|
|||
(316)
الوضعية فانه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحد أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية ، أو يستكمل
بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى : « ليس كمثله شيء » الشورى ـ 11.
لكنه سبحانه فيما مر من قوله : « وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب » الشورى ـ 51 ، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وان نفى عنه المعنى العادي المعهود بين الناس ، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الالهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له ، ومع بقاء الاثر والغاية يبقى المحدود في الامور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الانسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك ، وقد تقدم بيانه. فقد : ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة ، وهو سبحانه وإن بين لنا اجمالا انه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله ، لكنه تعالى لم يبين لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه ان هذا الذي يسميه كلاما يكلم به انبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة والقائها في ذهن السامع. وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالاحياء والاماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات ، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات ! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى : « ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر اليك قال لن تراني » الاعراف ـ 143 ، وقال تعالى « وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا » مريم ـ 9 ، وقال تعالى : « فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم » البقرة ـ 243 ، وقال تعالى : « نحن نرزقكم وإياهم » الانعام ـ 151 ، وقال تعالى : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، وقال تعالى : « ثم تاب عليهم ليتوبوا » التوبة ـ 118 ، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الافعال كالخلق والاماتة والاحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء. (317)
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى ، والبحث التفسيري المقصور على الآيات
القرآنية في معنى الكلام ، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من
المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.
واعلم : ان الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الانسان ، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده ، قال تعالى : « وكلمته ألقاها إلى مريم » النساء ـ 171 ، اريد به نفس الانسان ، وقال تعالى : « وكلمة الله هي العليا » التوبة ـ 41 ، وقال تعالى : « وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا » الانعام ـ 155 ، وقال تعالى : « ما نفدت كلمات الله » لقمان ـ 27 ، وقد اريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الاشارة إليه. وأما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الانسان وغيره فقال تعالى في مورد الانسان : « فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك » طه ـ 117 ، وقال تعالى في مورد الملائكة : « وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة » البقرة ـ 30 ، وقال أيضا : « إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين » ص ـ 71 ، وقال في مورد ابليس قال « يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي » ص ـ 75 ، وقال تعالى في غير مورد أولي العقل : « ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين » فصلت ـ 11 ، وقال تعالى : « قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم » الانبياء ـ 69 ، وقال تعالى : « وقيل يا أرض ابلعي مائك وياسماء أقلعي » هود ـ 44 ، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى : « إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون » يس ـ 82 ، وقوله تعالى : « إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » مريم ـ 35. والذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى ( حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالانسان مثلا ، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وادراك بالمعنى المعهود عندنا كالارض والسماء ، وحيث ان الآيتين الاخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات ) ان القول منه تعالى ايجاد امر يدل على المعنى المقصود. فأما في التكوينيات فنفس الشئ الذي أوجده تعالى وخلقه هو شيء مخلوق (318)
موجود ، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من
المعلوم انه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين
الشئ ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله ، كن ، فقوله في
التكوينيات نفس الفعل وهو الايجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.
وأما في غير التكوينيات كمورد الانسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الانسان بأن كذا كذا ، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الاجسام ، أو بنحو آخر لا ندركه ، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام. وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان ، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية ، وهي ان الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الاشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية ، ومن المعلوم ( على ما يعطيه كلامه تعالى ) ان الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الامور الاعتبارية. ويظهر من ذلك : ان ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والاصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني ، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الانسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد ، والتأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر ، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا ، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت. وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى : « قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم » النمل ـ 18 ، (319)
وقال تعالى : « فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين » النمل ـ 22 ، وكذا ما
يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى : « وأوحى ربك إلى النحل أن
اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون » النحل ـ 68.
وهناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي ، قال تعالى : « إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك » النساء ـ 163 ، والالهام ، قال تعالى : « ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها » الشمس ـ 8 ، والنبأ ، قال تعالى : « قال نبأني العليم الخبير » التحريم ـ 3 ، والقص ، قال تعالى : « يقص الحق » الانعام ـ 57 ، والقول في جميع هذه الالفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الامر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا ، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى انشاء الله. واما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الالفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما وبعضها قولا وبعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد ، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الالهي في مورد بيان تفضيل الانبياء وتشريفهم كلاما لان العناية هناك انما هو بالمخاطبة والتكليم ، ويسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الامر الالهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولا كقوله تعالى : « قال الحق والحق اقول لاملان » ص ـ 85 ، ويسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الانبياء ولذلك عبر في موردهم ( عليهم السلام ) بالوحي كقوله : « انا أوحينا اليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك الآية » النساء ـ 163. الجهة الثانية : وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت ان مفردات اللغه انما انتقل الانسان إلى معانيها ووضع الالفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الامور الجسمانية ابتدائا ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات ، وهذا وان اوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتدائا لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر ، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم (320)
الانسان في المدنية والحضارة ، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية ،
والتبدل فيها دائما مع بقاء الاسماء فالاسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء
الاغراض المرتبة وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الانسان لامكان رفع بعض الحوائج
به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت
تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل ، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا وسماه الانسان
بالسراج ، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور ، ويركب طبقا عن طبق ، حتى انتهت إلى هذه
السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا ،
الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية ، ومع ذلك نحن نطلق
لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء ، ومن غير عناية ، وليس ذلك إلا
ان الغاية والغرض من السراج أعني الاثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب
بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت ، وهو الاستضائة ، ونحن لا نقصد شيئا من وسائل
الحياة ولا نعرفها الا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب ، فحقيقة السراج ما يستضاء
بضوئه بالليل ، ومع بقاء هذه الخاصة والاثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على
حقيقة معناه من غير تغير وتبدل ، وان تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل
أجزاء الذات كما عرفت في المثال ، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم
بقائه بقاء الاثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغير ، وقلما يوجد اليوم في
الامور المصنوعة ووسائل الحياة ـ وهي ألوف والوف ـ شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه
أولا ، غير أن بقاء الاثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الاول الذي وضع له.
وفي
اللغات شيء كثير من القسم الاول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول
يعثر عليه المتتبع البصير.
فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الاثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي. فظهر من جميع ما بيناه : ان إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي ، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام ، كما ان سائر الالفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والارادة والاعطاء كذلك. واعلم : ان القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى : « ورفع بعضهم درجات » ، (321)
من
حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم
أكثر الباحثين في المعارف الدينية : ان ما اشتملت عليه هذه البيانات امور اعتبارية
ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الانسان من مقامات الرئاسة
والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك ، فلزمهم ان يجعلوا ما يرتبط بها من
الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار
الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية ، أي إن الرابطة بين المقامات
المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع ، ولزمهم ـ
اضطرارا ـ كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس ، محكوما بالآراء الاعتبارية
ومبعوثا عن الشعور الوهمي كالانسان الواقع في عالم المادة ، والنازل في منزل الحركة
والاستكمال ، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه
بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إلا ان تنسلخ عن
حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريات.
قوله تعالى : « وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس » ، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مر. والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية : ان ما ذكره له ( عليه السلام ) من جهات التفضيل وهو إيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض ، قال تعالى : « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات » الحديد ـ 25 ، وقال تعالى : « ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ان انذروا » النمل ـ 2 ، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الاكمه والابرص ، والاخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح ، فلذلك نسبها إلى عيسى ( عليه السلام ) وصرح باسمه إذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل : وآتينا بعضهم البينات وأيدناه بروح القدس ، إذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة ، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم انها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا ، على ان في اسم عيسى ( عليه السلام ) خاصة اخرى وآية بينة وهي (322)
انه
ابن مريم لا أب له ، قال تعالى : « وجعلناها وابنها آية للعالمين » الانبياء ـ 91 ،
فمجموع الابن والام آية بينة إلهية وفضيلة اختصاصية اخرى.
قوله تعالى : « ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات » ، العدول إلى الغيبة ثانيا لان المقام مقام إظهار ان المشية والارادة الربانية غير مغلوبة ، والقدرة غير باطلة ، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الالهية ، وبالجملة وصف الالوهئ هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إطلاق تعلقها بطرفي الايجاب والسلب فمست حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهية للذكر فقيل : ولو شاء الله ما اقتتل ، ولم يقل : ولو شئنا ما اقتتل ، وهذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا ، وقوله : ولكن الله يفعل ما يريد وهو الوجه ايضا في العدول عن الاضمار إلى الاظهار. قوله تعالى : « ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر » ، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لانه تعالى ذكر في مواضع من كلامه : ان الاختلاف بالايمان والكفر وسائرالمعارف الاصلية المبينة في كتب الله النازلة على انبيائه انما حدث بين الناس بالبغى ، وحاشا ان ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم. قوله تعالى : « ولو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد » ، أي ولو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الاسباب. ومحصل معنى الآية والله العالم : ان الرسل التي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم ، مرتفع عن الناس أفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك ، فهذا حال الرسل وقد اتوا للناس بآيات بينات اظهروا بها الحق كل الاظهار وبينوا طريق الهداية أتم البيان ، وكان لازمه ان لا ينساق الناس بعدهم الا إلى الوحدة والالفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب ، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر ، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة ، ولو شاء الله لاعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا ، ولكن لم يشأ وأجرى هذا (323)
السبب كسائر الاسباب والعلل على سنة الاسباب التي أرادها الله في عالم الصنع
والايجاد ، والله يفعل ما يريد.
قوله تعالى : « يا ايها الذين آمنوا انفقوا » الخ ، معناه واضح وفي ذيل الآية دلالة على ان الاستنكاف عن الانفاق كفر وظلم. ( بحث روائي )
في الكافي عن الباقر ( عليه السلام ) :
في قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا الخ ، في هذا ما يستدل به على ان اصحاب محمد قد
اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
وفي تفسير العياشي عن اصبغ بن نباتة ، قال : كنت واقفا مع امير المؤمنين علي بن أبي طالب( عليه السلام ) يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا ، وهلل القوم وهللنا ، وصلى القوم وصلينا ، فعلى ما نقاتلهم؟ ! فقال ( عليه السلام ) : على هذه الآية تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ـ فنحن الذين من بعدهم ـ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل ـ رحمه الله ـ. أقول : وروي هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما والقمي في تفسيره ، والرواية تدل على انه ( عليه السلام ) أخذ الكفر في الآية بالمعنى الاعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين ، فإن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان انه ( عليه السلام ) ما كان يعامل مع مخالفيه من اصحاب الجمل واصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين ، فليس إلا انه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر ، وقد كان ( عليه السلام ) يقول : اقاتلهم على التأويل دون التنزيل. وظاهر الآية يساعد هذا المعنى ، فإنه يدل على ان البينات التي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم انفسهم فوقوع (324)
الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الانساني
الذي لا يخلو عن البغى والظلم ، فالآية في مساق قوله تعالى : « وما كان الناس إلا امة
واحدة فاختلفوا ولو لاكلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون » يونس ـ 19 ،
وقوله تعالى : كان الناس امة واحدة ـ إلى أن قال ـ : « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه
من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من
الحق بإذنه » البقرة ـ 213 ، وقوله تعالى : « ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك »
هود ـ 119 ، كل ذلك يدل على ان الاختلاف في الكتاب ـ وهو الاختلاف في الدين ـ بين
أتباع الانبياء بعدهم مما لا مناص عنه ، وقد قال تعالى في خصوص هذه الامة : « ام
حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم » البقرة ـ 214 ، وقال
تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة : « وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن
مهجورا » الفرقان ـ 30 ، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.
واما ان ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الاخبار يدل على ان الصحابة انفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه المعاملة ، من غير ان يستثنوا انفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله ، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب. وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم ، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور ، قلت : ـ جعلت فداك ـ فلم يزل متكلما؟ قال : الكلام محدث ، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام. وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى ، قال : سأل أبو قرة المحدث عن الرضا ( عليه السلام ) فقال : أخبرني ـ جعلت فداك ـ عن كلام الله لموسى فقال : الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال : إنما اسألك عن هذا اللسان فقال : أبو الحسن ( عليه السلام ) : سبحان الله عما تقول ومعاذ الله ان يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل ، قال : كيف؟ قال : (325)
كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ، ولكن يقول له
كن فكان ، بمشيته ما خاطب به موسى من الامر والنهى من غير تردد في نفس ـ الخبر ـ.
وفي نهج البلاغة في خطبة له ( عليه السلام ) : متكلم لابروية ، مريد لابهمة ، الخطبة. وفي النهج أيضا في خطبة له ( عليه السلام ) : الذي كلم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا ادوات ولا نطق ولالهوات ، الخطبة. اقول : والاخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة ، وهي مطبقة على ان كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات. ( بحث فلسفي )
ذكر الحكماء : أن ما يسمى عند الناس قولا وكلاما وهو نقل الانسان
المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع
المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو
السامع ، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهم ، قالوا : وحقيقة الكلام متقومة بما
يدل على معنى خفي مضمر ، واما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الانسان
ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا
لاازيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست
بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.
فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام ، وكذا الاشارة الوافية لارائه المعنى كلام كما ان إشارتك بيدك : ان اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول ، وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها ، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته ، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها. فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها ، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته ، فكل واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علته الفياضة ، (326)
وكل
مجموع منها ، ومجموع العالم الامكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من
كمال اسمائه وصفاته ، فكما انه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى
متكلم بالعالم مظهر به خبايا الاسماء والصفات والعالم كلامه.
بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على نفسه فإن الدلالة بالاخرة شأن وجودي ليس ولا يكون لشئ بنحو الاصالة إلا لله وبالله سبحانه ، فكل شيء دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشئ الدال ، وعلى دلالته لغيره. فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته وهو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم ، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات ، ومنه ما هو صفة الفعل ، وهو الخلق والايجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال. اقول : ما نقلنا على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي ، فإن الذي اثبته الكتاب والسنة هو امثال قوله تعالى : « منهم من كلم الله » ، وقوله : « وكلم الله موسى تكليما » ، وقوله : « قال الله يا عيسى » ، وقوله : « وقلنا يا آدم » ، وقوله : « إنا أوحينا اليك » ، وقوله : « نبأني العليم الخبير » ، ومن المعلوم ان الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شئ من هذه الموارد. واعلم ان بحث الكلام من اقدم الابحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين ( وبذلك سمي علم الكلام به ) وهي ان كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟ ذهبت الاشاعرة إلى القدم غير انهم فسروا الكلام بان المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي ، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها ، واما الكلام اللفظي وهو الاصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة. وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير انهم فسروا الكلام بالالفاظ الدالة على المعنى (327)
التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف ، قالوا : واما المعاني النفسية التي
تسميه الاشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية وليست بالكلام.
وبعبارة أخرى : إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما ، وإن أريد به امر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد ورائها شيئا بالوجدان ، هذا. وربما امكن ان يورد عليه بجواز ان يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقا لصفتين أو ازيد وهو ظاهر ، فلم لا يجوز ان تكون الصورة الذهنية علما من جهة كونه انكشافا للواقع ، وكلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير؟ اقول : والذي يحسم مادة هذا النزاع من اصله ان وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى اخذناه اي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات واجماليا بالغير ، أو أخذ علما تفصيليا بالذات وبالغير في مقام الذات ، وهذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات ، أو أخذ علما تفصيليا قبل الايجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الايجاد وبعد الذات جميعا ، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي. والذي ذكروه وتنازعوا عليه انما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد اقمنا البرهان في محله : ان المفاهيم والماهيات لاتتحقق الا في ذهن الانسان أو ما قاربه جنسا من أنواع الحيوان التي تعمل الاعمال الحيوية بالحواس الظاهرة والاحساسات الباطنة. وبالجملة فالله سبحانه اجل من ان يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والماهيات الاعتبارية مما لاملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع ، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب ، ومعرضا لحدوث الحوادث ، وكلامه محتملا للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدس. واما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الالفاظ فسيجئ إنشاء الله بيانه في موضع يليق به. (328)
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في
الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء
من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ـ
255.
( بيان )
قوله تعالى : « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ، قد تقدم في سورة الحمد بعض
الكلام في لفظ الجلالة ، وانه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى
عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.
وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى : لا إله إلا هو ، في قوله تعالى : « وإلهكم إله واحد » البقرة ـ 163 ، وضمير هو وان رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث انه ذات وان كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالاطلاق إليها ، فقوله : لا اله الا هو ، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله. واما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات. والناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين : قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالاحجار وسائر الجمادات ، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وافعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس ، وذلك كالانسان وسائر اقسام الحيوان والنبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وافعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا ، وبذلك أذعن الانسان بان هناك وراء الحواس امرا آخر هو المبدأ للاحساسات والادراكات العلمية والافعال المبتنية على العلم والارادة (329)
وهو
المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت ، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة.
وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها ، قال تعالى : « اعلموا ان الله يحيى الارض بعد موتها » الحديد ـ 17 ، وقال تعالى : « إنك ترى الارض خاسعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى » فصلت ـ 39 ، وقال تعالى : « وما يستوي الاحياء ولا الاموات » الفاطر ـ 22 ، وقال تعالى : « وجعلنا من الماء كل شيء حي » الانبياء ـ 30 ، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الانسان والحيوان والنبات. وكذلك القول في اقسام الحياة ، قال تعالى : « ورضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها » يونس ـ 7 ، وقال تعالى : « ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين » المؤمن ـ 11 ، والاحيائان المذكوران يشتملان على حياتين : إحداهما : الحياة البرزخية ، والثانية : الحياة الآخرة ، فللحياة أقسام كما للحي أقسام. والله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى : « وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع » الرعد ـ 26 ، وقوله تعالى : « تبتغون عرض الحياة الدنيا » النساء ـ 94 ، و قوله تعالى : « تريد زينة الحياة الدنيا » الكهف ـ 28 ، وقوله تعالى : « وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو » الانعام ـ 32 ، وقوله تعالى : « وما الحياة الدنيا إلامتاع الغرور » الحديد ـ 20 ، فوصف الحياة الدنيا بهذه الاوصاف فعدها متاعا والمتاع ما يقصد لغيره ، وعدها عرضا والعرض ما يعترض ثم يزول ، وعدها زينة والزينة هو الجمال الذي يضم على الشئ ليقصد الشئ لاجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع ، وعدها لهوا واللهو ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك ، وعدها لعبا واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لاحقيقية ، وعدها متاع الغرور وهو ما يغر به الانسان. ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى : « وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون » العنكبوت ـ 64 ، يبين ان الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها ، وهي الحياة التي لاموت بعدها ، قال تعالى : « آمنين لا يذوقون فيها (330)
الموت إلا الموتة الاولى » الدخان ـ 56 ، وقال تعالى : « لهم ما يشاؤون فيها ولدينا
مزيد » ق ـ 35 ، فلهم في حياتهم الآخرة أن لايعتريهم الموت ، ولايعترضهم نقص في العيش
وتنغص ، لكن الاول من الوصفين أعني الامن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له.
فالحياة الاخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا ، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات اخر كثيرة انه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الاخروية والمحيي للانسان في الآخرة ، وبيده تعالى أزمة الامور ، فأفاد ذلك ان الحياة الاخروية أيضا مملوكة لامالكة ومسخرة لا مطلقة أعني انها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها. ومن هنا يظهر ان الحياة الحقيقية يجب ان تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولاطارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته ، قال تعالى : « وتوكل على الحي الذي لا يموت » الفرقان ـ 58 ، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة ، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات. ومن هنا يعلم : ان القصر في قوله تعالى : « هو الحي لا إله إلا هو » قصر حقيقي غير إضافي ، وان حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولايعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى. فالاوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى : « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » الآية ، وكذا في قوله تعالى : « الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم » آل عمران ـ 1 ، ان يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لان التقدير ، الله الحي فالآية تفيد ان الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره. واما اسم القيوم فهو على ما قيل : فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة والقيام هو حفظ الشئ وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه ، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كل منها. وقد اثبت الله تعالى اصل القيام بامور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى : |
|||
|