|
|||
(136)
تعالى في حق الانبياء ( عليهم السلام ) ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئه منه تعالى لساحد انبيائه
عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه.
ويدل عليها أيضا قوله تعالى :« ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا » النساء ـ 68 ، وقال أيضا : « اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين » والحمد ـ 7 ، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين ، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين وكذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الانبياء : « أولئك الذين انعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية ابراهيم وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا » مريم ـ 59 ، فجمع في الانبياء أولا الخصلتين : اعني الانعام والهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله وممن هدينا واجتبينا بعد قوله : أنعم الله عليهم ، ووصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية ، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم ، والفريق الثاني غير الاول لان الفريق الاول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني ، وإذ وصف الفريق الثاني وعرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا فالفريق الاول وهم الانبياء ما كانوا يتبعون الشهوات ولا يلحقهم غي ، ومن البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى انهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الاطلاق في قوله : أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا. وهذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الانبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل وإجراء المعجزات على ايديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لاهليتهم للتبليغ ، والعقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي والافعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجة إليهم بالطاعة. (137)
ولا
يرد عليه : ان الناس وهم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم
الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ ، فإن ذلك منهم
لاحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه ، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور
والتقصير ، وإما لان مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الامر المطلوب ، والقبض على
اليسير والغض عن الكثير وشئ من الامرين لا يليق بساحته تعالى.
ولا يرد عليه ايضا : ظاهر قوله تعالى : « فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفه ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون » التوبة ـ 123 ، فإن الآية وإن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه اذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين وتفقهوا فيه ، لاتصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجية لقولهم على الناس والمحذور انما هو في الثاني دون الاول. ومما يدل على عصمتهم ( عليهم السلام ) قوله تعالى : « وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله » النساء ـ 64 ، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للارسال ، وقصر الغاية فيه ، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق ارادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لان كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ ، فلو تحقق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك ارادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد الا الحق. وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا والمعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق ارادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد ، آمرا وناهيا ، محبا ومبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والافعال علوا كبيرا وهو باطل وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم ، فان تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لانه تكليف ولا تكليف وارادة ولا ارادة وحب ولاحب ومدح وذم بالنسبة إلى فعل واحد ! ومما يدل على ذلك ايضا قوله تعالى : « رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » النساء ـ 165 ، فان الآية ظاهرة في ان الله سبحانه (138)
يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وان لا قاطع للعذر الا الرسل ( عليهم السلام ) ،
ومن المعلوم ان قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجتهم انما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم مالا يوافق ارادة الله ورضاه : من قول أو فعل ، وخطاء أو معصية والا كان للناس ان يتمسكوا به ويحتجوا على ربهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى.
فان قلت : الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو ان الانبياء ( عليهم السلام ) لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شيء فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الانسان عن الوقوع في الخطأ ، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة ، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره وانما هي مبدء نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الافعال عن الملكات النفسانية. قلت : نعم لكن الذي يحتاج إليه في الابحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ والمعصية من النبي ( عليه السلام ) ولا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة وهو ظاهر. ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الاعجاز من دلالة قوله تعالى : « إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا» الطلاق ـ 3 ، وكذا قوله تعالى : « إن ربي على صراط مستقيم » هود ـ 56 ، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقق به ، فهذه الافعال الصادرة عن النبي ( عليه السلام ) على وتيرة واحدة صوابا وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي ( عليه السلام ) وفي نفسه وهي القوة الرادعة ، وتوضيحه : أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الافعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة وبعضها معصية ولا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية ، وإنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها ، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الامر مثلا تحققت الطاعة ، وإن كان المطلوب ـ أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية ـ اتباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية ، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل ، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية وامتثال الامر الالهي لما صدر إلا الطاعة ، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية ( والعياذ بالله ) لم يتحقق (139)
إلا
المعصية ، وعلى هذا فصدور الافعال عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
بوصف الطاعة دائما ليس إلا لان العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة
غير متغيرة ، وهو الاذعان بوجوب العبودية دائما ، ومن المعلوم أن الصورة العلمية
والهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة
والعدالة ونحوها ، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد
وهي القوة الرادعة عن المعصية.
ومن جهة أخرى النبي لا يخطئ في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطئ في تلقي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أن هذه الافعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الاسباب يكون معه ، ولا انضمام من شيء إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي ( عليه السلام ) فيه ، ولازم ذلك إبطال علم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الافعال الاختيارية عن كونها اختيارية ، وهو ينافي افتراض كونه فردا من إفراد الانسان الفاعل بالعلم والارادة ، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الانسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا وطاعة وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكه كما مر. ( كلام في النبوة )
والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة ( وهي وصف إرشاد الناس
بالوحي ) في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو
كالتقسيم : وهما الرسول والنبي ، قال تعالى : « وجيئ بالنبيين والشهداء » الزمر ـ 69 ،
وقال تعالى : « يوم يجمع الله الرسل ماذا أجبتم » المائدة ـ 109 ، ومعنى الرسول حامل
الرسالة ، ومعنى النبي حامل النبأ ، فللرسول شرف الطاعة بين الله سبحانه وبين خلقه
والنبي شرف العلم بالله وبما عنده.
وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبهث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة ، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر. (140)
لكن
هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى : « واذكر في الكتاب موسى أنه كان مخاصا وكان رسول
نبيا » مريم ـ 51 ، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرج من
الخاص إلى العام كما لا يخفى.
وكذا قوله تعالى : « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » الحج ـ 51 ، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى : « ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء » الزمر ـ 69 ، وكذا قوله تعالى : « ولكن رسول الله وخاتم النبيين » الاحزاب ـ 40 ، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالارسال إلى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى : وكان رسولا نبيا الآية ، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير ان يصيرا اسمين مهجورى المعنى فالمعنى وكان رسولا خبيرا بآيات الله ومعارفه ، وكذا قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية لامكان ان يقال : ان النبي والرسول كليهما مرسلان إلى الناس ، غير ان النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على اصل نباء النبوة كما يشعر به امثال قوله تعالى : « ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالحق » يونس ـ 47 ، وقوله تعالى : « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » الاسراء ـ 15 ، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى : « لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » النساء ـ 165 ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم ، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من ان للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من الفرق بينهما. ثم ان القرآن صريح في ان الانبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه ، قال تعالى : « ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك » المؤمن ـ 78 ، إلى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم (141)
بضعة وعشرون نبيا وهم : آدم ، ونوح ، وادريس ، وهود ، وصالح ، وابراهيم ، ولوط ، واسماعيل ،
واليسع ، وذو الكفل ، والياس ، ويونس ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ،
وداود ، وسليمان ، وايوب ، وزكريا ، ويحيى ، واسماعيل صادق الوعد ، وعيسى ، ومحمد صلى لله
عليهم أجمعين.
وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية ، قال سبحانه : « ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا » البقرة ـ 246 ، وقال تعالى : « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » البقرة ـ 259 ، وقال تعالى : « إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث » يس ـ 14 ، وقال تعالى : « فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما » الكهف ـ 65 ، وقال تعالى : « والاسباط » البقرة ـ 136 ، وهناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى : « واذ قال موسى لفتاه » الكهف ـ 60 ، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرح بأسمائهم. وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية ابي ذر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان الانبياء مئة وأربعة وعشرون الف نبي ، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبيا. واعلم : ان سادات الانبياء هم أولوا العزم منهم وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى وعيسى ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعليهم ، قال تعالى :« فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل » الاحقاف ـ 35 ، وسيجئ ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الاول المأخوذ منهم وعدم نسيانه ، قال تعالى : « واذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى وأخذنا منهم ميثاقا غليظا » الاحزاب ـ 7 ، وقال تعالى : « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما » طه ـ 115. وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب ، قال تعالى : « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى » الشورى ـ 13 ، وقال تعالى : « إن هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى » الاعلى ـ 19 ، وقال تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون : إلى أن (142)
قال : « وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه
الانجيل فيه هدى ونور ـ إلى أن قال ـ وأنزلنا اليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من
الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما
آتاكم » المائدة ـ 51.
والآيات تبين ان لهم شرائع وان لابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتبا ، وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية اعني قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة الخ ، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه ، وهذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود ( عليه السلام ) ، قال تعالى : « وآتينا داود زبورا » النساء ـ 163 ، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم ، وشيث ، وادريس ، فانها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع. واعلم ان من لوازم النبوه الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى : « إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده » النساء ـ 163 ، وسيجئ استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله. ( بحث روائي )
في المجمع عن الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله
النبيين.
وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في الآية قال : وكان ذلك قبل نوح فقيل : فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلالا ، وذلك إنه لما انقرض آدم وصالح ذريته ، وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فصار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الارض معهم إلا من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر ، وكذبوا ، إنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرء : فيها يفرق كل أمر حكيم ، فيحكم الله تبارك وتعالى : ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك ، ـ قلت أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع بقول ابراهيم : لئن لم يهدني (143)
ربي
لاكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق.
اقول : قوله : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله ، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث ، وأنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الالهية ، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله ( عليه السلام ) في رواية المجمع المنقولة آنفا : على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالا. وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أي ناسيا للميثاق ، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكرا له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية. وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال : سأل الزنديق الذي أتى إبا عبد الله فقال : من أين أثبت أنبياء ورسلا؟ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنا لما أثبتنا : ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، فثبت ان له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك ان له معبرين وهم الانبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبون بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في احوالهم ، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من احياء الموتى ، وابراء الاكمه والابرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته. اقول : والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة. إحداها : الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تجد انه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة الآية. وثانيتها : الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة ، وما ذكره ( عليه السلام ) منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى : « وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله » البقرة ـ 23. (144)
وثالثتها : مسألة عدم خلو الارض عن الحجة وسيأتي بيانه إنشاء الله.
وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال : قلت يا رسول الله كم النبيون؟ قال : مأة وأربعة وعشرون الف نبي ، قلت : كم المرسلون منهم؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جما غفيرا ، قلت من كان أول الانبياء؟ قال : آدم ، قلت : وكان من الانبياء مرسلا؟ قال : نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الانبياء سريانيون : آدم ، وشيث ، وأخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم ، ونوح ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي ، قلت : يا رسول الله ! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال : مأة كتاب وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وانزل التوراة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان. اقول : والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الانبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصة والعامة في كتبهم ، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والامالي عن الرضا عن آبائه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن زيد بن علي عن آبائه عن امير المؤمنين ( عليه السلام ) ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة ، والسيد في الاقبال عن السجاد ( عليه السلام ) ، وفي البصائر عن الباقر ( عليه السلام ). وفي الكافي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : وكان رسولا نبيا الآية قال : النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين. اقول : وفي هذا المعنى روايات أخر ، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى : « فأرسل إلى هارون » الشعراء ـ 13 ، وليس معناها ان معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي ، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان ، وربما كانت نبوة من غير رسالة ، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن ابي ذر حيث يقول : قلت : كم المرسلون منهم؟ فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس ، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه (145)
بعضهم على دلالة قوله تعالى : « ولكن رسول الله وخاتم النبيين» الاحزاب ـ 40 ، أنه
انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية ونظائرها.
والجواب : ان النبوة أعم مصداقا من الرسالة وارتفاع الاعم يستلزم ارتفاع الاخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق. وفي العيون عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : إنما سمي أولوا العزم أولي العزم لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهؤلاء الخمسة أولوا العزم ، وهم أفضل الانبياء والرسل ( عليهم السلام ) وشريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة ، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه. اقول : وروي هذا المعنى صاحب قصص الانبياء عن الصادق ( عليه السلام ). وفي تفسير القمى في قوله تعالى : فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية ، وهم نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى بن مريم ( عليهم السلام ) ، ومعنى أولي العزم أنهم سبقوا الانبياء إلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم : وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والاذى. اقول : وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أولي العزم من الانبياء خمسة : نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما رويناه من طرق أهل البيت ، وهناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم : فذهب بعضهم إلى أنهم ستة : نوح ، وابراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين ، وذهب بعضهم (146)
إلى
أنهم أربعة : ابراهيم ، ونوح ، وهود ، ورابعهم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،
وهذه أقوال خالية عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك.
وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الانبياء الحديث. اقول : وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة ( عليهم السلام ) بطرق كثيرة. وفي الصافي عن المجمع عن علي ( عليه السلام ) بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته. وفي النهج قال ( عليه السلام ) في خطبة له يذكر فيها آدم ( عليه السلام ) : فأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية ، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه واتخذوا الانداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسى نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة : من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، واحداث تتابع عليهم ، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة إو محجة قائمة ، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم : من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الابناء ، إلى ان بعث الله سبحانه محمدا لانجاز عدته ، وتمام نبوته الخطبة. اقول : قوله : اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب ، وقوله : واتر إليهم ، أي ارسل واحدا بعد واحد ، والاوصاب جمع وصب وهو المرض ، والاحداث جمع الحدث وهو النازلة ، وقوله نسلت القرون اي مضت ، وإنجاز العدة تصديق الوعد ، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبشر به عيسى ( عليه السلام ) وغيره من الانبياء ( عليهم السلام ) ، قال تعالى : « وتمت كلمه ربك صدقا وعدلا » الانعام ـ 115. (147)
وفي
تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
قال الله تعالى لموسى ( عليه السلام ) :
وكتبنا له في الالواح من كل شيء فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشئ كله ، وقال تعالى
لعيسى : لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ.
اقول : وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين ، وقوله ( عليه السلام ) قال الله لموسى الخ إشارة إلى ان قوله تعالى في الالواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة : وتفصيل كل شيء إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله : في الالواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم. ( بحث فلسفي )
مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للاحكام وقوانين
مجعولة مشرعة وهي أمور اعتبارية غير حقيقية ، وإن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن
البحث الفلسفي إنما ينال الاشياء من حيث وجوداتها الخارجية وحقائقها العينية ولا
يتناول الامور المجعولة الاعتبارية.
لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية وبحث حقيقي ، وذلك أن المواد الدينية : من المعارف الاصلية والاحكام الخلقية والعملية لها ارتباط بالنفس الانسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو احوالا تؤدي إلى ملكات راسخة ، وهذه العلوم والملكات تكون صورا للنفس الانسانية تعين طريقها إلى السعادة والشقاوة ، والقرب والبعد من الله سبحانه ، فإن الانسان بواسطة الاعمال الصالحة والاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق الا بما هي له عند الله سبحانه من القرب والزلفى ، والرضوان والجنان وبواسطة الاعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقي. (148)
وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من
الكتاب العزيز حجة برهانية.
توضيح ذلك : ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال ، والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية ، والعلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الاخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان ، والواجب تعالى تام الافاضة فيجب أن يكون هناك افاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال ، ويتبدل به قوتها إلى الفعلية ، من الكمال الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية. واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الافعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد ، والخوف والرجاء ، والرغبة إلى المنافع ، والرهبة من المضار ، وجب أن تكون هذه الافاضة أيضا متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم ، وخسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم ، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من عنده تعالى. فان قلت : كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الانسان للحق في الاعتقاد والعمل ، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى ، فأي حاجة إلى بعث الانبياء. قلت : العقل الذي يدعو إلى ذلك ، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن والقبح ، دون العقل النظري المدرك لحقائق الاشياء كما مر بيانه سابقا ، والعقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة ، والاحساسات التي هي بالفعل في الانسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهوية والغضبية ، وأما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة ، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف ، فهذه التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم ، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل. (149)
( بحث اجتماعي )
فان قلت : هب ان العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في
جميع التقادير ولكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها
مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالاخرة على هيئد صالحة فيها سعادة أفراد
المجتمعين وهو الاصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي
بالاخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الانسانية جالب لسعادة النوع المجتمع
الافراد ، ويشهد به ما نشاهده ويؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى
التكامل وتتمنى الصلاح وتتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الانسان ، فمنها ما بلغ
مبتغاه وامنيته كما في بعض الامم مثل سويسره ، ومنها ما هو في الطريق ولما يتم له
شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.
قلت : تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره ، والاجتماع المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الامعان فيه أن هذا التمايل والتوجه لا يستوجب فعلية الكمال والسعادة الحقيقية ، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي والغضبي في الانسان وكون مبادي السعادة الحقيقية فيه بالقوة ، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة والحاضرة متوجهة إلى الكمال ، ونيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة ، وقرب البعض الآخر أو بعده ، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو الكمال الجسمي وليس الكمال الجسمي هو كمال الانسان ، فإن الانسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم وروح ، مؤلف من جهتين مادية ومعنوية له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال ، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته الآخرة ، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له وسعادة بالنسبة إليه ، وحقيقته هذه الحقيقة. فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الانساني ، وإن كان في قصدها هداية الانسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الانسانية وانحلال تركيبه ، وضلاله عن (150)
صراطه المستقيم ، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة ، والهداية الالهية.
فان قلت : لو صحت هذه الدعود النبوية ولها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الانسانية ، كما ان هداية الانسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة والتكوين ، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات ، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية ، وليس كذلك ، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا ولا تقبله الاجتماعات الانسانية؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة. قلت : أولا اثر الدعوة الدينية مشهود معاين ، لا يرتاب فيه الا مكابر ، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت ، ربت ألوفا وألوفا من الافراد في جانب السعادة ، واضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والرد والانقياد والاستكبار ، والايمان والكفر ، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة احيانا من الزمان ، على ان الدنيا لم تقض عمرها بعد ، ولما ينقرض العالم الانساني ، ومن الممكن أن يتحول الاجتماع الانساني يوما إلى اجتماع ديني صالح ، فيه حياة الانسانية الحقيقية وسعادة الفضائل والاخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه ، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به. وثانيا : أن الابحاث الاجتماعية وكذا علم النفس وعلم الاخلاق تثبت أن الافعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالاحوال والملكات من الاخلاق ترتضع من ثدى الصفات النفسانية ، ولها تأثير في النفوس ، فالافعال آثار النفوس وصفاتها ، ولها آثار في النفوس في صفاتها ، ويستنتج من هناك أصلان : أصل سراية الصفات والاخلاق ، وأصل وراثتها ، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا ، وتتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا. فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الاجتماعات الانسانية من اقدم عهودها ، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الانسان الاجتماعية من حيث الاخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة ، فللدعوة الدينية آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها. |
|||
|