الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 346 ـ 360
(346)
تمتع الغير فالفطرة الانسانية تأباه ، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الاوهام الكاذبة ، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم ، قالوا إن الانسان الحر من رق الاوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه ، أو كل ما فيه شرفه ، لينال الحيوة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء ، ويجب عليه ان يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون ، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة ، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حيوة الشرف والعلاء.
     وليت شعري إذا لم يكن إنسان ، وبطل هذا التركيب المادي وبطل بذلك جميع خواصه ، ومن جملتها الحيوة والشعور ، فمن هو الذي ينال هذه الحيوة وهذا الشرف ؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به ؟ فهل هذا إلا خرافة.
     ؟ وثانيا : ان ذيل الآية ـ وهو قوله تعالى : ولكن لا تشعرون ، ـ لا يناسب هذا المعنى ، بل كان المناسب له أن يقال : بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل ، وثناء الناس عليهم بعدهم ، لانه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.
     وثالثا : أن نظيرة هذه الآية ـ وهي تفسرها ـ وصف حيوتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى ، قال تعالى : « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون » آل عمران ـ 196 ، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحيوة حيوة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.
     ورابعا : ان الجهل بهذه الحيوة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في اواسط عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل انما هو البعث للقيمة ، واما ما بين الموت إلى الحشر ـ وهي الحيوة البرزخية ـ فهي وان كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة ، لكنها ليست من ضروريات القرآن ، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وان الانسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب ، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيمة ، فيمكن ان يكون المراد بيان حيوة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك ، وان علم به آخرون.


(347)
    ولجملة : المراد بالحياة في الآية الحيوة الحقيقية دون التقديرية ، وقد عد الله سبحانه حيوة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه ، كقوله تعالى : « واحلوا قومهم دار البوار » إبراهيم ـ 28 ، إلى غير ذلك من الايات ، فالحياة حياة السعادة ، والاحياء بهذه الحيوة المؤمنون خاصة كما قال : « وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون » العنكبوت ـ 64 ، وانما لم يعلموا ، لان حواسهم مقصورة على ادراك خواص الحيوة في المادة الدنيوية ، وأما ما ورائها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فنائا ، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا ، فلذلك قال : في هذه الآية ، بل احياء ولكن لا تشعرون أي : بحواسكم ، كما قال في الآية الاخرى : لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، أي باليقين كما قال تعالى : « كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم » التكاثر ـ 6.
     فمعنى الآية ـ والله اعلم ـ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ، ولاتعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم ، ومقابلته مع الحياة ، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا باموات بمعنى البطلان ، بل احياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به ، وإلقاء هذا القول على المؤمنين ـ مع انهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حيوة الانسان بعد الموت ، وعدم بطلان ذاته ـ انما هو لايقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم ، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم ، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل ، فانه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند اولياء القتيل الا مفارقة في ايام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحيوة الطيبة ، والنعمة المقيمة ، ورضوان من الله اكبر ، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى : « الحق من ربك فلا تكونن من الممترين » الاية ، مع انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اول الموقنين بآيات ربه ، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب ، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

    فالاية تدل دلالة واضحة على حيوة الانسان البرزخية ، كالاية النظيرة لها وهى


(348)
قوله : « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون » آل عمران ـ 169 ، والايات في ذلك كثيرة.
    ومن اعجب الامر ما ذكره بعض الناس في الاية : انها نزلت في شهداء بدر ، فهي مخصوصة بهم فقط ، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا ، ولقد احسن بعض المحققين : من المفسرين في تفسير قوله : « واستعينوا بالصبر والصلاة » الاية ، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الاقاويل.
     وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا ؟ وعلى أي صفة يتصورون حيوة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم : بانعدام الانسان بعد الموت والقتل ، وانحلال تركيبه وبطلانه ؟ أهو على سبيل الاعجاز : باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الاكرم وسائر الانبياء والمرسلين والاولياء المقربين ، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام ، فليس ذلك بإعجاز بل ايجاد محال ضروري الاستحالة ، ولا إعجاز في محال ، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه ؟ ام هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بان يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء ؟ فهم أحياء يرزقون بالاكل والشرب وسائر التمتعات ـ وهم غائبون عن الحس ـ وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الاعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد اخطأ في ذلك من رأس ، فلو جاز على الحس أمثال هذه الاغلاط فيصيب في شئ ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الاطلاق ، ولو كان المخصص هو الارادة الالهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر ، والاشكال ـ وهو عدم الوثوق بالادراك على حاله ، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع ، واقعا والواقع ليس بواقع وكيف يرضى عاقل ان يتفوه بمثل ذلك ؟ وهل هو إلا سفسطة.
    وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين ، حيث يرون أن الامور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة ، كالملائكة وارواح المؤمنين وساير ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية ، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الاجسام الكثيفة ، على صورة الانسان ونحوه ، يفعل جميع الافعال الانسانية مثلا ، ولها امثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام


(349)
الطبيعة : من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله ، والحيوة والموت الطبيعيتين ، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا ، وإذا لم يشأ أو شاء ان لا تظهر لم تظهر ، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس ، أو تلك الاشياء.
     وهذا القول منهم مبني على انكار العلية والمعلولية ، بين الاشياء ولو صحت هذه الامنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية ، والاحكام العلمية ، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى اجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي ، وهو ظاهر.
    فقد تبين بما مر : أن الآية دالة على الحيوة البرزخية ، وهي المسماة بعالم القبر ، عالم متوسط بين الموت والقيمة ، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيمة.
    ومن الآيات الدالة عليه وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة ـ قوله تعالى : « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين » آل عمران ـ 171 ، وقد مر تقريب دلالة الاية على المطلوب ، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الايات بشهداء بدر في متن الايات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحيوة. والتنعم بعد الموت.
    ومن الآيات قوله تعالى : « حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون » المؤمنون ـ 100 ، والاية ظاهرة الدلالة على أن هناك حيوة متوسطة بين حيوتهم الدنيوية وحيوتهم بعد البعث : وسيجئ تمام الكلام في الاية إنشاء الله تعالى.
    ومن الايات قوله تعالى : « وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة » « ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر » « لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا. وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ويوم تشقق السماء الغمام


(350)
( وهو يوم القيمة ) ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا » الفرقان ـ 26 ، ودلالتها ظاهرة. وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إنشاء الله تعالى.
    ومن الآيات قوله تعالى : « قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل » المؤمن ـ 11 ، فهنا إلى يوم البعث ـ وهو يوم قولهم هذا ـ إماتتان وإحيائان ، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ ، فيكون إماتة وأحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيمة ، ولو كان أحد الاحيائين في الدنيا والاخر في الاخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية ، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى : « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم » البقره ـ 28 ، فارجع.
    ومن الايات قوله تعالى : « وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب » المؤمن ـ 46 ، إذ من المعلوم أن يوم القيمة لا بكرة فيه ولا عشى فهو يوم غير اليوم.
     والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية ، أو تؤمي إليها كثيرة ، كقوله تعالى : « تالله لقد أرسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم » النحل ـ 63 ، إلى غير ذلك.

    ويتبين بالتدبر في الآية ، وسائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك ، وهي تجرد النفس ، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية ، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والارادة وسائر الصفات الادراكية ، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الانسان بشخصه ليس بالبدن ، لا يموت يموت البدن ، ولا يفنى بفنائه ، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه ، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنئ دائم ، ونعيم مقيم ، أو في شقاء لازم ، وعذاب أليم ، وأن سعادته في هذه العيشة ، وشقائه فيها مرتبطة بسنخ ملكاتة وأعماله ، لا بالجهات الجسمانية والاحكام الاجتماعية.


(351)
    فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة ، وواضح أنها أحكام تغاير الاحكام الجسمانية ، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها ، فالنفس الانسانية غير البدن.
    ومما يدل عليه من الايات قوله تعالى : « الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى » الزمر ـ 42 ، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله ، وما تشتمل عليه الاية : من الاخذ والامساك والارسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن.
    ومن الآيات قوله تعالى : « وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون » السجدة ـ 11 ، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد ، وهو انا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا ، وتبدد أجزاؤنا ، وتتبدل صورنا فنضل في الارض ، ويفقدنا حواس المدركين ، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض ، وقد لقن تعالى على رسوله الجواب عنه ، بقوله : قل : يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم الاية ، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفيكم ويأخذكم ، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته ، وما تضل في الارض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ ، كم ، فإنه يتوفيكم.
    ومن الآيات قوله تعالى : « ونفخ فيه من روحه الاية » السجدة ـ 9 ، ذكره في خلق الانسان ثم قال تعالى : « يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى » الاسراء ـ 85 ، فأفاد أن الروح من سنخ أمره ، ثم عرف الامر في قوله تعالى : « إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ » يس ـ 83 ، فأفاد أن الروح من الملكوت ، وأنها كلمة ، كن ، ثم عرف الامر بتوصيفه بوصف آخر بقوله : « وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر » القمر ـ 50 ، والتعبير بقوله : كلمح بالبصر يعطي أن الامر الذي هو كلمة ، كن ، موجود دفعي الوجود غير تدريجية ، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان ، ومن هنا يتبين أن الامر ـ ومنه الروح شئ غير جسماني ولا مادي ، فإن الموجودات المادية الجسمانية من


(352)
أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود ، مقيدة بالزمان والمكان ، فالروح التي للانسان ليست بمادية جسمانية ، وإن كان لها تعلق بها.
    وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق ، فقد قال تعالى : « منها خلقناكم » طه ـ 55 ، وقال تعالى : « خلق الانسان من صلصال كالفخار » الرحمن ـ 14 ، وقال تعالى « وبدا خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين » السجدة ـ 8 ، ثم قال : سبحانه وتعالى « ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين » المؤمنون ـ 14 ، فأفاد أن الانسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة ، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة ، يفعل أفعالا : من الشعور والاردة والفكر والتصرف في الاكوان ، والتدبير في امور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الاجسام والجسمانيات ، فلا هي جسمانية ، ولا موضوعها الفاعل لها.
    فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها ـ وهو البدن الذي تنشأ منه النفس ـ بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد ، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا ، ثم بالموت تنقطع العلقة ، وتبطل المسكة ، فهي في أول وجودها عين البدن ، ثم تمتاز بالانشاء منه ، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الايات الشريفة المذكورة بظهورها : وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالايماء والتلويح ، يعثر عليها المتدبر البصير ، والله الهادي.
    قوله تعالى : ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات ، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلوة ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب ، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الامر في الحيوة الشريفة والدين الحنيف إلا به ، وهو الحرب والقتال ، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين ، وهما الصبر والظفر ، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية


(353)
القصوى من كمالهم ، واشتد بأسهم وطابت نفسهم ، وهو الايمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد ، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل ، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحيوة ، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم ـ وإن قتلهم عدوهم فهم على الحيوة ـ ولم يتحكم الجور والباطل عليهم ، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.
    وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الاموال والانفس فذكرها الله تعالى ، وأما الثمرات فالظاهر أنها الاولاد فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت لرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الاشجار ، وربما قيل : إن المراد ثمرات النخيل ، وهي التمر والمراد بالاموال غيرها وهي الدواب من الابل والغنم.
    قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون ، اعاد ذكر الصابرين ليبشرهم اولا ، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا ، ويظهر به حق الامر الذي يقضي بوجوب الصبر وهو ملكه تعالى للانسان ـ ثالثا ، ويبين جزائه العام ـ وهو الصلوة والرحمة والاهتداء ـ رابعا
     فأمر تعالى نبيه اولا بتبشيرهم ، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم امره فانها من الله سبحانه فلا تكون الا خيرا وجميلا ، وقد ضمنها رب العزة ، ثم بين ان الصابرين هم الذين يقولون : كذا وكذا عند إصابة المصيبة وهي الواقعة التي تصيب الانسان ، ولا يستعمل لفظ المصيبة الا في النازلة المكروهة ، ومن المعلوم ان ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال ، ولا مجرد الاخطار من غير تحقق بحقيقة معناها ، وهي أن الانسان مملوك لله بحقيقة الملك ، وان مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والاسف ، ويغسل رين الغفلة.
    بيانه أن وجود الانسان وجميع ما يتبع وجودة ، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه ، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للانسان من


(354)
الامر شئ إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة.
    ثم إنه تعالى ملكه بالاذن نسبة ذاته ، ومن هناك يقال : للانسان وجود ، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال : للانسان قوى كالسمع والبصر ، ويقال : للانسان أفعال كالمشى والنطق ، والاكل والشرب ، ولو لا الاذن الالهي لم يملك الانسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة ، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.
    وقد أخبر سبحانه : أن الاشياء سيعود إلى حالها قبل الاذن ولا يبقي ملك إلا لله وحده ، قال تعالى : « لمن الملك اليوم. لله الواحد القهار » المؤمن ـ 16 ، وفيه رجوع الانسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه.
    فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه ، لا الانسان ولا غيره ، وملك ظاهري صوري كملك الانسان نفسه وولده وماله وغير ذلك ، وهو لله سبحانه حقيقة ، وللانسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا ، فإذا تذكر الانسان حقيقة ملكه تعالى ، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه ، وتذكر أيضا ان الملك الظاهري فيما بين الانسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالاخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا ، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الانسان شيئا مما يملكه ، حتى يفرح بوجدانه ، ويحزن بفقدانه ، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن ، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء ؟

    إعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل ، واكتساب الاخلاق الفاضلة ، وإزالة الاخلاق الرذيلة انما هو بتكرار الاعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها ، والمداومة عليها ، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية ، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها ، مثلا إذا أراد الانسان


(355)
إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الاحشاء ، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الاقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة ، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.
    إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الاخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين :
    المسلك الاول : تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية ، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال : إن العفة وقناعة الانسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة ، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر ، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة ، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والانس عند الخاصة ، وإن العلم بصر يتقى به الانسان كل مكروه ، ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى ، وإن العلم يحفظك وانت تحفظ المال ، وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الانسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور ، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية ، وهي الحيوة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب.
    وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الاخلاق ، والمأثور من بحث الاقدمين من يونان وغيرهم فيه.
    لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بنائه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم ، والاخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه ، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى : « وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة » البقرة ـ 150 ، دعا سبحانه إلى العزم والثبات ، وعلله بقوله : لئلا يكون ، وكقوله تعالى « ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا » الانفال ـ 46 ، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرئة العدو ، وقوله تعالى « ولمن


(356)
صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور » الشورى ـ 43 ، دعا إلى الصبر العفو ، وعلله بالعزم و الاعظام.
    المسلك الثاني : الغايات الاخروية ، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة » التوبة ـ 111 ، وقوله تعالى : « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » الزمر ـ 10 ، وقوله تعالى : « إن الظالمين لهم عذاب أليم » إبراهيم ـ 22 ، وقوله تعالى : « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات » البقرة ـ 257 ، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.
    ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى : « ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير » فإن الآية دعت إلى ترك الاسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطاكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضى وقدر مقدر ، فالاسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الامور كما يشير إليه قوله تعالى : « ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه » فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالغايات الشريفة الاخروية ، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.
    فان قلت : التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية وفي ذلك بطلان الاخلاق الفاضلة واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية ، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والاسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق ، وكسب كل كمال مطلوب ، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك ، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق ، والدفاع عن الحق ، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب ، وكذا يجوز أن نترك السعي


(357)
في كسب كل كمال ، وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب ، وفي ذلك بطلان كل كمال.
    قلت : قد ذكرنا في البحث عن القضاء ، ما يتضح به الجواب عن هذا الاشكال ، فقد ذكرنا ثم أن الافعال الانسانية من أجزاء علل الحوادث ، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها ، فقول القائل : إن الشبع إما مقضي الوجود ، وإما مقضي العدم ، وعلى كل حال فلا تأثير للاكل غلط فاحش ، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الاكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله ، فمن الخطآ أن يفرض الانسان معلولا من المعاليل ، ثم يحكم بإلغاء علله أو شئ من أجزاء علله.
    فغير جايز أن يبطل الانسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حيوته الدنيوية وإليه تنتسب سعادته وشقائة ، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الاحوال والملكات الحاصلة من إفعاله ، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل ، وإبطال حكمه في التأثير ، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا ، وعلة تامة إليه تستند الحواد ، من غير أن يشاركه شئ آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الارادة الالهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل ، والفرح والاسى ، والغم ونحو ذلك.
    يقول الجاهل : أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله ـ وهو جاهل بأن بقية الاسباب الخارجة عن اختياره الناقص ، وهي ألوف والوف لو لم يمهد له الامر لم يسد اختياره شيئا ، ولا أغني عن شئ ـ يقول الجاهل : لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا ، أو لما فات عني كذا ، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه ـ أعني الربح أو العافية ، أو الحيوة ـ إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها ـ أعني في تحقق الفوات أو الموت ـ انعدام واحد منها ، وإن كان اختياره موجودا ، على أن نفس اختيار الانسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الانسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.


(358)
    فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الالهي كما مر ، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الاخلاق دون بعض.
    فما كان من الافعال أو الاحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه ، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى : « وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون » الاعراف ـ 28.
    وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الانسان في التأثير ، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير ، ومستغنيا عن غيره ، فإنه يثبت إستناده إلى القضاء ويهدي الانسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه ، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الانسان بما وجده جهلا ، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى : « وآتوهم من مال الله الذي آتاكم » النور ـ 33 ، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى ، وكما في قوله تعالى : « ومما رزقناهم ينفقون » البقرة ـ 3 ، فإنه يندب إلى الانفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى ، وكما في قوله تعالى : « فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا » الكهف ـ 7 ، نهى رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الارض من شئ أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.
    وهذا المسلك أعنى الطريقة الثانية في إصلاح الاخلاق طريقة الانبياء ، ومنه شئ كثير في القرآن ، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.
    وهيهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ مما نقل إلينا من الكتب السماوية ، وتعاليم الانبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين ، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الالهيين ، وهو تربية الانسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل ، وبعبارة أخرى إزالة الاوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.


(359)
    وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها ، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها ، لكن الله سبحانه يقول : « إن العزة لله جميعا » يونس ـ 65 ، ويقول : « أن القوة لله جميعا » البقرة ـ 165 ، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء ، ولا سمعة ، ولا خوف من غير الله ، ولا رجاء لغيره ، ولا ركون إلى غيره ، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للانسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الانسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الالهية من التقوى بالله ، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية.
    وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى : أن الملك لله ، وأن له ملك السموات والارض وأن له ما في السموات والارض وقد مر بيانه مرارا ، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشئ من الموجودات استقلالا دونه ، واستغناء عنه بوجه من الوجوه ، فلا شئ إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته ، وإيمان الانسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الاشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال ، فهذا الانسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى ، ولا أن يخضع لشئ ، أو يخاف أو يرجو شيئا ، أو يلتذ أو يبتهج بشئ ، أو يركن إلى شئ أو يتوكل على شئ أو يسلم لشئ أو يفوض إلى شئ ، غير وجهه تعالى ، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا الا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شئ ، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.
    وكذلك قوله تعالى : « الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى » طه ـ 8 ، وقوله : « ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ » الانعام ـ 102 ، وقوله : « الذي أحسن كل شئ خلقه » السجدة ـ 7 ، وقوله : « وعنت الوجوه للحي القيوم » طه ـ 111 ، وقوله : « كل له قانتون » البقرة ـ 116 ، وقوله : « وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه » الاسراء ـ 23 ، وقوله : « أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد » فصلت ـ 53 ، وقوله : « إلا إنه بكل شئ محيط » فصلت ـ 54 ، وقوله : « وان إلى ربك المنتهى » النجم ـ 42.
    ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى : « وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون » إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها


(360)
مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه ، ولا نوع التربية التي سنها الانبياء في شرائعهم ، فإن المسلك الاول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها ، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الاسلام على مشرعه وآله أفضل الصلوة هذا.
    فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الاسلام وحاصله : أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤن المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الاسلامية بين الناس من متبعيها ، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية ، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الاسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات ، ويدعو إليها جميع الانبياء هذا.
    وأنت بالاحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره ، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها ، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي ، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال ، وهذا حال هذا المسلك الثالث ، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي ، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الانسان في حيوتة لآخرة ، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله ، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له ، وينتج العبودية المحضة ، وكم بين المسالك من فرق !
    وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الانساني جما غفيرا من العباد الصالحين ، والعلماء الربانيين ، والاولياء المقربين رجالا ونساء ، وكفى بذلك شرفا للدين.
    على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج ، فإن بنائه على الحب العبودي ، وايثار جانب الرب على جانب العبد ، ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الانسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس