الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 436 ـ 441
(436)
بين حقين حق المجتمع وحق أولياء الدم ، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.
    وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة ، وهي قوله تعالى : « من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا » المائدة ـ 32.
    بيان ذلك : أن القوانين الجارية بين أفراد الانسان وإن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الانساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الانسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية ، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الانسان ولا الهيئة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الانساني بل هي الانسان وطبيعته ، وليس بين الواحد من الانسان والالوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود.
    وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود ، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والاعدام ، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به ، وهذه الامم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم ، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها ، ويدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها ، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم ، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنايع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع والافناء والابادة لحفظ صنيعة من صنائعها ، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها لحفظ حيوة نفسها ؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل ؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقايع التاريخية ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال


(437)
ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما وتنقض حكم نفسها.
    على أن الاسلام لا يرى في الدنيا قيمة للانسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الانساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان ، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا ، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية ، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها ـ فضلا عن التفوق ـ الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.
    على أن الاسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وامة معينة ، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الاحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الامة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل ، والاسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.
    ويلوح إليه قوله تعالى : في آية القصاص فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ، فاللسان لسان التربية وإذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
    وأما غير هؤلاء الامم فالامر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا بصدهم وعظ ونصح ، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني ، والحيوة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم ، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب ، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الاحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين ـ والاغلب منهما الثاني ـ لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الامة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو ( وإلاسلام لا يألو جهده في التربية ) ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها


(438)
وفسقت ، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو.
    وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالانسانية فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة ، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي والعاصي المتخلف المتمرد والمتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الافراد ، وفي استعمالها المطلق إختلال النظام وهلاك الانسانية وإبطال الفضيلة.
    وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقة ، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل والحق ليس بمذموم قبيح ، ولا حب العدل من رذائل الصفات ، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد.
    وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الامراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الاعذار ( ونعم العذر ) الموجبة لشيوع القتل والفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الانسانية وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة والتنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.
    وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الاعمال الاجبارية ، ونحوها مع حبسهم ومنعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الاعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الامم ؟ وليس ذلك إلا للاهمية التي يرونها للاعدام في موارده ، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الاهمية متساويان.
    كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ـ 180. فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ـ 181.


(439)
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ـ 182.
( بيان )
    قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ، لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع واللزوم ويؤيده ما في آخر الآية من قوله حقا ، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم لكن تقييد الحق بقوله على المتقين ، مما يوهن الدلالة على الوجوب والعزيمة فإن الانسب بالوجوب أن يقال : حقا على المؤمنين ، وكيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الارث ، ولو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية ، ولعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لافادة هذا الغرض.
    والمراد بالخير المال ، وكأنه المال المعتد به ، دون اليسير الذي لا يعبأ به والمراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة والاحسان.
    قوله تعالى : فمن بدله بعد ما سمعه فانما إثمه على الذين يبدلونه ، ضمير إثمه راجع إلى التبديل ، والباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف ، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان وإنما قال على الذين يبدلونه ، ولم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الاثم وهو تبديل الوصية بالمعروف وليستقيم تفريع الآية التالية عليه.
    قوله تعالى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، الجنف هو الميل و الانحراف ، وقيل : هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل ، والمراد على أي حال الميل إلى الاثم بقرينة الاثم ، والآية تفريع على الآية السابقة عليها ، والمعنى ( والله أعلم ) فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف ، ويتفرع عليه : ان من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالاثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لانه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.


(440)
( بحث روائي )
    وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي ـ واللفظ للاخير ـ عن محمد بن مسلم عن الصادق ( عليه السلام ) : سئلته عن الوصية تجوز للوارث ؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عن علي ( عليه السلام ) قال : من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.
    وفي تفسير العياشي أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) : في الآية قال : حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الامر ، قال قلت : لذلك حد محدود ، قال : نعم ، قلت : كم ؟ قال : أدناه السدس وأكثره الثلث.
    اقول : وروي هذا المعنى الصدوق أيضا في الفقيه عنه ( عليه السلام ) وهو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى : « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا » الاحزاب ـ 6 ، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالاخوة الذي كان في صدر الاسلام فقد نفت التوارث بالاخوة وأثبتته للقرابة ثم استثنى ما فعل من معروف في حق الاولياء ، وقد عدت النبي وليا والطاهرين من ذريته أولياء لهم ، وهذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى : « إن ترك خيرا الوصية » الآية ـ وهم قربى ـ فافهم.
    وفي تفسير العياشي عن أحدهما ( عليهما السلام ) : في قوله تعالى « كتب عليكم إذا حضر » الآية ، قال ( عليه السلام ) هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث.
    اقول : مقتضى الجمع بين الروايات السابقة وبين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية. هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله.
    وفي المجمع عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : في قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما الاية ، قال الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز.
    وفي تفسير القمي قال الصادق ( عليه السلام ) : إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي


(441)
أن يغير وصية يوصيها بل يمضيعا على ما أوصى إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم ، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق وهو قوله جنفا أو إثما ، والجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض والاثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشئ من ذلك.
    أقول : وبما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى فأصلح بينهم فالمراد الاصلاح بين االورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي.
    وفي الكافي عن محمد بن سوقة قال : سئلت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله عزوجل : فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، قال نسختها التي بعدها قوله : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، قال : يعني الموصي إليه أن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضي الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق وإلى ما يرضى الله به من سبيل الحق.
    أقول : هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح وقد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الاصوليون.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس