الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 151 ـ 165
(151)
    بل حقيقة الامر : أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والامم الحية من آثار النبوة والدين ، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد ، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به أمم وجماعات هامة ، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الايمان ، والاخلاق الفاضلة والعدل والصلاح ، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإن كان قليلا بقايا من آثاره ونتائجه ، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها : أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقية في جميع الشؤون الانسانية ، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب ، وتدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الاخلاق وغيرها ، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والاخلاق والافعال جميعا ويدعو إلى إصلاح الجميع.
    فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته.
    ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الامم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة ، وأهملت أمر الدين والاخلاق ، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم ، ولو كانت أصل الفطرة كافيه ، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك.
    على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الامم المسيحية بعد الحروب الصليبية ، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها وتقدموا بها ، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهريا ، فتأخر هؤلاء وتقدم أولئك ، والكلام طويل الذيل.
    وبالجملة الاصلان المذكوران ، أعني السراية والوراثة ، وهما التقليد الغريزي في الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعلي.
    فان قلت : فعلى هذا فما فائدد الفطرة فإنها لا تغني طائلا وإنما أمر السعادة بيد النبوة؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة.
    قلت : ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي في حل هذه الشبهة ، فإن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة إلى الانسان ليس أمرا


(152)
خارجا عن هذا النوع ، ولا غريبا عن الفطرة فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه ، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك ، وهذا المعين الذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الانسانية وكمالها ، منضما إلى الانسان كالحجر الموضوع في جنب الانسان مثلا ، وإلا كان ما يعود منه إلى الانسان أمرا غير كماله وسعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الانسان في وزنه ، بل هو أيضا كمال فطري للانسان مذخور في هذا النوع ، وهو شعور خاص وإدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الالهية كما أن للبالغ من الانسان شعورا خاصا بلذة النكاح ، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الافراد غير البالغين بالفعل ، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الانسانية ، والشعور شعور مرتبط بالفطرة.
    وبالجملة لا حقيقة النبوه أمر زائد على انسانية الانسان الذي يسمى نبيا ، وخارج عن فطرته ، ولا السعادة التي تهتدي سائر الامة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم وفطرتهم ، غريب عما يستأنسه وجودهم الانساني ، وإلا لم تكن كمالا وسعادة بالنسبة إليهم.
    فان قلت : فيعود الاشكال على هذا التقرير إلى النبوة ، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوة غير خارجة عن الفطرة.
    فإن المتحصل من هذا الكلام ، هو أن النوع الانساني المتمدن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميز من بين افراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة ، وعقولهم سليمة عن الاوهام والتهوسات ورذائل الصفات ، فيهتدون باستقامة فطرتهم ، وسلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع ، وسعادة الانسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس ، وعمران الدنيا والآخرة ، فإن النبي هو الانسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي.
    قلت : كلا ! وإنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة ، ولا ما تستتبعه.
    اما اولا : فلان ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني ، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد.
    فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل ،


(153)
وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع ، وما يصلح به هذا الاجتماع المختل ، وما يسعد به الانسان الاجتماعي.
    فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي ، والفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي ، والقوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين ، وروحه الطاهر الذي يفيض هذه الافكار إلى قواه الفكرية ولا يخون العالم الانساني باتباع الهوى هو الروح الامين وهو جبرائيل ، والموحي الحقيقي هو الله سبحانه ، والكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي ، والملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير ، والشيطان هي النفس الامارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر والفساد ، وعلى هذا القياس.
    وهذا فرض فاسد ، وقد مر في البحث عن الاعجاز ، أن النبوة بهذا المعنى لان تسمى لعبة سياسية أولى بها من ان تسمى نبوة إلهية.
    وقد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي ، الذي يميز بين خير الافعال وشرها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الانسان ومن هدايا الفطرة المشتركة ، وتقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف ، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف ، واحتاج فيه إلى متمم يتمم أمره ، وقد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الانسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الانسان الحقيقية في معاشه ومعاده.
    ومن هنا يظهر ان هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري ، بمعنى أن ما يجده الانسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي ، والطريق غير الطريق.
    ولا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الانسان شعورا نفسيا باطنيا ، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده ، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم ، ويعطيه عجائب من المعارف والمعلومات ، وراء ما يناله العقل والفكر ، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من اوروبا مثل جمز الانجليزي وغيره.


(154)
    فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي ، وان النبوة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.
    واما ثانيا : فلان المأثور من كلام هؤلاء الانبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح ( عليهم السلام ) وغيرهم ـ وبعضهم يصدق بعضا ـ وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن ، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق ، فإن صريح الكتاب والسنة وما نقل من الانبياء العظام ( عليهم السلام ) أن هذه الحقائق وآثارها امور خارجة عن سنخ الطبيعة ، ونشأة المادة ، وحكم الحس ، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام ، ولا يرتضيه ذوق التخاطب.
    وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان.
    فان قلت : فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الانسان من انفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم ، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟ ! وقد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للانسان إلى سعادته وكماله النوعي وجب إن يهديه بالارتباط والاتحاد مع فطرته ، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الانسان إليه.
    قلت : كون هذا الامر خارقا للعادة مما لا ريب فيه ، وكذا كونه أمرا من قبيل الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه ، لكن العقل لا يدفع الامر الخارق للعادة ولا الامر المستور عن الحواس الظاهرة وانما يدفع المحال ، وللعقل طريق إلى تصديق الامور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فان له أن يستدل على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمي ، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الاني فيثبت بذلك وجوده ، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن ان يستدل عليها بأحد طريقين : فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي


(155)
يأتي به النبي على سعادة الانسان في دنياه وآخرته ، وتارة من جهة اللوازم وهو ان النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى ان الذي وراء الطبيعة وهو الهها الذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الانساني منها إلى كماله وسعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة وهو التصرف بالوحى ، ولو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة ، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا وكان النبي واجدا لها لكان من الجائز ان يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعى للنبوة ، وهذا الامر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلمنا في الاعجاز في تفسير قوله تعالى : « وإن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية » البقرة ـ 23.
    فان قلت : هب ان هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحى النبوة وأثبتها النبي بالاعجاز ، وكان على الناس ان يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرع الذي جاء به النبي ، لكن ما المؤمن عن الغلط؟ وما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطأ في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الافراد في جواز الوقوع في الخطأ. ومن المعلوم ان وقوع الخطأ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الانساني ، وإضلاله هذا النوع في سيرة إلى سعادته ، فيعود المحذور من رأس.
    قلت : الابحاث السابقة تكفي مؤنة حل هذه العقدة ، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الامر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الايصال التكويني لكل نوع من الانواع الوجودية إلى كماله الوجودي وسعادته الحقيقية ، فإن السبب الذي أوجب وجود الانسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الانواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته ، ومن المعلوم ان الامور الخارجية من حيث انها خارجية لا تعرضها الخطاء والغلط ، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح ان ما في الخارج هو ما في الخارج ! وإنما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقية والامور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق والكذب من خواص القضايا ، تعرضها من حيث


(156)
مطابقتها للخارج وعدمها ، وإذا فرض ان الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الايجاد والتكوين لزم ان لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته ، ولا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة وشعور الوحى ، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبي ، ولا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه ، ولو فرضنا له غلطا وخطائا في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء ، فمن الواجب ان يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.
    فظهر : ان هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة ، وهي المصونية عن الخطأ في أمر الدين والشريعة المشرعة ، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا ، فإن هذه عصمة في تلقي الوحى من الله سبحانه ، وتلك عصمة في مقام العمل والعبودية ، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى ، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعاده الانسان التكوينية وقوعا تكوينيا ، ولا خطاء ولا غلط في التكوين.
    وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو : أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير والتأثر؟ فإن الشعور الفطري وان كان أمرا غير مادي ، ومن الامور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا انه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة ، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق ، وان سلم انه غير مادي في ذاته فيجب ان يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير والفساد ، ومع امكان عروض التغير والفساد فيه يعود الاشكالات السابقة البتة.
    والجواب : انا بينا ان هذا السوق أعني سوق النوع الانساني نحو سعادته الحقيقية انما يتحقق بيد الصنع والايجاد الخارجي دون العقل الفكري ، ولا معنى لتحقق الخطأ في الوجود الخارجي.


(157)
     وأما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير والفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير والفساد ، وانما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري ( وقد مر ان الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري ) وذلك ان من الشعور شعور الانسان بنفسه ، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغير والخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي ، وتتمة هذا الكلام موكول إلى محله.
    فقد تبين مما مر امور : احدهما : انسياق الاجتماع الانساني إلى التمدن والاختلاف.
    ثانيها : ان هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.
    ثالثها : ان رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الانسان لا غير.
    رابعها : ان سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الانبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من افراد الانسان.
    خامسها : ان هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الانساني في سعادته الحقيقية.
    سادسها : ان هذه النتائج ( ويهمنا من بينها الثلثة الاخيرة أعني : لزوم بعثة الانبياء ، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكري سنخا ، وكون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحى ) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي ، وهو سير كل واحد من الانواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبس بها ، والانسان أحد هذه الانواع ، وهو مجهز بما يمكنه به ان يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة ، ويعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة ، فلا بد ان يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة يوما في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مر بيانه.


(158)
    أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. ألا إن نصر الله قريب ـ 214.
( بيان )
    قد مر ان هذه الآيات آخذة من قوله تعالى : « يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة إلى آخر هذه » الآية ، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.
    قوله تعالى : « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة » ، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة ، وهو ان الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونعمة حباهم الله بها ، فمن الواجب ان يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان ، ولا يلقوا فيه الاختلاف ، ولا يجعلوا الدواء دائا ، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا ونقمة من اتباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم ، فإن المحنة دائمة ، والفتنة قائمة ، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إلا بالثبات والتسليم.
    وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة ، فإن اصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله : يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه ، وإنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك ، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا.
    وكلمة أم منقطعة تفيد الاضراب ، والمعنى على ما قيل : بل أحسبتم ان تدخلوا الجنة الخ ، والخلاف في أم المنقطعة معروف ، والحق ان ام لافاده الترديد ، وأن الدلالة على معنى الاضراب من حيث انطباق معنى الاضراب على المورد ، لا أنها دلالة وضعية ، فالمعنى في المورد مثلا : هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الايمان والثبات على نعمة الدين ، والاتفاق والاتحاد فيه ام لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة الخ.
    قوله تعالى : « ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم » ، المثل بكسر الميم فسكون


(159)
الثاء ، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه ، والمراد به ما يمثل الشئ ويحضره ويشخصه عند السامع ، ومنه المثل بفتحتين ، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى : « مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا » الجمعة ـ 5 ، ومنه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى : « أنظر كيف ضربوا لك الامثال » الفرقان ـ 9 ، وإنما قالوا له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك ، وحيث انه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله : مستهم البأساء والضراء إلخ فالمراد به المعنى الاول.
    قوله تعالى : « مستهم البأساء والضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الاجمال الذي دل عليه » بقوله : ولما ياتكم مثل الذين ، بين ذلك بقوله : مستهم البأساء والضراء والبأساء هو الشدة المتوجهة إلى الانسان في خارج نفسه كالمال والجاه والاهل والامن الذي يحتاج إليه في حيوته ، والضراء هي الشدة التي تصيب الانسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض ، والزلزلة والزلزال معروف واصله من زل بمعنى عثر ، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الارض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة ، وهو كصر وصرصر ، وصل وصلصل ، وكب وكبكب ، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادهاش.
    قوله تعالى : « حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه » ، قرء بنصب يقول ، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها ، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية ، والمعنيان وإن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق ، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله : وزلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة.
    قوله تعالى : « متى نصر الله » ، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا معه جميعا ، ولا ضير في ان يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائا وطلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون » الصافات ـ 172 ، وقال تعالى : « كتب الله لاغلبن أنا ورسلي » المجادلد ـ 21 ، وقد قال تعالى أيضا : « حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جائهم نصرنا » يوسف ـ 110 ، وهو أشد لحنا من هذه الآية.


(160)
     والظاهر أيضا أن قوله تعالى : ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول والذين آمنوا معه.
    والآية « كما مرت إليه الاشارة سابقا » تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الامة كما جرى في الامم السابقة.
    وتدل أيضا على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا ، وهو الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده.
    يسألونك ماذا ينفقون. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ـ 215.
( بيان )
    قوله تعالى : « يسئلونك ماذا ينفقون » ، قل ما أنفقتم من خير ، قالوا : إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة ، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه ، وكان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الانفاق وهو المال على أقسامه ، وكان الاحق بالسؤال إنما هو من ينفق له : صرف الجواب إلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال.
    والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا ، وهو أن الآية مع ذلك متعرضه لبيان جنس ما ينفقونه ، فإنها تعرضت لذلك : أولا بقولها : من خير ، إجمالا ، وثانيا بقولها : وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ، ففي الآية دلالة على ان الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان ، من قليل أو كثير ، وان ذلك فعل خير والله به عليم ، لكنهم كان عليهم ان يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه ، وهم : الوالدان والاقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.
    ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسرين : ان المراد بما في قوله تعالى : ماذا


(161)
ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي ان ينزل عليه الكلام العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه ، بل هو السؤال عن الكيفية ، وانهم كيف ينفقونه ، وفي أي موضع يضعونه ، فاجيب بالصرف في المذكورين في الآية ، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة.
    ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر : ان السؤال وإن كان بلفظ ما إلا ان المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم ان الذي ينفق به هو المال ، وإذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم ، وتعين ان السؤال عن الكيفية ، نظير قوله تعالى : « قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا » البقرة ـ 70 ، فكان من المعلوم ان البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا ، فلا وجه لحمل قوله : ما هي على طلب الماهية ، فكان من المتعين ان يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها ، ولذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى : « إنها بقرة لا ذلول الآية » البقرة ـ 71.
    وقد اشتبه الامر على هؤلاء ، فإن ما وان لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق ، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين ، لكنه لا يستلزم ان تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيدة ، حتى يصح لقائل ان يقول عند السؤال عن المستحقين للانفاق : ماذا أنفق : أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله : للوالدين والاقربين ، فإن ذلك من أوضح اللحن.
    بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشئ سواء كان معرفا بالحد والماهية ، أو معرفا بالخواص والاوصاف ، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفية الشئ ، ومنه يعلم ان قوله تعالى : يبين لنا ما هي وقوله تعالى : إنها بقرة لا ذلول سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة ، وهو السؤال عما يعرف الشئ ويخصه والجواب بذلك.
    وأما قول القائل : إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطأ ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.
    ويتلوهما في الغرابة قول من يقول : إن السؤال كان عن الامرين جميعا : ما


(162)
ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر ، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه ! وهو كما ترى.
    وكيف كان لا ينبغي الشك في ان في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على ان الاحق هو السؤال عن من ينفق عليهم ، وإلا فكون الانفاق من الخير والمال ظاهر ، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن ، وهو من الطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى : « ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعائا وندائا » البقرة ـ 171 وقوله تعالى : « مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر » آل عمران ـ 117 وقوله تعالى : « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل » البقرة ـ 261 ، وقوله تعالى : « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » الشعراء ـ 89 ، وقوله تعالى : « قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا » الفرقان ـ 57 ، وقوله تعالى : « سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين » الصافات ـ 160 ، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.
    قوله تعالى : « وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم » ، في تبديل الانفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الانفاق وان كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره ، غير انه ينبغي ان يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى : « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » آل عمران ـ 92 ، وكما قال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه » البقرة ـ 267. وايماء إلى ان الانفاق ينبغى ان لا يكون على نحو الشر كالانفاق بالمن والاذى كما قال تعالى : « ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى » البقرة ـ 262 ، وقوله تعالى : « ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو » البقرة ـ 219.
( بحث روائي )
     في الدر المنثور عن ابن عباس قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : يسئلونك


(163)
عن الخمر والميسر ، ويسألونك عن الشهر الحرام ، ويسئلونك عن اليتامى ، ويسئلونك عن المحيض ، ويسئلونك عن الانفال ، ويسئلونك ماذا ينفقون ، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم.
    في المجمع في الآية : نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله ! بماذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية.
    اقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان ، وقد استضعفوا الرواية ، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.
    ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير ، فذلك النفقة في التطوع ، والزكوة سوى ذلك كله.
    ونظيرها في ذلك ايضا ما رواه عن السدي ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة ، وهي النفقة ينفقها الرجل على اهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
    اقول : وليست النسبة بين آية الزكاة : « خذ من أموالهم صدقة » التوبة ـ 104 ، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلا ان يعني بالنسخ معنى آخر.
    كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ـ 216. يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن


(164)
استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ـ 217. إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ـ 218.
( بيان )
    قوله تعالى : « كتب عليكم القتال وهو كره لكم » ، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع ، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى : « ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج » النور ـ 61 ، وغير ذلك من الآيات والادلة.
    ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله : وهو كره لكم وهو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك ، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.
    والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الانسان من نفسه طبعا أو غير ذلك ، والكره بفتح الكاف : المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه ، قال تعالى : « لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها » النساء ـ 19 ، وقال تعالى : « فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها » فصلت ـ 11 ، وكون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لان القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس وتعب الابدان والمضار المالية وارتفاع الامن والرخص والرفاهية ، وغير ذلك مما يستكرهه الانسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها وشاقا للمؤمنين بالطبع ، فإن الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح ، وذكر ان فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم ، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل ، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها ، ومعلوم ان من الجائز


(165)
أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره واكثرهم كارهون ، فهذا وجه.
    وإما لان المؤمنين كانوا يرون ان القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الاسلام والمسلمين ، وان الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الاموال ورسوخ الاستطاعة ، ولذلك كانوا يكرهون الاقدام على القتال والاستعجال في النزال ، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر ، فإن لله أمرا في هذا الامر هو بالغه ، وهو العالم بحقيقة الامر وهم لا يعلمون إلا ظاهره وهذا وجه آخر.
    وإما لان المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله ، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر ، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة ، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك ، ويدخلوا تحت لواء الايمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء ، ونفوس الكفار من الهلاك الابدي والبوار الدائم ، فبين ذلك انهم مخطئون في ذلك ، فإن الله ـ وهو المشرع لحكم القتال ـ يعلم ان الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة ، وانه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة ، فهم في الجامعة الانسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الاعضاء ، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمي به ، وهذا أيضا وجه.
    فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى : ( وهو كره لكم ) إلا ان الاول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب ، على ان التعبير في قوله : كتب عليكم القتال ، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.
    قوله تعالى : « وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم » ، قد مر فيما مر ان أمثال عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب ، فالله سبحانه إنما يقول : عسى ان يكون كذا لا لانه يرجوه ، تعالى عن ذلك ، بل ليرجوه المخاطب أو
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس