الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 16 ـ 30
(16)
ومنسوخا ، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.
    وربما أجيب عن إلاشكال : إن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه ، ويرد عليه : أن المشهور عندهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما بعث بالقرآن ، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان اكثر من ثلثين يوما وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن ، على أن أول سورة اقرإ باسم ربك ، يشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة ، وكذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، على أن قوله تعالى : أنزل فيه القرآن ، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : « والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين » الدخان ـ 3 ، وقوله : « إنا أنزلناه في ليلة القدر » : القدر ـ 1 ، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك.
    والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى : « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » : البقرة ـ 185 وقوله تعالى : « حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة » : الدخان ـ 3 ، و قوله تعالى : « إنا أنزلناه في ليلة القدر » : القدر ـ 1 ، واعتبار الدفعة أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى : « كماء انزلناه من السماء » يونس ـ 24 ، فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هيهنا معطوف إلى اخذه مجموعا واحدا ، ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل ، وكقوله تعالى : « كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته » ص ـ 29 ، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل. وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى : « كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير »


(17)
هود ـ 1 ، فإن هذا الاحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه ، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكما غير مفصل.
    وأوضح منه قوله تعالى : « ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، هل ينظرون إلا تأويله يوم يإتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق » الاعراف ـ 53 ، وقوله تعالى : « وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ـ إلى أن قال : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله » يونس ـ 39 فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر ، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه ، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعاربأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
    وأوضح منه قوله تعالى : « حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم » الزخرف ـ 4. فإنه ظاهر في إن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا ، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه ـ وهو في أم الكتاب ـ عند الله ، علي لا يصعد إليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى : « فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين » الواقعة ـ 80 ، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وإن التنزيل بعده ، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الاغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف ، بام


(18)
الكتاب وفي سورة البروج ، باللوح المحفوظ ، حيث قال تعالى : « بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ » البروج ـ 22 ، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه ، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل ، فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل ، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك.
    ثم إن هذا المعنى اعني : كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين ـ ونحن نسميه بحقيقة الكتاب ـ بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى : « بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ » ، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، وقوله : إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، وقوله : « إنا أنزلناه في ليلة القدر » ، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.
    وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى : « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه » طه ـ 114 ، وقوله تعالى : « لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه » القيامة ـ 19 ، فإن الآيات ظاهره في إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي ، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به ـ إنشاء الله تعالى ـ.
    وبالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها : على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدى الافكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة ، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه ، وسيجئ بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى : « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات »


(19)
آل عمران ـ 7. فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات ، نعم أرباب الحديث ، والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا اصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا ، وفي لوح محفوظ ، ونازلا من عند الله ، وفي صحف مطهره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.
    ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان :
    قال ما محصله : إنه لا ريب أن بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن وأمره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالتبليغ والانذار ، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى : « إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين » الدخان ـ 2 ، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى : « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » البقرة ـ 185.
    وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها ، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح ان يقال : أنزلناه في ليلة ( على ان القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والانجيل والزبور باصطلاح القرآن )
    قال : وذلك : أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى : « إقرأ بإسم ربك » إلخ ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان ، نزل والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه : قوله تعالى : إقرأ باسم ربك الذي خلق الخ ، ولما تلقى الوحى خطر بباله أن يسإله : كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد ، ثم علمه كيفية الصلوة ثم غاب عن نظره فصحا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس ، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى :


(20)
« يا أيها المدثر قم فأنذر الآيات » المدثر ـ 2.
    قال : فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر : وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الاخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.
    قال : وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الاخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان : أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله ، وهذه أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب ، وثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الانسان فيه ، انتهى ملخصا.
    ولست أدرى أي جملة من جمل كلامه ـ على فساده بتمام اجزائه ـ تقبل الاصلاح حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق.
    ففيه أولا أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة ونزول القرآن أول ما نزل وأنه صلى عليه وآله وسلم نزل عليه : إقرأ بأسم ربك ، وهو في الطريق ، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلوة ، ثم دخل البيت ونام تعبانا ، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنة قائمة ، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ.
    وثانيا : أنه ذكر ان من المسلم أن البعثة ونزول القرآن والامر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر ، ولا يسعه ، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنة ، وليس من المسلم ذلك. أما السنة فلان لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرنين فصاعدا فهذا في السنة ،


(21)
والتاريخ ـ على خلوه من هذه التفاصيل ـ حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا.
    وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك ـ وهي أول سورة نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ما ذكره أهل النقل ، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقل من احتمال نزولها دفعة ـ مشتملة على أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يصلي بمرئى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلوة ويذكر امره في نادي القوم ( ولا ندري كيف كانت هذه الصلوة التي كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتقرب بها إلى ربه في بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة ) قال تعالى فيها : « أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية » العلق ـ 18 ، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهي مصليا عن الصلوة ، ويذكر أمره في النادي ، ولا ينتهي عن فعاله ، وقد كان هذا المصلي هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدليل قوله تعالى بعد ذلك : « كلا لا تطعه » العلق ـ 19.
    فقد دلت السورة على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن ، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى ، وهذا ه والنبوة ولم يسم امره ذلك انذارا ، فكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيا وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولما يؤمر بالتبليغ.
    وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان ، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال : قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلخ ، أويقال : بسم الله الرحمن الرحيم قل : الحمد لله رب العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى : مالك يوم الدين ، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الاليق ببلاغة القرآن الشريف.
    نعم وقع في سورة الحجر ـ وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها ،


(22)
وسيجئ بيانه ـ قوله تعالى : « ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم » الحجر ـ 87. والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن وجزئا منه بدليل قولة تعالى : « كتابا متشابها مثاني الآية » الزمر ـ 23.
    ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى : « فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الآيات » الحجر ـ 95 ، ويدل ذلك على ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد كف عن إلانذار مدة ثم أمر به ثانيا بقولة تعالى : فاصدع.
    وأما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله : « قم فأنذر » المدثر ـ 2 ، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فانذر ، حال قوله تعالى : « فاصدع بما تؤمر » الآية ، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى : « ذرني ومن خلقت وحيدا إلى آخر الايات » المدثر ـ 11 ، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر : وأعرض عن المشركين الخ ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة.
    وثالثا : أن قوله : إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله اخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها ، وان المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور كرة الارض خطأ وفرية.
    أما اولا : فلانه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الاخبار على ما عرفت.
    واما ثانيا : فلان الاخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.
    واما ثالثا : فلان قوله : إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسيرشنيع ـ وإنه اضحوكة ـ وليت شعري : ما هو الوجه المصحح ـ على قوله ـ لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول؟ فهو عالم الحركات ، سيال الذات ، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟ فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟ كما يدل


(23)
عليه : قوله تعالى : « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون » الواقعة ـ 79 ، فإدراك المدركين فيه على السواء !.
    وبعد اللتيا والتي : لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية ، فإن حاصل توجيهه : أن معنى : أنزل فيه القرآن : كأنما أنزل فيه القرآن ، ومعنى : إنا أنزلناه في ليلة : كأنا أنزلناه في ليلة ، وهذا شيء لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق !.
    ولو جاز لقائل أن يقول : نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال : إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة ، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا.
    وفي كلامه جهات اخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.
    قوله تعالى :هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، الناس ، وهم الطبقة الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح ، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم كما قال تعالى : « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » الروم ـ 30 ، وقال تعالى : « وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون » العنكبوت ـ 43 ، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الامور المعنوية بالبينة والبرهان ، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى ، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل ، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الالهية والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز ، قال تعالى : « يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم » المائدة ـ 16.
    ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى ، وهو التقابل بين العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر.


(24)
     قوله تعالى : « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » ، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته ، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به ، ويكون بالبعض كما يكون بالكل. وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الانسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الاوقات بحسب القرائن ، ولا قرينة في الآية.
    قوله تعالى : « ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر » ، ايراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.
    قوله تعالى : « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة » ، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء : وهو الافطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر ، وصيام عدة من أيام اخر لمكان وجوب اكمال العدة ، واللام في قوله : لتكملوا العدة ، للغاية ، وهو عطف على قوله : يريد ، لكونه مشتملا على معنى الغاية ، والتقدير وانما أمرناكم بالافطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة ، ولعل ايراد قوله : ولتكملوا العدة هو الموجب لا سقاط معنى قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة.
    قوله تعالى : « ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون » ، ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية (1) أنهما لبيان الغاية غاية اصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله : شهر رمضان بقوله : الذي انزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى ان التلبس بالصوم لاظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن واعلن ربوبيته وعبوديتهم ، وشكر له بما هداهم إلى الحق ، وفرق لهم بكتابه بين الحق والباطل. ولما كان الصوم انما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم وهو الاخلاص لله سبحانه في التنزه عن الواث الطبيعة والكف عن اعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على اخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير
1 ـ المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح ( منه ).

(25)
والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال : « ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون » كما قال : في اول الآيات : لعلكم تتقون.
( بحث روائي )
    في الحديث القدسي ، قال الله تعالى : الصوم لي وأنا اجزي به.
    أقول : وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير ، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي ، وغيره كالصلوة والحج وغيرهما متألف من الاثبات أو لا يخلو من الاثبات ، والفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه ، لانه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية وإثبات الانية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الاخلاد إلى الارض والتنزه بالكف عن شهوات النفس فان النفي لا 26 نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى ، وقوله أنا اجزي به ، إن كان بصيغة المعلوم كان دالا على انه لا يوسط في إعطاء الاجر بينه وبين الصائم أحدا كما أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد : ان الصدقة إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا ، قال تعالى؟ « ويأخذ الصدقات » التوبة ـ 104 ، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال : ما يفطر ، ويفطر حتى يقال ، ما يصوم ، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما وهو صوم داود ، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الايام الغر ، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة يوما خميسين بينهما اربعاء فقبض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يعمل ذلك.
    وعن عنبسة العابد ، قال : قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة ايام من كل شهر.
    أقول : والاخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الذي


(26)
كان يصومه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما عدا صوم رمضان.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام » ، قال هي للمؤمنين خاصة
    وعن جميل قال : سئلت الصادق ( عليه السلام ) عن قول الله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ».
    قال : فقال : هذه كلها يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة.
    وفي الفقيه عن حفص قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) ، يقول إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا فقلت له : فقول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، قال : إنما فرض الله شهر رمضان على الانبياء دون الامم ففضل الله هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى امته.
    اقول : والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمد في سنده ، وقد روي هذا المعنى مرسلا عن العالم ( عليه السلام ) وكأن الروايتين واحدة ، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى كما « كتب على الذين من قبلكم » ، الانبياء خاصة ولو كان كذلك ، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب ، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.
    وفي الكافي عمن سأل الصادق ( عليه السلام ) عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد؟ فقال : القرآن جملة الكتاب ، والفرقان الحكم الواجب العمل به.
    وفي الجوامع عنه ( عليه السلام ) : الفرقان كل آية محكمة في الكتاب.
    وفي تفسيري العياشي والقمى عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن ، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الانبياء.
    أقول : واللفظ يساعد على ذلك ، وفي بعض الاخبار أن رمضان اسم من اسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال : جاء رمضان وذهب ، بل شهر رمضان الحديث ، وهو واحد غريب في بابه ، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين.


(27)
     والاخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان ، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) بحيث يستبعد جدا نسبة التجريد إلى الراوي.
    وفي تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال : قلت : لابي عبد الله ( عليه السلام ) إن ابن أبي يعفور ، أمرني أن اسألك عن مسائل فقال : وما هي؟ قلت : يقول لك : إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اسافر؟ قال : إن الله يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.
    أقول : وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالاخذ بالاطلاق.
    وفي الكافي عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : فأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال : قوم يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وأما نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول : « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر ».
    أقول : ورواه العياشي أيضا.
    وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال ( عليه السلام ) : ما أبينها لمن عقلها ، قال : من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر.
    أقول : والاخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الافطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك ، وقد عرفت دلالة الآية عليه.
    وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير قال : سألته عن قول الله ، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض.
    وفي تفسيره أيضا عن الباقر ( عليه السلام ) في الآية ، قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.


(28)
    وفي تفسيره أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.
    أقول : والروايات فيه كثيرة عنهم ( عليهم السلام ) والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير ايام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة ايام اخر فإن المريض في قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا ، لا يشمله وهو ظاهر ، والعطاش مرض العطش.
    وفي تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن في الفطر تكبيرا ، قلت : ما التكبير إلا في يوم النحر ، قال : فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد.
    وفي الكافي عن سعيد النقاش قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنه مسنون ، قال : قلت : واين هو؟ قال : في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلوة الفجر وفي صلوة العيد ثم يقطع ، قال : قلت : كيف أقول ! قال : تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدة يعني الصلوة ولتكبروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول : الله اكبر. لا إله إلا الله والله اكبر. ولله الحمد ، قال : وفي رواية التكبير الآخر أربع مرات.
    أقول : اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب ، وقوله ( عليه السلام ) : يعني الصلوة لعله يريد : أن المعنى ولتكملوا العدة أي عدة أيام الصوم بصلوة العيد ولتكبروا الله مع الصلوات على ما هديكم ، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله : ولتكبروا الله على ما هديكم ، فإنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاولى منه هذا ، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الاخيرة يؤيد ما قيل : إن قوله : ولتكبروا الله على ما هديكم ، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلي.
    وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له ، جعلت


(29)
فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلثين أحق هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا ثلاثين لان الله يقول : ولتكملوا العدة فكان رسول الله ينقصه.
    اقول : قوله : فكان رسول الله في مقام الاستفهام الانكاري ، والرواية تدل على ما قدمناه : أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.
    وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله : ولتكبروا الله على ما هداكم قال : التكبير التعظيم ، والهداية الولاية.
    اقول : وقوله : والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق : ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية ، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.
    وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله ، قال : سئلته عن قول الله عز وجل : شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ، وإنما انزل في عشرين بين أوله وآخره فقال إبو عبد الله : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة ، ثم قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نزلت صحف ابراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وانزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.
    اقول : ما رواه ( عليه السلام ) عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن وائلة بن الاسقع عن النبي.
    وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة؟ فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.
    وفي الدر المنثور عن ابن عباس. قال : شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد


(30)
( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد ذلك في الامر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا.
    اقول : وروي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى : « والذكر الحكيم» آل عمران ـ 58 ، وفي قوله تعالى : « وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع » الطور ـ 5 ، وقوله تعالى : « فلا أقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون» الواقعة ـ 79 ، وقوله تعالى : « وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا حم » السجدة ـ 12 ، وجميع ذلك ظاهر إلا ما ذكره في مواقع وانه السماء الاولى وموطن القرآن فإن فيه خفاء ، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك ، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء ، وسيجئ الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى ، ومما يجب أن يعلم ان الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه ، والكلام على الاشارة والرمز شائع فيه ، ولا سيما في امثال هذه الحقائق : من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور ، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن
     وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ـ 186.
( بيان )
    قوله تعالى : « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » ، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق اسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها ، وفيه دلالة على كمال العناية ، بالامر ، ثم قوله : عبادي ، ولم يقل : الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية ، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال : فإني قريب ولم يقل : فقل إنه قريب ، ثم التأكيد بإن ثم الاتيان بالصفة دون الفعل
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس