وبالجملة كان من المترقب ان يختلج في صدور المؤمنين : أولا ، انه لما كان من المقدر ان يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب ، أولا : في جعل بيت المقدس قبلة ؟ فبين سبحانه ان هذه الاحكام والتشريعات ليست إلا لاجل مصالح تعود إلى تربية الناس وتكميلهم ، وتمحيص المؤمنين من غيرهم ، وتمييز المطيعين من العاصين ، والمنقادين من المتمردين ، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه ، فالمراد بقوله الا لنعلم من يتبع الرسول ، الا لنميز من يتبعك ، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز ، والمراد بجعل القبلة السابقة : جعلها في حق المسلمين ، وان كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول ، والكلام على رسله من غير التفات ، غير انه بعيد من الكلام بعض البعد.
     وثانيا : ان الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها ، وقد صليت إلى غير القبلة ؟ والجواب : ان القبلة قبله ما لم تنسخ ، وان الله سبحانه إذا


(325)
نسخ حكما رفعه من حين النسخ ، لا من أصله ، لرأفته ورحمته بالمؤمنين ، وهذا ما أشار إليه بقوله : وما كان الله ليضيع اعمالكم ، ان الله بالناس لرؤوف رحيم. والفرق بين الرأفة والرحمة ، بعد اشتراكهما في أصل المعنى ، ان الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق ، والرحمة أعلم.
     قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها ، الآية تدل على ان رسول الله قبل نزول آية القبلة ـ وهي هذه الآية ـ كان يقلب وجهه في آفاق السماء ، وان ذلك كان انتظارا منه ، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة ، لما كان يحب ان يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به ، لا انه كان لا يرتضى بيت المقدس قبلة ، وحاشا رسول الله من ذلك ، كما قال تعالى : فلنولينك قبلة ترضيها ، فان الرضا بشئ لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم ، ويتفاخرون بذلك عليهم ، فحزن رسول الله ذلك ، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه ، وكشف همه فنزلت الآية ، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على اليهود ، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عارفي استقبال قبلتهم ، إذ ليس للعبد إلا الاطاعة والقبول ، لكن نزلت بقبلة جديدة ، فقطع تعييرهم وتفاخرهم ، مضافا إلى تعيين التكليف ، فكانت حجة ورضى.
     قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. الشطر البعض ، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة ، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون ان يقال : فول وجهك الكعبة ، أو يقال : فول وجهك البيت الحرام ، محاذاة للحكم في القبلة السابقة فانها كانت شطر المسجد الاقصى ، وهي الصخرة المعروفة هناك ، فبدلت من شطر المسجد الحرام ـ وهي الكعبة ـ على ان اضافة الشطر إلى المسجد وتوصيف المسجد ، بالحرام يعطي مزايا للحكم تفوت لو قيل : الكعبة أو البيت الحرام.
     وتخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله فول وجهك ، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيد ان القبلة حولت ، ورسول الله قائم يصلي في


(326)
المسجد ـ والمسلمون معه ـ فاختص الامر به ، أولا في شخص صلوته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره ، ولجميع الاوقات والامكنة.
     قوله تعالى : وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم ، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام ، وايا ما كان فقوله : اوتوا الكتاب ، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع ، اما مطابقة أو تضمنا ، وما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق ، واحتكار ما عندهم من العلم.
     قوله تعالى : « ولئن أتيت الذين اوتوا الكتاب بكل » آية ، تقريع لهم بالعناد واللجاج ، وان ابائهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم ، وعدم تبينه لهم ، فانهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك ، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق ، فلا ينفعهم حجة ، ولا يقطع إنكارهم آية فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم ، وما أنت بتابع قبلتهم ، لانك على بينة من ربك ويمكن أن يكون قوله : وما أنت نهيا في صورة خبر ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض ، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا ، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا ، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض ، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.
     قوله تعالى : ولئن اتبعت اهوائهم من بعد ما جائك من العلم ، تهديد للنبي ، والمعنى متوجه إلى امته ، وإشارة إلى انهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهوائهم وانهم بذلك ظالمون.
     قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ، الضمير في قوله يعرفونه ، راجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون الكتاب ، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الابناء ، فان ذلك إنما يحسن في الانسان ، ولا يقال في الكتاب ، ان فلانا يعرفه أو يعلمه ، كما يعرف ابنه ، على ان سياق الكلام ـ وهو في رسول الله ،


(327)
وما اوحي إليه من أمر القبلة ، اجنبي عن موضوع الكتاب الذي اوتيه أهل الكتاب ، فالمعنى ان أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم ، وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.
     وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه ، فقد أخذ رسول الله غائبا ، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حاضرا ، والخطاب معه ، وذلك لتوضيح : ان امره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واضح ظاهر عند أهل الكتاب ، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله ، فيخاطبه ويسمع غيره ، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة ، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة ، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.
     قوله تعالى : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء ، وهو الشك والارتياب ، وظاهر الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعناه للامة.
     قوله تعالى : ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة ، و هذارجوع إلى تلخيص البيان السابق ، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبله ، والاكثار من الكلام فيه ، والمعنى ان كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل ، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة فيه ، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق ، فان الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه ، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله على كل شئ قدير.
     واعلم ان الآية كما انها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين ، وفيها اشارة إلى القدر والقضاء ، وجعل الاحكام والاداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخص به من المقام إنشاء الله.


(328)
    قوله تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، ذكر بعض المفسرين أن المعنى ومن أي مكان خرجت ، وفي أي بقعة حللت فول وجهك وذكر بعضهم أن المعنى ومن حيث خرجت من البلاد ، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت ، مكة ، التي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما قال تعالى « من قريتك التي أخرجتك » محمد ـ 13 ، ويكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة وغيرها من البلاد والبقاع وفي قوله وأنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون تأكيد و تشديد.
     قوله تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، تكرار الجملة الاولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال ، فهو كقول القائل ، اتق الله إذا قمت واتق الله إذا قعدت ، واتق الله إذا نطقت ، واتق الله إذا سكت ، يريد : التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الاحوال ولتكن معك ، ولو قيل اتق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكت فاتت هذه النكتة ، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها وحيث ما كنتم من الارض فولوا وجوهكم شطره.
     قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذر عن الخلاف :
    احديها : أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس ، كما قال تعالى : وإن الذين إوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم الآية ، وفي ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم ، وهو استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الاهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لانهم ظالمون باتباع الاهواء ، والله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني.
     وثانيتها : أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم ، وسنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي » المائدة ـ 4.


(329)
    وثالثتها : رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم ، وقد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى : « إهدنا الصراط المستقيم » فاتحة الكتاب ـ 6.
     وذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية ـ وهي آية تحويل القبلة ـ على قوله وليتم نعمته عليكم ولعلكم تهتدون ، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين ، إذ قال تعالى « إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما » الفتح ـ 2 يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة.
     بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الاسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم ، والاسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته ، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس ، لكونه قبلة لليهود ، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الاسلام ، ثم لما ظهر أمر الاسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة ، وقرب زمان الفتح وتوقع تطهيرالبيت من أرجاس الاصنام جاء الامر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون ، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الاوثان ، وتعينها لان تكون قبله يعبد الله إليها ، ويكون المسلمون هم المختصون بها ، وهي المختصة بهم ، فهي بشارة بفتح مكة ، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما الآية.
     وهذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر ، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه ، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية : « ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون » ، الآية إنما هو لام الغاية ، وآية سورة الفتح التي أخذها انجازا لهذا الوعد ومصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى : « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما » ، مشتملة على هذه اللام بعينها ، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة ، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين ، وآية الفتح على ذلك لرسول الله خاصة فالسياق في الآيتين مختلف.
    ولو كان هناك آية تحكي عن انجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله


(330)
تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا » المائدة ـ 4 ، وسيجئ الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة التي يمتن بها الله سبحانه في الآية.
     ونظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى « ولكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون » المائدة ـ 6 ، وقوله تعالى « كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون » النحل ـ 81 ، وسيجئ إنشاء الله شئ من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.
     قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ، ظاهر الآية إن الكاف للتشبيه وما مصدرية ، فالمعنى : أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم ، إذ قال هو وابنه إسمعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وفيهم امتنان عليهم بالارسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة ، ومن هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم ، هو الامة المسلمة ، وهو أولياء الدين من الامة خاصة بحسب الحقيقة ، والمسلمون جميعا من آل إسمعيل ، ـ وهم عرب مضر ـ بحسب الظاهر ، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.
     قوله تعالى : يتلوا عليكم آياتنا ، ظاهرة آيات القرآن لمكان قوله يتلوا ، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى ، والتزكية هي التطهير ، وهو إزالة الادناس والقذارات ، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر ، وإزالة الملكات الرذيلة من الاخلاق كالكبر والشح ، وإزالة الاعمال والافعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة وتعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الاصلية والفرعية.
     واعلم : أن الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات ، فيه تعالى بالغيبة ولتكلم وحده ومع الغير ، وفي غيره تعالى أيضا بالغيبة والخطاب والتكلم ، والنكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس