|
|||
(331)
« أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » الرعد ـ 33 ، وقال تعالى وهو أشمل من الآية
السابقة ـ : « شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا
إله إلا هو العزيز الحكيم » آل عمران ـ 18 ، فأفاد انه قائم على الموجودات بالعدل
فلا يعطي ولا يمنع شيئا في الوجود ( وليس الوجود إلا الاعطاء والمنع ) الا بالعدل
بإعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين ان هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين : العزيز
الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء وبحكمته يعدل فيه.
وبالجملة لما كان تعالى هو المبدء الذي يبتدى منه وجود كل شيء وأوصافه وآثاره لامبدء سواه الا وهو ينتهي إليه ، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل ، وليس ذلك لغيره قط الا بإذنه بوجه ، فليس له تعالى الا القيام من غير ضعف وفتور ، وليس لغيره الا ان يقوم به ، فهناك حصران : حصر القيام عليه ، وحصره على القيام ، وأول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله ( الله القيوم ) ، والحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله : لا تأخذه سنة ولا نوم. وقد ظهر من هذا البيان ان اسم القيوم ام الاسماء الاضافية الثابتة له تعالى جميعا وهي الاسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدأ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها. قوله تعالى : « لا تأخذه سنة ولا نوم » ، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في اول النوم ، والنوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه ، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه. وقد أورد على قوله : سنة ولا نوم انه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي ، والترقي في الاثبات انما هو من الاضعف إلى الاقوى كقولنا : فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين ، وفلان يجود بالمئات بل بالالوف وفي النفي بالعكس كما نقول : لا يقدر فلان على حمل عشرين ولاعشرة ، ولا يجود بالالوف ولا بالمئات ، فكان ينبغي ان يقال : لا تأخذه نوم ولاسنة. والجواب : ان الترتيب المذكور لا يدور مدار الاثبات والنفي دائما كما يقال : (332)
فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصح العكس ، بل المراد هو صحة الترقي وهي مختلفة
بحسب الموارد ، ولما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا وأضر على القيومية من السنة كان
مقتضى ذلك ان ينفى تأثير السنة وأخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو اقوى منه
تأثيرا ، ويعود معنى « لا تأخذه سنة ولا نوم » إلى مثل قولنا : لا يؤثر فيه هذا العامل
الضعيف بالفتور في امره ولاما هو أقوى منه.
قوله تعالى : « له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات والارض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما ، كما ان التوحيد التام في الالوهية لا يتم الا بالقيومية ، ولذلك ألحقها بها ايضا. وهاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل ، أعني قوله تعالى : « له ما في السماوات وما في الارض » ، مع قوله تعالى : « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » ، وقوله تعالى : « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » ، مع قوله تعالى : « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ». فأما قوله تعالى : « له ما في السماوات وما في الارض » ، فقد عرفت معنى ملكه تعالى ( بالكسر ) للموجودات وملكه تعالى ( بالضم ) لها ، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الاوصاف والآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الارض ، فالجملة تدل على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار. وقد تم بقوله : القيوم لا تأخذه سنة ولانوم له ما في السماوات وما في الارض ان السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا وهو له ومنه ، فيقع من ذلك في الوهم انه إذا كان الامر على ذلك فهذه الاسباب والعلل الموجودة في العالم ما شأنها؟ وكيف يتصور فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلا لله سبحانه؟ فاجيب بأن تصرف هذه العلل والاسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف ، وبعبارة اخرى شفاعد في موارد المسببات بإذن الله سبحانه ، فإنما هي شفعاء ، والشفاعة ـ وهي بنحو توسط في ايصال الخير أو دفع الشر ، وتصرف ما (333)
من
الشفيع في امر المستشفع ـ انما تنافي السلطان الالهي والتصرف الربوبي المطلق إذا لم
ينته إلى اذن الله ، ولم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة وما
من سبب من الاسباب ولا علة من العلل الا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإذن الله ،
فتأثيره وتصرفه نحو من تأثيره وتصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود الا سلطانه ولا
قيومية الا قيوميته المطلقة عز سلطانه.
وعلى ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الاسباب والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية وهي توسط الاسباب في التكوين ، والشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى : « واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا » البقرة ـ 48 ، وذلك ان الجملة أعني قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده ، مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معا ، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة. فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى : « إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه » يونس ـ 3 ، وقوله تعالى : « الله الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع الم » السجدة ـ 4 ، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة ان حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية ، فكل سبب من الاسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لايصال نعمة الوجود إلى مسببه ، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة ، قال تعالى : « يسأله من في السماوات والارض كل يوم هو في شأن » الرحمن ـ 29 ، وقال تعالى : « وآتيكم من كل ما سئلتموه » ابراهيم ـ 34 ، وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى : « وإذا سألك عبادي عني » البقرة ـ 186. قوله تعالى : « يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء » ، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى : « بل عباد (334)
مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا
يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون » الانبياء ـ 28 ، فالظاهر ان ضمير الجمع
الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين
ايديهم وما خلفهم كناية عن كمال احاطته بهم ، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسط
المأذون فيه على انفاذ امر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه ، ولا يقدر
غيرهم ايضا ان يستفيد سوئا من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما
لم يقدره.
وإلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى : « وما نتنزل الا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا » مريم ـ 64 ، وقوله تعالى : « عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا » الجن ـ 28 ، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة والانبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده ، ولا يتنزلوا إلا بأمره ، ولا يبلغوا إلا ما يشائه. وعلى ما بيناه فالمراد « بما بين أيديهم » : ما هو حاضر مشهود معهم ، وبما خلفهم : ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم ، ويؤل المعنى إلى الشهادة والغيب. وبالجملة قوله : « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » ، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم ، ولذلك عقبه بقوله تعالى : ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ، تبيينا لتمام الاحاطة الربوبية والسلطة الالهية أي إنه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. ولا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل وهو قوله هم في المواضع الثلاث إلى الشفعاء ما قدمناه من ان الشفاعة أعم من السببية التكوينية والتشريعية ، وأن الشفعاء هم مطلق العلل والاسباب ، وذلك لان الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها انها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة. وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى : « وان من شيء ألا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الا » اسراء ـ 44 ، وقوله تعالى : « ثم (335)
استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها ولارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين »
فصلت ـ 11 ، إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة قوله : ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ، يفيد معنى تمام التدبير وكماله ، فإن من كمال التدبير أن المدبر ( بالفتح ) بما يريده المدبر ( بالكسر ) من شأنه ومستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر ( بالكسر ) تدبيره ، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا ، وفي أين نزلوا ، وإلى أين يقصد بهم. فيبين تعالى بهذه الجملة ان التدبير له وبعلمه بروابط الاشياء التي هو الجاعل لها ، وبقية الاسباب والعلل وخاصة أولوا العلم منها وإن كان لها تصرف وعلم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى وبمشيته وإرادته ، فهو من شئون العلم الالهي ، وما تصرفوا به فهو من شئون التصرف الالهي وانحاء تدبيره ، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته ألا وهو بعض التدبير. وفي قوله تعالى : « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » ، على تقدير ان يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على ان العلم كله لله ولا يوجد من العلم عند عالم إلا وهو شيء من علمه تعالى ، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة والعزة والحياة بالله تعالى ، قال تعالى : « ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ان القوة لله جميعا » البقرة ـ 165 ، وقال تعالى : « أيبتغون عندهم العزة فإن العزه لله جميعا » النساء ـ 139 ، وقال تعالى : « هو الحي لا اله الا هو » المؤمن ـ 65 ، ويمكن ان يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله : « انه هو العليم الحكيم » يوسف ـ 83 ، وقوله تعالى : « والله يعلم وانتم لا تعلمون » آل عمران ـ 66 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وفي تبديل العلم بالاحاطة في قوله : ولا يحيطون بشيء من علمه ، لطف ظاهر. قوله تعالى : « وسع كرسيه السموات والارض » ، الكرسي معروف وسمي به لتراكم بعض اجزائه بالصناعة على بعض ، وربما كني بالكرسي عن الملك فيقال : كرسي (336)
الملك ، ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته.
وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله : له ما في السموات وما في الارض الخ ، تفيد ان المراد بسعة الكرسي احاطة مقام السلطنة الالهية ، فيتعين للكرسي من المعنى : انه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السموات والارض من حيث انها مملوكة مدبرة معلومة ، فهو من مراتب العلم ، ويتعين للسعة من المعنى : انها حفظ كل شيء مما في السموات والارض بذاته وآثاره ، ولذلك ذيله بقوله : ولا يؤده حفظهما. قوله تعالى : « ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم » ، يقال : آده يؤده أودا إذا ثقل عليه واجهده واتعبه ، والظاهر ان مرجع الضمير في يؤده ، هو الكرسي وإن جاز رجوعه إليه تعالى ، ونفي الاود والتعب عن حفظ السموات والارض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفى السنة والنوم في القيومية على ما في السموات والارض. ومحصل ما تفيده الآية من المعنى : ان الله لا إله إلا هو له كل الحياة وله القيومية المطلقة من غير ضعف ولافتور ، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين : العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده وفتورا في أمره ، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السموات والارض ، وجملة : وهو العلي العظيم ، لا تخلو عن الدلالة على الحصر ، وهذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق ، فإن العلو والعظمة من الكمال وحقيقة كل كمال له تعالى ، واما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو والعظمة به تعالى دعوى ، فيسقط السموات والارض عن العلو والعظمة في قبال علوه وعظمته تعالى. ( بحث روائي )
في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال أبو ذر : يا رسول الله ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال : آية الكرسي ، ما السموات
السبع والارضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال : وان فضل العرش
على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة.
اقول : وروي صدر الرواية السيوطي في الدر المنثورعن ابن راهويه في مسنده (337)
عن
عوف بن مالك عن أبي ذر ، ورواه ايضا عن أحمد وابن الضريس والحاكم وصححه
والبيهقي في شعب الايمان عن ابي ذر.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة ، قال : قلت : يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال : « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ، آية الكرسي. اقول : وروي فيه هذا المعنى أيضا عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وفيه أيضا عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي ، قال : قال رجل : يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال : آية الكرسي : « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ، الحديث. اقول : تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الاسلام حتى في زمان حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن ائمة اهل البيت ( عليهم السلام ) وعن الصحابة. وليس إلا للاعتناء التام بها وتعظيم أمرها ، وليس إلا لشرافة ما تدل عليه من المعنى ورقته ولطفه ، وهو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله : « الله لا إله إلا هو » ، ومعنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الاسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه ، وتفصيل جريان القيومية في ما دق وجل من الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الالهية فهو من حيث انه خارج منها داخل فيها ، ولذلك ورد فيها انها اعظم آية في كتاب الله ، وهو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان ، فإن مثل قوله تعالى ، « الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى » طه ـ 8 ، وإن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله ، ولذا ورد في بعض الاخبار ان آية الكرسي سيدة آي القرآن رواها في الدر المنثور عن ابي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وورد في بعضها ان لكل شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي ، رواها العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن الصادق ( عليه السلام ). وفي أمالي الشيخ بإسناده عن ابي امامة الباهلي : انه سمع علي بن أبي طالب (338)
( عليه السلام )يقول : ما أرى رجلا أدرك عقله الاسلام أو ولد في الاسلام يبيت ليلة سوادها.
قلت : وما سوادها؟ قال : جميعها حتى يقرء هذه الآية : الله لا إله إلا هو الحي القيوم
فقرء الآية إلى قوله : ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.
قال : فلو تعلمون ما هي أو قال : ما فيها ما تركتموها على حال : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ، ولم يؤتها نبي كان قبلي ، قال علي فما بت
ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله الا قرئتها ، الحديث.
اقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن عبيد وابن ابي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس عنه ( عليه السلام ) ، ورواه أيضا عن الديلمي عنه ( عليه السلام ) ، والروايات من طرق الشيعة واهل السنة في فضلها كثيرة ، وقوله ( عليه السلام ) : ان رسول الله قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ، روي في هذا المعنى ايضا في الدر المنثور عن البخاري في تاريخه وابن الضريس عن انس ان النبي قال : أعطيت آية الكرسي من تحت العرش ، فيه اشارة إلى كون الكرسي تحت العرش ومحاطا له وسيأتي الكلام في بيانه. وفي الكافي عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : وسع كرسيه السماوات والارض ، السماوات والارض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والارض؟ فقال ( عليه السلام ) : إن كل شيء في الكرسي. اقول : وهذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب وهو بظاهره غريب ، إذ لم يرو قرائة كرسيه بالنصب والسماوات والارض بالرفع حتى يستصح بها هذا السؤال ، والظاهر انه مبني على ما يتوهمه الافهام العامية ان الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة ( أعني فوق عالم الاجسام ) منه يصدر أحكام العالم الجسماني ، فيكون السماوات والارض وسعته إذ كان موضوعا عليها كهيئة الكرسي على الارض ، فيكون معنى السؤال ان الانسب ان السماوات والارض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها؟ وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فاجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الاجسام لبعض. وفي المعاني عن حفص بن الغياث قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله عز (339)
وجل : وسع كرسيه السموات والارض ، قال : علمه.
وفيه ايضا عنه ( عليه السلام ) في الآية السموات والارض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره. أقول : ويظهر من الروايتين : ان الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره ، وفي معناهما روايات اخرى. وكذا يظهر منهما ومما سيجئ : ان في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني ان فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها امور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانية ، والتعينات الوجودية التي لوجوداتنا ، وهي في عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي إن وجودها عين العلم ، كما ان الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي إن وجودها نفس علمه تعالى بها وحضورها عنده ، ولعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى : « وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السموات ولا في الارض » يونس ـ 61. وما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله ( عليه السلام ) في الرواية ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره ، ومن المعلوم ان عدم التقدير والتحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا ، لاستحالة وجود عدد غير متناه ، وكل عدد يدخل الوجود فهو متناه ، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد ، ولو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه ايضا علما وإن كان محدودا ، بل عدم التناهي والتقدير انما هو من جهة كمال الوجود اي ان الحدود والقيود الوجودية يوجب التكثر والتميز والتمايز بين موجودات عالمنا المادي ، فتوجب انقسام الانواع بالاصناف والافراد ، والافراد بالحالات ، والاضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى : « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم » الحجر ـ 21 ، وسيجئ تمام الكلام فيه إنشاء الله تعالى. وهذه الموجودات كما انها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجودا غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها ، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا (340)
هو
الكرسي على ما يستظهر.
وربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، حيث جعل المعلوم : « ما بين أيديهم وما خلفهم » ، وهما أعني ما بين الايدي وما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادي ، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية ونحوها ، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا مقدرة وإلا لم يصح الاستثناء من الاحاطة في قوله تعالى : « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » ، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الاحاطة ببعض ما فيه فهو مرحلة العلم بالمحدودات والمقدرات من حيث هي محدودة مقدرة والله اعلم. وفي التوحيد عن حنان قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن العرش والكرسي فقال ( عليه السلام ) إن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب وصنع في القرآن صفة على حدة ، فقوله : رب العرش العظيم يقول : « رب الملك العظيم » ، وقوله : الرحمن على العرش استوى ، يقول على الملك احتوى ، وهذا علم الكيفوفية في الاشياء ، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي ، لانهما بابان من اكبر ابواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ، لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنه الاشياء كلها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والمشية وصفة الارادة وعلم الالفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لان ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسي ، فمن ذلك قال : رب العرش العظيم ، أي صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان : قلت : جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي ، قال ( عليه السلام ) : إنه صار جارها لان علم الكيفوفية فيه ، وفيه الظاهر من ابواب البداء وإنيتها وحد رتقها وفتقها ، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف ، وبمثل صرف العلماء ، وليستدلوا على صدق دعواهما لانه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز. إقول : قوله ( عليه السلام ) : لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب ، قد عرفت الوجه فيه إجمالا ، فمرتبه العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود (341)
مما
لا قدر له ولا حد ، وسيجئ شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى : « إن ربكم
الله الذي خلق السماوات » الاعراف ـ 54 ، وقوله ( عليه السلام ) :
وبمثل صرف العلماء ، إشارة إلى ان هذه الالفاظ من العرش والكرسي ونظائرها امثال
مصرفة مضروبة للناس وما يعقلها إلا العالمون.
وفي الاحتجاج عن الصادق ( عليه السلام ) : في حديث : كل شيء خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه اعظم من ان يحيط به الكرسي. اقول : وقد تقدم توضيح معناه ، وهو الموافق لسائر الروايات ، فما وقع في بعض الاخبار ان العرش هو العلم الذي اطلع الله عليه انبيائه ورسله ، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه احدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق ( عليه السلام ) كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسي ، أو انه مطروح كالرواية المنسوبة إلى زينب العطارة. وفي تفسير العياشي عن علي ( عليه السلام ) قال : ان السماء والارض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي ، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله. اقول : ورواه الصدوق عن الاصبغ بن نباتة عنه ( عليه السلام ) ، ولم يرو عنهم ( عليهم السلام ) للكرسي حملة الا في هذه الرواية ، بل الاخبار انما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب الله تعالى كما قال : « الذين يحملون العرش ومن حوله الآية » المؤمن ـ 7 ، وقال تعالى ، « يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية » الحاقة ـ 17 ، ويمكن ان يصحح الخبر بأن الكرسي ـ كما سيجئ بيانه ـ يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشئ بباطنه. وبذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر. وفي تفسير العياشي ايضا عن معوية بن عمار عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت : « من ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه » قال : نحن أولئك الشافعون. اقول : ورواه البرقي ايضا في المحاسن ، « وقد عرفت ان الشفاعة » في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينية والتشريعية معا ، فتشمل شفاعتهم ( عليهم السلام ) ، فالرواية من باب الجري. (342)
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ـ 256.
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت
يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ـ 257.
( بيان )
قوله تعالى : « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى » ، الاكراه هو الاجبار
والحمل على الفعل من غير رضى ، والرشد بالضم والضمتين : إصابة وجه الامر ومحجة الطريق
ويقابله الغى ، فهما أعم من الهدى والضلال ، فإنهما إصابة الطريق الموصل وعدمها على
ما قيل ، والظاهر ان استعمال الرشد في اصابة محجة الطريق من باب الانطباق على
المصداق ، فإن اصابة وجه الامر من سالك الطريق ان يركب المحجة وسواء السبيل ، فلزومه
الطريق من مصاديق اصابة وجه الامر ، فالحق ان معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان
ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر وهو ظاهر ، قال تعالى : « فإن آنستم منهم
رشدا » النساء ـ 6 ، وقال تعالى : « ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل » الانبياء ـ 51 ،
وكذلك القول في الغي والضلال ، ولذلك ذكرنا سابقا : ان الضلال هو العدول عن الطريق مع
ذكر الغاية والمقصد ، والغى هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الانسان الغوي ماذا
يريد وماذا يقصد.
وفي قوله تعالى : « لا اكراه في الدين » ، نفى الدين الاجباري ، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات ، والاعتقاد والايمان من الامور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والاجبار ، فإن الاكراه انما يؤثر في (343)
الاعمال الظاهرية والافعال والحركات البدنية المادية ، وأما الاعتقاد القلبي فله علل
وأسباب اخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والادراك ، ومن المحال أن ينتج الجهل علما ، أو
تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا ، فقوله : « لا اكراه في الدين » ، ان كان قضية
اخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الاكراه على الدين والاعتقاد ،
وان كان حكما انشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله : قد تبين الرشد من
الغي ، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والايمان كرها ، وهو نهي متك على حقيقة
تكوينية ، وهي التي مر بيانها أن الاكراه انما يعمل ويؤثر في مرحلة الافعال البدنية
دون الاعتقادات القلبية.
وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله : « قد تبين الرشد من الغي » ، وهو في مقام التعليل فإن الاكراه والاجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الامور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم ، أو لاسباب وجهات اخرى ، فيتسبب الحاكم في حكمه بالاكراه أو الامر بالتقليد ونحوه ، وأما الامور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها ، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الاكراه ، بل للانسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب ، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الالهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه ، والغي في تركه والرغبة عنه ، وعلى هذا لا موجب لان يكره أحد أحدا على الدين. وهذه احدى الآيات الدالة على أن الاسلام لم يبتن على السيف والدم ، ولم يفت بالاكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الاسلام دين السيف واستدلوا عليه : بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين. وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الاسلام ليس لغاية احراز التقدم وبسط الدين بالقوة والاكراه ، بل لاحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد ، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصرفلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال ، فالاشكال ناش عن عدم التدبر. ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله : « لاإكراه في الدين » غير منسوخة بآية السيف (344)
كما
ذكره بعضهم.
ومن الشواهد على أن الاية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله : « قد تبين الرشد من الغي » ، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم ، فإن الحكم باق ببقاء سببه ، ومعلوم أن « تبين الرشد من الغي » في أمر الاسلام امر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف ، فإن قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلا ، أو قوله : « وقاتلوا في سبيل الله » الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا « وبعبارة اخرى » الآية تعلل قوله : « لا اكراه في الدين » بظهور الحق ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله ، فهو ثابت على كل حال ، فهو غير منسوخ. قوله تعالى : « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى » الخ ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحد ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت ، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالاصنام والشياطين والجن وائمة الضلال من الانسان وكل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه ، ويستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والتثنية والجمع. وإنما قدم الكفر على الايمان في قوله « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله » ، ليوافق الترتيب الذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني « الاستمساك بالعروة الوثقى » ، لان الاستمساك بشيء إنما يكون بترك كل شيء والاخذ بالعروة ، فهناك ترك ثم أخذ ، فقدم الكفر وهو ترك على الايمان وهو اخذ ليوافق ذلك ، والاستمساك هو الاخذ والامساك بشدة ، والعروة : ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الاناء ، والعروة هي كل ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه ، وأصل الباب التعلق يقال : عراه واعتريه اي تعلق به. والكلام أعني قوله : فقد استمسك بالعروة الوثقى ، موضوع على الاستعارة للدلالة على أن الايمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الاناء بالنسبة إلى الاناء وما فيه ، فكما لا يكون الاخذ أخذا مطمئنا حتى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقية لا يستقر (345)
أمرها ولا يرجى نيلها إلا أن يؤمن الانسان بالله ويكفر بالطاغوت.
قوله تعالى : « لا انفصام لها والله سميع عليم » ، الانفصام : الانفصام والانكسار ، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكد معنى العروة الوثقى ، ثم عقبه بقوله : والله سميع عليم ، لكون الايمان والكفر متعلقا بالقلب واللسان. قوله تعالى : « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم » إلى آخر الآية ، قد مر شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات ، وقد بينا هناك أن هذا الاخراج وما يشاكله من المعاني امور حقيقية غير مجازية خلافا لما توهمه كثير من المفسرين وسائر الباحثين أنها معان مجازية يراد بها الاعمال الظاهرية من الحركات والسكنات البدنية ، وما يترتب عليها من الغايات الحسنة والسيئة ، فالنور مثلا هو الاعتقاد الحق بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشك واضطراب القلب ، والنور هو صالح العمل من حيث ان رشده بين ، وأثره في السعادة جلي ، كما ان النور الحقيقي على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل ، كل ذلك بالاستعارة. والاخراج من الظلمة إلى النور الذي ينسب إلى الله تعالى كالاخراج من النور إلى الظلمات الذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد ، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد ، لا فعل من الله تعالى وغيره كالاخراج مثلا ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما ، هذا ما ذكره قوم من المفسرين والباحثين. وذكر آخرون : ان الله يفعل فعلا كالاخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة ، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا ، غير أنا نؤمن بحسب ما أخبر به الله ـ وهو يقول الحق ـ بأن هذه الامور موجودة وأنها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبرا ، ولازم هذا القول أيضا كالقول السابق أن يكون هذه الالفاظ أعني أمثال النور والظلمة والاخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة ، وإنما الفرق بين القولين أن مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الاول نفس أعمالنا وعقائدنا ، وعلى القول الثاني امور خارجة عن اعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها ، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها. والقولان جميعا خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرط ، والحق في |
|||
|