|
|||
الميزان
في تفسير القران كتاب علمي فني ، فلسفي ، أدبي
تاريخي ، روائي ، اجتماعي ، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره
المجلد الثاني
منشورات (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم لعلكم تتقون ـ 183.
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه
فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ـ
184. شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر
فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد
بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون ـ 185.
( بيان )
سياق الايات الثلاث يدل أولا على انها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى :
أياما معدودات ، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله : الصيام في لآية الاولى ،
وقوله تعالى : شهر رمضان ، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدا محذوف وهو الضمير الراجع
إلى قوله أياما معدودات ، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف ، والتقدير شهر
رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله :
(5)
« كتب
عليكم الصيام » ، في الآية الاولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات التي
كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم
شهر رمضان.
وسياق الايات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر ، أعني : أن الآيتين الاوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب ، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف والتأبي عن القبول ، لكون ما يأي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب ، ولذلك ترى الآيتين الاوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة ، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب ، ويحصل به تطيب النفس ، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار ، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل ، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والأجل. ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام » أردفه بقوله : « كما كتب على الذين من قبلكم » أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الامم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه ، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر ، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى : لعلكم تتقون ، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة ، وهو قوله تعالى : أياما معدودات ، فإن في تنكير ، أياما ، دلالة على التحقير ، وفي التوصيف بالعدل إشهار بهوان الأمر كما في قوله تعالى : « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » يوسف ـ 30 ، على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام ، فعليه أن يبدلة من فدية لا تشقه ولا يستثقلها ، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر (6)
إلى
قوله ، فدية طعام مسكين اه. وإذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم ومراعي فيه ما أمكن
من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل
وتثبط ، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من ان يأتي به عن كره وهو قوله تعالى : فمن تطوع
خيرا فهو خير له الخ ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى
في الآية الثالثة : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ ، وعلي هذا فقوله تعالى في الآية
الاولى : « كتب عليكم الصيام » ، إخبار عن تحقق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله
تعالى : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية » البقرة ـ 178 ، وقوله
تعالى : « كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين »
البقرة ـ 180 ، فإن بين القصاص في القتلي والوصية للوالدين والأقربين وبين الصيام
فرقا ، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء
المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع ان ترى
القاتل حيا سالما يعيش ولا يعبا بما جنى من القتل ، وكذلك حس الشفقة والرأفة بالرحم
يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين ، وخاصة عند الموت والفراق الدائم ،
فهذان أعني القصاص ، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع ، موافقان لما تقتضيها
فلا يحتاج الانباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام ،
فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الاكل والشرب
والجماع ، ولذلك فهو ثقيل على الطبع ، كريه عند النفس ، يحتاج في توجيه حكمه إلى
المخاطبين ، وهم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحن
بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم ، ولهذا السبب كان قوله : كتب عليكم القصاص اه ، وقوله :
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ، إنشاء للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدمة بخلاف
قوله : كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله : فمن شهد منكم ،
بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.
قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا » اه ، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الايمان ، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم ، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت (7)
أن
النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون
القصاص.
قوله تعالى : « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » اه ، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله : « كتب الله لأغلبن أنا ورسلي » المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : « ونكتب ما قدموا وآثارهم » يس ـ 12 ، وقوله تعالى : « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » المائدة ـ 45 ، والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل : كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك ، وربما يقال : انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن امور مخصوصة ، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية ، والمراد بالذين من قبلكم الامم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من امم الانبياء كامه موسى وعيسى وغيرهم ، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اطلقت ، وليس قوله : « كما كتب على الذين من قبلكم » ، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع امم الانبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف ، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث اصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته. والمراد بالذين من قبلكم ، الامم السابقة من المليين في الجملة ، ولم يعين القرآن من هم ، غير أن ظاهر قوله : كما كتب ، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك ، ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه ، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره ، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة : كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب ، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام. بل الصوم عبادة مأثوره عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين ، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم ، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي (8)
إليه الانسان بفطرته كما سيجئ.
وربما يقال : إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الانبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف. قوله تعالى : « لعلكم تتقون » ، كان أهل الاوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نإئرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية ، وأذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد ، وإن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذي ، وبالجملة هو سبحانه برئ من كل نقص ، فما تعطيه العبادات من الاثر الجميل ، أي عبادة كانت وأي أثر كان ، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى وتقدس ، كما ان المعاصي أيضا كذلك ، قال تعالى : « ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها » الإسراء ـ 7 ، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي الى الانسان الذي لا شأن له إلا الفقر والحاجة ، قال تعالى : « يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني : » الفاطر ـ 15 ، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله : لعلكم تتقون ، وكون التقوي مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة ، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الاخلاد إلى الارض ، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات ، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها ، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه ، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع. قوله تعالى : أياما معدودات ، منصوب على الظرفية بتقدير ، في ومتعلق (9)
بقوله الصيام ، وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من
حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف ، وقد مر ان قوله : « شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن »
« الخ » بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان.
وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد بالايام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء ، وقال بعضهم : والثلاث الايام هي الايام البيض من كل شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها ، ثم نزل قوله تعالى : « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » الخ ، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان ، واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض. والذي يظهر به بطلان هذا القول أولا : ان الصيام كما قيل : عبادة عامة شاملة ، ولو كان الامر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد وليس كذلك ، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الإعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا وشرعوا صومه تبركا به ووضعوا له فضائل وبركات ، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى ، وكل ذلك لم يكن ، وليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس ، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفرحتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث ويوم مولد النبي ، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر وعيد الاضحى فما باله عزيزا بلا سبب؟. وثانيا : ان الآية الثالثة من الآيات اعني قوله : شهر رمضان الخ ، تأبى بسياقها ان تكون نازلة وحدها وناسخا لما قبلها فان ظاهر السياق ان قوله شهر رمضان خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدء لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للايام المعدودات (10)
ويكون جميع الآيات الثلث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان ، وأما
جعل قوله : شهر رمضان مبتدئا خبره قوله : الذى انزل فيه القرآن فانه وان اوجب استقلال
الآيه وصلاحيتها لان تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لان تكون ناسخة لما قبلها
لعدم المنافات بينها وبين سابقتها ، مع ان النسخ مشروط بالتنافى والتباين.
وأضعف من هذا القول قول آخرين ـ على ما يظهر منهم ـ : ان الآية الثانية اعني قوله تعالى : اياما معدودات إلخ ، ناسخة للآية الاولى اعني قوله تعالى : « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » إلخ ، وذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى ( عليه السلام ) حتى استقر على خمسين يوما ، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الاولى فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والناس يصومونها في صدر الاسلام حتى نزل قوله تعالى : أياما معدودات إلخ ، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره. وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلانا ، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الاشكال ، وكون الآية الثانية من متممات الآية الاولى اظهر واجلي ، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية. قوله تعالى : « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من إيام أخر » ، الفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله : كتب عليكم ، وقوله : معدودات اه ، أي إن الصيام مكتوب مفروض ، والعدد مأخوذ في الفرض ، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد ، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الايام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر ، فإنه لا يرفع اليد عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا ، وهذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله : ولتكملوا العدة ، فقوله تعالى : أياما معدودات ، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض والحكم. ثم إن المرض خلاف الصحة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر (11)
ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها ويكن فيها ، وكأن قوله تعالى : أو على سفر ، ولم
يقل : مسافرا للاشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي والمستقبل.
وقد قال قوم ـ وهم المعظم من علماء أهل ا لسنة والجماعة ـ إن المدلول عليه بقوله تعالى : فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والافطار ، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى : فعدة من ايام أخر هو عزيمة الافطار دون الرخصة ، وهو المروي عن أئمة اهل البيت ، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير ، فهم محجوجون ، بقوله تعالى : فعدة من أيام أخر. وقد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا : ان التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام اخر. ويرد عليه أولا : أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه. وثانيا : أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع ، وقولنا : فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الافطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الاعم من الوجوب والاستحباب والاباحة ، وأما كونه جائزا بمعنى عدم كونه الزاميا فلا دليل عليه من الكلام ألبتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر. قوله تعالى : « وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين » ، الا طاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل ، ولازمه وقوع العل بجهد ومشقة ، والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الانسان ، وحكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله : وعلى الذين ، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير. (12)
وقد
ذكر بعضهم : ان الجملة تفيد الرخصة ثم نسخت فهو سبحانه وتعالى خير المطيقين للصوم من
الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفروا
عن كل يوم بطعام مسكين ، لان الناس كانوا يومئذ غير متعودين بالصوم ثم نسخ ذلك
بقوله : فمن شهد منكم الشهر ، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء : أنه نسخ حكم غير العاجزين ،
واما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله ، من جواز الفديه.
ولعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن وجعله لآياته عضين ، وأنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان ، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق ، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا ، وينقض آخره أوله فتاره يقول كتب عليكم الصيام واخرى يقول يجوز على القادرين منكم الافطار والفدية ، واخرى يقول : يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر ، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة ، ولم يكن في الآية حكم غيرالقادرين ، اللهم إلا أن يقال : إن قوله : يطيقون ، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة ، وبالجملة يجب على هذا ان يكون قوله : وعلى الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخا لقوله : كتب عليكم الصيام ، في أولها لمكان التنافي ، ويبقى الكلا وجهه تقييده بالاطاقة من غير سبب ظاهر ، ثم قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله : وعلى الذين يطيقونه في وسطها ، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين ، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر والعاجز جميعا ، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاءه وهذا من أفحش الفساد. وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله : شهر رمضان إلخ لقوله : أياما معدودات الخ ، ونسخ قوله : اياما معدودات الخ ، لقوله كتب عليكم الصيام ، وتأملت معنى الآيات شاهدت عجبا. قوله تعالى : « فمن تطوع خيرا فهو خير له » ، التطوع تفعل من الطوع مقابل (13)
الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة ، ومعنى باب التفعل الاخذ والقبول فمعنى
التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلا
إلزاميا أو غير إلزامي ، وإما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات والمندوبات فمما
حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية ان الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب
واما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام الذي فيه.
وبالجملة التطوع كما قيل : لا دلاله فيه مادة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق ، والمعنى والله أعلم : الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الامم التي قبلكم ، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعا لاكرها ، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من ان يأتي به كرها. ومن هنا يظهر : ان قوله : فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى : « قد نعلم أنك ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » اي فاصبر ولا تحزن فانهم لا يكذبونك. وربما يقال : ان الجملة اعني قوله تعالى : فمن تطوع خيرا فهو خير له ، مرتبطة بالجملة التي تتلوها اعني قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، والمعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له. ويرد عليه : عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع ، فأنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول ، مع ان قوله : فمن تطوع خيرا ، لا دلاله له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة. قوله تعالى : « وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون » ، جملة متممة لسابقتها (14)
والمعنى بحسب التقدير ـ كما مر ـ تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير
خير والصوم خير لكم ، فالتطوع به خير على خير.
وربما يقال : ان الجملة اعني قوله : وأن تصوموا خير لكم ، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب ، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الافطار والقضاء. ويرد عليه : عدم الدليل عليه أو لا ، واختلاف الجملتين اعني قوله : فمن كان منكم الخ ، وقوله : وأن تصوموا خير لكم ، بالغيبة والخطاب ثانيا ، وأن الجملة الاولى مسوقه لبيان الترخيص والتخيير ، بل ظاهر قوله : فعدة من أيام أخر ، تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا ، وأن الجملة الاولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والافطار حتى يكون قوله : وأن تصوموا خير لكم بيانا لاحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله : وأن تصوموا خير لكم ، من غير قرينة ظاهرة رابعا ، وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام ـ كما مر سابقا ـ مقام ملاك التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله : « فتوبوا إلى بارئكم واقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم » البقرة ـ 54 ، وقوله تعالى : « فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون » الجمعة ـ 9 ، وقوله تعالى « تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون » الصف ـ 11 ، والآيات في ذلك كثيرة خامسا : قوله تعالى : « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى » ، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن الا شهر رمضان. (15)
والنزول هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الانزال والتنزيل أن الانزال
دفعي والتنزيل تدريجي ، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى « انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون » : الزخرف
ـ 3 ، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى ابعاضه.
والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال تعالى : « وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على ، مكث ونزلناه تنزيلا ، » : الاسراء ـ 106 ، وهو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريبا ، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك ، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الايتين. وربما أجيب عنه : بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نجوما وعلى مكث في مدة ثلث وعشرين سنة ـ مجموع مدة الدعوة ـ وهذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات. وقد أورد عليه : بأن تعقيب قوله تعالى : أنزل فيه القرآن بقوله : هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين. وأجيب : بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال وفارقا أذا التبس حق بباطل لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية من غير فعليه التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه ، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل. والحق ان حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم ان تتقدم على مقام التخاطب ولو زمانا يسيرا ، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى : « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما » المجادلة ـ 1 ، وقوله تعالى : « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما » الجمعة ـ 11 ، وقوله تعالى : « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » الاحزاب ـ 23 ، على أن في القرآن ناسخا |
|||
|