|
|||
(376)
متصلة بأمر الله الذي هو ان يقول لشئ أرادة : كن فيكون ، كمثل أقوالنا غير المتصلة
إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون ، فلا تأثير جزافي في
الوجود.
واما الثاني : فقوله كيف تحيي الموتى تدل على ان لكثرة الاموات وتعددها دخلا في السؤال ، وليس إلا ان الاجساد بموتها وتبدد أجزائها وتغير صورها وتحول أحوالها تفقد حالة التميز والارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء والبوار ، وتصير كالاحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية ولا محاط في الواقع. وهذا هو الذي أورده فرعون على موسى ( عليه السلام ) وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله : « قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » طه ـ 51. وبالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير ( ولعل اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقل زمانا ) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها ، ويعرفها معرفة تامة أولا ، ثم يقتلها ويخلط أجزائها خلطادقيقا ثم يجعل ذلك ابعاضا ، وكل بعض منها على جبل لتفقد التميز والتشخص ، وتزول المعرفة ، ثم يدعوهن يأتينه سعيا ، فإنه يشاهد حينئذ ان التميز والتصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها ، أي إن أجسادها تابعة لانفسها لا بالعكس ، فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس ، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص ، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل وإلى أي حال تحول الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام ، والله سبحانه إذا أوجد حيا من الاحياء ، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل ولا مانع ، وبذلك يشعر قوله تعالى : « ثم ادعهن يأتينك سعيا أي مسرعات مستعجلات » وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى : « وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي (377)
خلق
جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم
ترجعون » السجدة ـ 11 ، وقد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس ، وسيأتي
تفصيل الكلام في محله إنشاء الله.
فقوله تعالى : « فخذ أربعة من الطير انما امر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعاده الحياة إليها ولا ينكرها » ، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميز أولا وزوالهما ثانيا ، وقوله : فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا أي اذبحهن وبدد أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الاجزاء وهي غير متميزة ، وهذا من الشواهد على ان القصة انما وقعت بعد مهاجرة ابراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها ، وقوله ثم ادعهن ، أي ادع الطيور يا طاووس ويافلان ويافلان ، ويمكن ان يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير هن الراجعة إلى الطيور من قوله : ادعهن ، فإن الدعوة لو كانت لاجزاء الطيور دون أنفسها كان الانسب ان يقال : ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه ( عليه السلام ) واللفظ المستعمل في البعيد خاصة هوالنداء دون الدعاء ، وقوله : يأتينك سعيا ، أي يتجسدن والتصفن بالاتيان والاسراع اليك. قوله تعالى : « واعلم ان الله عزيز حكيم » ، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه ، حكيم لا يفعل شيئا الا من طريقه اللائق به ، فيوجد الاجساد بإحضار الارواح وايجادها دون العكس. وفي قوله تعالى : واعلم ان الخ ، دون ان يقال ان الله الخ ، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان ابراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى حقيقة معنى الاسمين : العزيز الحكيم ، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما. ( بحث روائي )
في الدر المنثور في قوله تعالى : ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه
الآية : اخرج الطيالسي وابن ابي حاتم عن علي بن ابي طالب قال : الذي حاج ابراهيم في
ربه هو نمرود بن كنعان.
(378)
وفي
تفسير البرهان : أبو علي الطبرسي قال : اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر
الاصنام قبل القائه في النار ، عن مقاتل ، وقيل بعد القائه في النار وجعلها عليه بردا
وسلاما ، عن الصادق ( عليه السلام ).
اقول : الآية وان لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الالقاء في النار ، فان قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته اباه وقومه وكسره الاصنام تعطي ان اول ما لاقى ابراهيم ( عليه السلام ) نمرود وكان حين رفع امره إليه في قضية كسر الاصنام مجرما عندهم ، فحكم عليه بالاحراق ، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في امر ربه : أهو الله أو نمرود؟ ولو حاجه نمرود حينئذ لحاجه في امر الله وامر الاصنام دون امر الله وامر نفسه؟ وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى : أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها الآية ان صاحب القصة أرميا النبي وفي عدة منها : انها عزير ، الا انها آحاد غير واجبة القبول ، وفي اسانيدها بعض الضعف ، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات ، والقصة غير مذكورة في التوراة ، والتي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها. وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : واذ قال ابراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية في حديث قال ( عليه السلام ) : وهذه آية متشابهة ، ومعناها انه سأل عن الكيفية والكيفية من فعل الله عز وجل ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب ، ولا عرض في توحيده نقص ، الحديث. اقول : وقد اتضح معنى الحديث مما مر. وفي تفسير العياشي عن علي بن اسباط : ان أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) سئل عن قول الله : قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أكان في قلبه شك قال لا ولكن اراد من الله الزيادة ، الحديث. اقول : وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالح ( عليهما السلام ) وقد مر بيانه. وفي تفسير القمي عن ابيه عن ابن ابي أيوب عن ابي بصير عن (379)
الصادق ( عليه السلام ) ،
قال : ان إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر تأكاها سباع البحر ،
ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا ، فتعجب إبراهيم فقال : يا رب أرني كيف
تحيي الموتى؟ فقال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال : فخذ اربعة من الطير
فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز
حكيم ، فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب ، فقال الله عز وجل : فصرهن اليك
أي قطعهن ثم اخلط لحمهن ، وفرقهن على عشرة جبال ، ثم دعاهن فقال : احيى بأذن الله
فكانت تجتمع وتتألف لحم واحد وعظمه إلى رأسه ، فطارت إلى ابراهيم ، فعند ذلك قال
ابراهيم ان الله عزيز حكيم.
أقول : وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن الصادق ( عليه السلام ) ، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس. قوله : ان ابراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال : يا رب أرني الخ ، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال وهى تفرق اجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها وانتقالها إلى امكنة وحالات متنوعة لا يبقى معها من الاصل شئ. فإن قلت : ظاهر الرواية : ان الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول ، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض ، وأكل بعضها بعضا ، ثم فرعت على ذلك تعجب ابراهيم وسؤاله. قلت : الشبهة شبهتان ـ احديهما ـ تفرق أجزاء الجسد وفناء اصلها من الصور والاعراض وبالجملة عدم بقائها حتى تتميز وتركبها الحياة ـ وثانيتهما ـ صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة احياء الحيوانين ببدنيهما تأمين معا لان المفروض ان بعض بدن احدهما بعينه بعض لبدن الآخر ، فكل واحد منهما اعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الاعادة ، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول. وما أجاب الله سبحانه به ـ وهو تبعية البدن للروح ـ وان كان وافيا لدفع الشبهتين جميعا ، الا ان الذي امر به ابراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل والمأكول ، وهو أكل بعض الحيوان بعضا ، بل انما تشتمل على تفرق الاجزاء واختلاطها وتغير صورها وحالاتها ، وهذه مادة الشبهة الاولى ، فالآية انما تتعرض لدفعها وان (380)
كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اجيب به في الآية كما مر ، وما اشتملت عليه
الرواية من اكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.
قوله ( عليه السلام ) فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب ، وفي بعض الروايات ان الطيور كانت هي النسر والبط والطاووس والديك ، رواه الصدوق في العيون عن الرضا ( عليه السلام ) ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد ، وفي بعضها انها الهدهد والصرد والطاووس والغراب ، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق ( عليه السلام ) وفي بعضها : انها النعامة والطاووس والوزة والديك ، رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر ( عليه السلام ) ونقل عن ابن عباس ، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس ايضا انها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة ، والذي تشترك فيه جميع الروايات والا قوال : الطاووس. قوله ( عليه السلام ) : وفرقهن على عشرة جبال ، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الاخبار المأثورة عن ائمة اهل البيت وقيل انها كانت اربعة وقيل سبعة. وفي العيون مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك : ان الانبياء معصومون؟ قال : بلى فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله ان قال له فأخبرني عن قول الله : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ـ ولكن ليطمئن قلبي ، قال الرضا : ان الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى ابراهيم : اني متخذ من عبادي خليلا ان سألني احياء الموتى اجبته فوقع في قلب ابراهيم انه ذلك الخليل فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمأن قلبي بالخلة ، الحديث. اقول : وقد تقدم في اخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم وفي هذه الرواية التي رواها عن الرضا ( عليه السلام ) فارجع. واعلم : ان الرواية لا تخلو عن دلالة ما على ان مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء ، واللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة ، والخليل انما يسمى خليلا لان الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه ، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء (381)
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة
حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ـ 261.
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم
عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ 262.
قول
معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ـ 263.
يا
أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا
يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا
يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرينـ 264.
ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة
أصابها وابل فاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصيرـ 265.
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل
الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله
لكم الآيات لعلكم تتفكرون ـ 266.
يا
أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد ـ 267.
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله
(382)
واسع عليم ـ 268.
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلاأولوا الالباب ـ 269.
وما
أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار ـ 270.
إن
تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من
سيئاتكم والله بما تعملون خبير ـ 271.
ليس
عليك هديهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا
ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ـ 272.
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء
من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به
عليم ـ 273.
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف
عليهم ولا هم يحزنون ـ 274.
( بيان )
سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان امر الانفاق ، ورجوع مضامينها واغراضها
بعضها إلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة ، وهي تحث المؤمنين على الانفاق في سبيل
الله تعالى ، فتضرب اولا مثلا لزيادته ونموه عند الله سبحانه : واحد بسبعمائة ، وربما
زاد على ذلك بإذن الله ، وثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال وتنهى عن
الرياء في الانفاق وتضرب مثلا للانفاق ريائا لا لوجه الله ، وانه لا ينمو نمائا ولا
يثمر أثرا ، وتنهي عن الانفاق بالمن والاذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم اجره ، ثم
تأمر بأن يكون الانفاق من طيب المال لامن خبيثه بخلا وشحا ، ثم تعين
(383)
المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله ، ثم تذكر ما
لهذا الانفاق من عظيم الاجر عند الله.
وبالجملة الآيات تدعو إلى الانفاق ، وتبين أولا وجهه وغرضه وهو ان يكون لله لا للناس ، وثانيا صورة عمله وكيفيته وهو ان لا يتعقبه المن والاذى ، وثالثا وصف مال الانفاق وهو ان يكون طيبا لا خبيثا ، ورابعا نعت مورد الانفاق وهو ان يكون فقيرا احصر في سبيل الله ، وخامسا ما له من عظيم الاجر عاجلا وآجلا ( كلام في الانفاق )
الانفاق من أعظم ما يهتم بأمره الاسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسل إليه
بأنحاء التوسل ايجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية
والانفاقات الواجبة والصدقات المندوبة ، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا
والهبة وغير ذلك.
وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم ، ليقرب افقهم من افق اهل النعمة والثروة ، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله ايدي النمط الاوسط من الناس ، بالنهي عن الاسراف والتبذير ونحو ذلك. وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الا جزاء متشابهة الابعاض ، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة ، وتميت الارادات المتضادة واضغان القلوب ومنابت الاحقاد ، فإن القرآن يرى ان شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها ، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الانسان في العاجل والاجل ، ويعيش به الانسان في معارف حقة ، واخلاق فاضلة ، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا ، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة. ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها ، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة ، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات (384)
المالية والثروة والقنية ، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين
وعرق الجبين ، فإنما المؤمنون إخوة ، والارض لله ، والمال ماله.
وهذه حقيقة اثبتت السيرة النبوية على سائرها افضل التحية صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته ( عليه السلام ) ونفوذ امره. وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) إذ يقول : وقد اصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا ، والشر فيه إلا اقبالا ، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا ، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته ـ وأمكنت فريسته ، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن باذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ ( نهج البلاغة ). وقد كشف توالي الايام عن صدق القرآن في نظريته هذه ـ وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالانفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال ـ حيث ان الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الارض ، والافراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية واستيفاء الهوسات النفسانية ، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة ، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على ابواب اولي القوة والثروة ، ولم يبق بأيدي النمط الاسفل الا الحرمان ، ولم يزل النمط الاعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الاكثرين وهم سواد الناس ، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين ، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر ، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين ، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين ، والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد ، ونشبت الحرب العالمية الكبرى ، وظهرت الشيوعية ، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الانساني ، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع. ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح ابواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق (385)
ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم ، وقد كان جنينا أيام
نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الايام.
وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال : « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه واقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى ان قال : فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون ـ إلى أن قال ـ : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبه الذين من قبل كان اكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل ان يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون الآيات » الروم ـ 30 ـ 43 ، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والاسراء والانبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن ، سيأتي بيانها إنشاء الله. وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الانفاق من الحث الشديد والتأكيد البالغ في أمره. قوله تعالى : « مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة » الخ ، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لاجله ، فإن الكلمة في الآية مطلقة ، وان كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله ، وكانت كلمة ، في سبيل الله ، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات ، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر. وقد ذكروا أن قوله تعالى : كمثل حبة أنبتت الخ ، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت الخ فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي إنفق في سبيل (386)
الله لا مثل من إنفق وهو ظاهر.
وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الامثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى : « ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلادعائا وندائا » البقرة ـ 171 ، فإنه مثل من يدعو الكفار لامثل الكفار ، وقوله تعالى : « إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه الآية » يونس ـ 24 ، وقوله تعالى : « مثل نوره كمشكوة » النور ـ 35 ، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية : فمثله كمثل صفوان الآية : وقوله تعالى : « مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة » الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة. وهذه الامثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للايجاز. توضيحه : أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لاخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم : لا ناقة لي ولا جمل ، وقولهم : في الصيف ضيعت اللبن من الامثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح ، ولذا قيل : إن الامثال لا تتغير ، وكقولنا : « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة » ، وهي قصة مفروضة خيالية. والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى : « ومثل كلمه خبيثة كشجرة خبيثة الآية » إبراهيم ـ 26 ، وقوله تعالى : « مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا » الجمعة ـ 5 ، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل ، وإنما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الاخير ( مثال الانفاق والحبة ) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمأة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة. وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه ، (387)
وما
كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام
القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك ، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا
ووجد انه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه ، فهو هو بوجه وليس به بوجه ، فهذا من
الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.
قوله تعالى : « أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة » ، السنبل معروف وهو على فنعل ، قيل الاصل في معنى مادته الستر سمي به لانه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الاغلفد. ومن اسخف الاشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبة ، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في الخارج فالامثال التخيلية اكثر من ان تعد وتحصى ، على ان اشتمال السنبلة على مأة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمأة حبة ليس بعزيز الوجود. قوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى : « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة » البقرة ـ 245 ، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معين. وقيل : إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدل عليه الآية ، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل ، وحق الكلام فيه حينئذ ان يصدر بإن كقوله تعالى : « الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس » المؤمن ـ 61 ، وأمثال ذلك. ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده ، فالمنفق بشيء من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائا أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلا ، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الانساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الاسماء والاشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة ، مرتبطة من حيث الاثر والفائدة ، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة ، وعى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها ، وخسرانها في أغراضها (388)
فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا ، لكن الخلقة إنما جهز
الانسان بالبصر ليميز به الاشياء ضوئا ولونا وقربا وبعدا فتتناول اليد ما يجب أن
يجلبه الانسان لنفسه ، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه ، فإذا سقطت اليد عن التأثير
وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر اعضائه فيقاسي أولا كدا
وتعبا لا يتحمل عادة ، وينقص من أفعال سائر الاعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع
العضو الساقط عن التأثير ، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الاعضاء
الاخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع ، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته
من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المآت والالوف بما يورث من إصلاح حال الغير ،
ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه ، وإيجاد المحبة في قلبه ، وحسن
الذكر في لسانه ، والنشاط في عمله ، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا
محالة ، ولا سيما إذا كان الانفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك ،
فهذا حال الانفاق.
وإذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلف ، فإن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره ، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه ، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه ، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا ، وربما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى ، لكن الانفاق الذي لايراد به إلا وجه الله ولا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل ولا يتعقبه إلا الخير قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى الخ الاتباع اللحوق والالحاق ، قال تعالى : « فأتبعوهم مشرقين » الشعراء ـ 60 ، أي لحقوهم ، وقال تعالى : « فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة » القصص ـ 42 ، أي ألحقناهم. والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه : أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك ، والاصل في معناه على ما قيل القطع ، ومنه قوله تعالى : « لهم أجر غير ممنون » فصلت ـ 8 ، أي غير مقطوع ، والاذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير ، والخوف توقع الضرر ، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع. (389)
قوله تعالى : « قول معروف ومغفرة خير من صدقة الخ المعروف من القول ما لا ينكره
الناس بحسب العادة » ، ويختلف باختلاف الموارد ، والاصل في معنى المغفرة هو الستر ،
والغنى مقابل الحاجة والفقر ، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.
وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسؤول عنه ، والستر والصفح إذا شفع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى ، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه ، وتأثره عما يسوئه من السؤال ، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن ، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله ، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به ، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة ، ولا يغضب عند كل جهالة ، وهذا معنى ختم الآية بقوله : « والله غني حليم ». قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم » الخ تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن والاذى ، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات ، ولا دلالة في الآية على غير المن والاذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدم إشباع الكلام في الحبط. قوله تعالى : « كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر » ، لما كان الخطاب للمؤمنين ، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لانه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والاذى ، بل انما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن والاذى بالمرائي في بطلان الصدقة ، مع أن عمل المرائي باطل من رأس وعمل المان والمؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان. واتحاد سياق الافعال في قوله : ينفق ماله ، وقوله : ولا يؤمن من دون أن يقال : ولم يؤمن يدل على أن المراد من عدم ايمان المرائي في الانفاق بالله واليوم الآخر عدم ايمانه بدعوة الانفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه ، ويعد عليه جزيل الثواب ، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه ، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله ، وأحب واختار جزيل الثواب ، ولم يقصد به رئاء الناس ، فليس المراد من عدم ايمان المرائي عدم ايمانه بالله سبحانه رأسا. (390)
ويظهر من الآية : « ان الرياء في عمل يستلزم عدم الايمان بالله واليوم الآخر فيه » ،
قوله تعالى : « فمثله كمثل صفوان عليه تراب إلى آخر » الآية ، الضمير في قوله : فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له ، والصفوان والصفا الحجر الاملس وكذا الصلد ، والوابل : المطر الغزير الشديد الوقع. والضمير في قوله : لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئائا لانه في معنى الجمع ، والجملة تبين وجه الشبه وهو الجامع بين المشبه والمشبه به ، وقوله تعالى : « والله لا يهدي القوم الكافرين » بيان للحكم بوجه عام وهو ان المرائي في ريائه من مصاديق الكافر ، « والله لا يهدي القوم الكافرين » ، ولذلك أفاد معنى التعليل. وخلاصة معنى المثل : أن حال المرائي في إنفاقه رئائا وفي ترتب الثواب عليه كحال الحجر الاملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر ، فإن المطر وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الارض واخضر ارها وتزينها بزينة النبات ، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء ، ولا يتربى فيه بذر لنبات ، فالوابل وإن كان من أظهر اسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد. وهذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإن كان العمل كالانفاق في سبيل الله من الاسباب البارزة لترتب الثواب ، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة. وقد ظهر من الآية : أن قبول العمل يحتاج إلى نية الاخلاص وقصد وجه الله ، وقد روى الفريقان عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنه قال : إنما الاعمال بالنيات. قوله تعالى : « مثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من انفسهم » ، ابتغاء المرضات هو طلب الرضاء ، ويعود إلى إرادة وجه الله ، فإن وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به ، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الذي امره بشيء واراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله ، فإن الآمر يستقبل المأمور اولا بالامر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه ، فمرضات الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه ، فابتغاء مرضاة |
|||
|