|
|||
(391)
الله هو ارادة وجهه عز وجل.
واما قوله : وتثبيتا من انفسهم فقد قيل : إن المراد التصديق واليقين. وقيل : هو التثبت اي يتثبتون اين يضعون اموالهم ، وقيل : هو التثبت في الانفاق فإن كان لله امضى ، وان كان خالطه شيء من الرياء امسك ، وقيل : التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى ، وقيل : هو تمكين النفس في منازل الايمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وانت خبير بأن شيئا من الاقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف. والذي ينبغي ان يقال ـ والله العالم ـ في المقام : هو ان الله سبحانه لما اطلق القول اولا في مدح الانفاق في سبيل الله ، وان له عند الله عظيم الاجر اعترضه ان استثنى منه نوعين من الانفاق لا يرتضيهما الله سبحانه ، ولا يترتب عليهما الثواب ، وهما الانفاق ريائا الموجب لعدم صحة العمل من رأس والانفاق الذي يتبعه من أو اذى فإنه يبطل بهما وان انعقد اولا صحيحا ، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين الا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس ، أو لزوال النفس عن هذه النية اعني ابتغاء المرضات ثانيا بعد ما كانت عليها اولا ، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الانفاق الخالصة بعد استثناء المرائين واهل المن والاذى ، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون انفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير ان يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده. ومن هنا يظهر ان المراد بابتغاء مرضاة الله ان لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله ، وبقوله تثبيتا من انفسهم تثبيت الانسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة ، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتا تميز وكلمة من نشوية وقوله انفسهم في معنى الفاعل ، وما في معنى المفعول مقدر. والتقدير تثبيتا من انفسهم لانفسهم ، أو مفعول مطلق لفعل من مادته. قوله تعالى : « كمثل جنة بربوة اصابها وابل » إلى آخر الآية ، الاصل في مادة ربا الزيادة ، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الارض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها ، والاكل بضمتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة ، والطل اضعف المطر القليل الاثر. والغرض من المثل ان الانفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن اثرها الحسن (392)
البتة ، فإن العناية الالهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وان
كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص ، واختلاف وزن الاعمال
باختلافها ، كما ان الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون ان تؤتي
أكلها ايتائا جيدا البتة وإن كان ايتائها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل
عليه من وابل وطل.
ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله : « والله بما تعملون بصير » أي لا يشتبه عليه امر الثواب ، ولا يختلط عليه ثواب الاعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا. قوله تعالى : « أيود أحدكم ان تكون له جنة من نخيل واعناب » الخ ، الود هو الحب وفيه معنى التمني ، والجنة : الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لانها تجن الارض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه ، ولذلك صح ان يقال : تجري من تحتها الانهار ، ولو كانت هي الارض بما لها من الشجر مثلا لم يصح ذلك لافادته خلاف المقصود ، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الارض المعمورة : « ربوة ذات قرار ومعين » المؤمنون ـ 50 ، وكرر في كلامه قوله : « جنات تجري من تحتها الانهار فجعل المعين » ( وهو الماء ) فيها لاجاريا تحتها. ومن في قوله : من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب ، فإن الجنة والبستان وما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنة العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى ، ولذلك قال تعالى ثانيا : له فيها من كل الثمرات. والكبر كبر السن وهو الشيخوخة ، والذرية الاولاد ، والضعفاء جمع الضعيف ، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الاسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة ، فإن صاحب الجنة لو فرض شابا قويا لامكنه ان يستريح إلى قوة يمينه لو أصيبت جنته بمصيبة ، ولو فرض شيخا هرما من غير ذرية ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لانه لا يرى لنفسه إلا أياما قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها ، ولو فرض ذا كبر وله اولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة امكنهم ان يقتاتوا بما يكتسبونه ، وان يستغنوا عنها بوجه ! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرية (393)
الضعفاء ، واحترقت الجنة انقطعت الاسباب عنهم عند ذلك ، فلا صاحب الجنة يمكنه ان يعيد
لنفسه الشباب والقوة أو الايام الخالية حتى يهيئ لنفسه نظير ما كان قد هيأها ، ولا
لذريته قوة على ذلك ، ولا لهم رجاء ان ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من
النضارة والاثمار.
والاعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء والارض كما يلتف الثوب على نفسه عند العصر. وهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى اعادة العمل الباطل إلى حال صحته واستقامته ، وانطباق المثل على الممثل ظاهر ، ورجا منهم التفكر لان امثال هذه الافاعيل المفسدة للاعمال انما تصدر من الناس ومعهم حالات نفسانية كحب المال والجاه والكبر والعجب والشح ، لا تدع للانسان مجال التثبت والتفكر وتميز النافع من الضار ، ولو تفكروا لتبصروا. قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم » الخ ، التيمم هو القصد والتعمد ، والخبيث ضد الطيب ، وقوله : منه ، متعلق بالخبيث ، وقوله : تنفقون حال من فاعل لاتيمموا ، وقوله : ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون ، وعامله الفعل ، وقوله ان تغمضوا فيه في تأويل المصدر ، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إلا لاغماضكم فيه ، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إلا بمصاحبة الاغماض. ومعنى الآية ظاهر ، وإنما بين تعالى كيفية مال الانفاق ، وانه ينبغي ان يكون من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض ، فإنه لا يتصف بوصف الجود والسخاء ، بل يتصور بصورة التخلص ، فلا يفيد حبا للصنيعة والمعروف ولا كمالا للنفس ، ولذلك ختمها بقوله : واعلموا ان الله غني حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال ، أو انه غني محمود لا ينبغي ان تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله. قوله تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء إقامة للحجة على ان اختيار خبيث المال للانفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم ، ففي النهى مصلحة أمرهم كما ان في المنهى عنه مفسدة لهم ، وليس إمساكهم عن انفاق طيب (394)
المال وبذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الاقدام
إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه ، وهذا من تسويل
الشيطان يخوف أوليائه من الفقر ، مع ان البذل وذهاب المال والانفاق في سبيل الله
وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر ، مع ان الذي
يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال ، قال تعالى : « وانه هو أغنى وأقنى » النجم ـ
48.
وبالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه بقوله : الشيطان يعدكم الفقر ، غير انه وضع السبب موضع المسبب ، أعني انه وضع وعد الشيطان موضع خوف انفسهم ليدل على انه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا يأمر إلا بالباطل والضلال إما ابتدائا ومن غير واسطة ، وإما بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه انه حق. ولما كان من الممكن ان يتوهم ان هذا الخوف حق وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله : الشيطان يعدكم الفقر بقوله : ويأمركم بالفحشاء أولا ، فإن هذا الامساك والتثاقل منهم يهيئ في نفوسهم ملكة الامساك وسجية البخل ، فيؤدي إلى رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم ، ويؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الاعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الاعراض وكل جناية وفحشاء ، قال تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون إلى ان قال : « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم » التوبة ـ 79. ثم بإتباعه بقوله : « والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم » ثانيا ، فإن الله قد بين للمؤمنين : ان هناك حقا وضلالا لا ثالث لهما ، وان الحق وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه ، وان الضلال من الشيطان ، قال تعالى : « فماذا بعد الحق الا الضلال » يونس ـ 32 ، وقال تعالى : « قل الله يهدي للحق » يونس ـ 35 ، وقال تعالى في الشيطان : « انه عدو مضل مبين » القصص ـ 15 ، والآيات جميعا مكية ، وبالجملة نبه تعالى بقوله : والله يعدكم ، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف (395)
ضلال من الفكر فإن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة انما هما في
البذل من طيبات المال.
فقوله تعالى : والله يعدكم الخ ، نظير قوله : الشيطان يعدكم الخ ، من قبيل وضع السبب موضع المسبب ، وفيه القاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان ، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو اصلح لبالهم منهما. فحاصل حجة الآية : ان اختياركم الخبيث على الطيب انما هو لخوف الفقر ، والجهل بما يستتبعه هذا الانفاق ، أما خوف الفقر فهو القاء ، شيطاني ، ولا يريد الشيطان بكم الا الضلال والفحشاء فلا يجوز ان تتبعوه ، واما مايستتبعه هذا الانفاق فهو الزيادة والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة ، وهو استتباع بالحق لان الذي يعدكم استتباع الانفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق ، وهو واسع يسعه ان يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئا ولا حالا من شيء فوعده وعد عن علم. قوله تعالى : يؤتي الحكمة من يشاء ، الايتاء هو الاعطاء ، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الاحكام والاتقان أو نوع من الامر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور ، وغلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة. والجملة تدل على ان البيان الذي بين الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الاثر الصالح في حقيقة حياة الانسان هو من الحكمة ، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الانسان كالمعارف الحقة الالهية في المبدأ والمعاد ، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الانسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية. قوله تعالى : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، المعنى ظاهر ، وقد أبهم فاعل الايتاء مع ان الجملة السابقة عليه تدل على انه الله تبارك وتعالى ليدل الكلام على ان الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير ، لامن جهة انتساب اتيانه إليه تعالى ، فإن مجرد انتساب الاتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال ، (396)
قال
تعالى في قارون « وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إلى آخر
الآيات » القصص ـ 76 ، وانما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقا ، مع ما عليه
الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الامر لان الامر مختوم بعناية الله وتوفيقه ، وامر
السعادة مراعي بالعاقبة والخاتمة.
قوله تعالى : « وما يذكر إلا أولوا الالباب » ، اللب هو العقل لانه في الانسان بمنزلة اللب من القشر ، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن ، وكأن لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الاسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنما استعمل منه الافعال مثل يعقلون. والتذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها ، أو من الشئ إلى نتائجها ، والآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر ، وأن التذكر يتوقف على العقل ، فلا حكمة لمن لا عقل له.وقد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الادراك المستعملة في القرآن الكريم. قوله تعالى : « وما انفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه » ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه ، ففيه إيماء إلى التهديد ، ويؤكده قوله تعالى : وما للظالمين من أنصار. وفي هذه الجملة أعني قوله : وما للظالمين من أنصار ، دلالة اولا : على أن المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الامساك عن الانفاق عليهم ، وحبس حقوقهم المالية ، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإن في مطلق المعصية أنصارا ومكفرات وشفعاء كالتوبة ، والاجتناب عن الكبائر ، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى ، قال تعالى : لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى ان قال : « وأنيبوا إلى ربكم » الزمر ـ 54 ، وقال تعالى : « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » النساء ـ 31 ، وقال تعالى : « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » الانبياء ـ 28 ، ومن هنا يظهر : وجه اتيان الانصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصارا. وثانيا : أن هذا الظلم وهو ترك الالنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر (397)
لقبله فهو من الكبائر ، وأنه لا يقبل التوبة ، ويتأيد بذلك ما وردت به الروايات : أن
التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلا برد الحق إلى مستحقه ، وأنه لا يقبل الشفاعة
يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى : « إلا أصحاب اليمين في جنات يتسائلون عن
المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين » إلى أن قال : «
فما تنفعهم شفاعة الشافعين » المدثر ـ 48.
وثالثا : أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله دينه كما مر بيانه في بحث الشفاعة ، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى : ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله. ورابعا : أن الامتناع من أصل انفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة ، وقد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركا بالله وكفرا بالآخرة ، قال تعالى : « ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون » فصلت ـ 7 ، والسورة مكية ولم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها. قوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي الخ ، الابداء هو الاظهار ، والصدقات جمع صدقة ، وهي مطلق الانفاق في سبيل الله أعم من الواجب والمندوب وربما يقال : إن الاصل في معناها الانفاق المندوب. وقد مدح الله سبحانه كلا من شقى الترديد ، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار صالحة ، فأما اظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف ، وتشويقا للناس إلى البذل والانفاق ، وتطييبا لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالا رحماء بحالهم ، وأموالا موضوعة لرفع حوائجهم ، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم ، وحصول النشاط لهم في أعمالهم ، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الاغنياء المثرين ، وفي ذلك كل الخير ، وأما اخفائها فإنه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمن والاذى ، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلة ، وصون لماء وجوههم عن الابتذال ، وكلائة لظاهر كرامتهم ، فصدقة العلن أكثر نتاجا ، وصدقة السر أخلص طهارة. ولما كان بناء الدين على الاخلاص وكان العمل كلما قرب من الاخلاص كان أقرب (398)
من
الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال : وان تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم
فإن كلمة خير أفعل التفضيل ، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ في تمييز الخير
من غيره ، وهو قوله تعالى : « والله بما تعملون خبير ».
قوله تعالى : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكأن ما كان يشاهده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالاخلاص من بعضهم والمن والاذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الايمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الايمان وإلى درجاته ، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقائه حتى يكون عليه حفظه ، ويشنق من زواله أو ضعفه ، أو يسوئه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والايعاد والخشونة. والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى : ، هداهم ، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس. على أن هذا المعنى أعني نفى استناد الهداية إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه. فالجملة أعني قوله : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والاقبال عليه صلى الله عليه وآله ، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى : « لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآيات » القيمة ـ 17. فلما تم الاعتراض عاد إلى الاصل في الكلام من خطاب المؤمنين. قوله تعالى : « وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله » إلى آخر الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والانذار والتحنن والتغيظ معا ، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى : « ولكن الله يهدي من يشاء كما لا يخفى ». فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع ، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين ، وما تنفقوا من خير فلانفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لاتنفقون إلا ابتغاء وجه الله ، فقوله : « ولا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله حال » ، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله : (399)
فلانفسكم.
ولما أمكن ان يتوهم ان هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج ، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله : وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون ، فبين ان نفع هذا الانفاق المندوب وهو ما يترتب عليه من مثوبه الدنيا والآخرة ليس امرا وهميا ، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى اليكم من غير ان يظلكم بفقد أو نقص. وإبهام الفاعل في قوله : يوف اليكم ، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي ، ذكر الفاعل ليكون الكلام ابلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له ، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير. قوله تعالى : « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » إلى آخر الآية ، الحصر هو المنع والحبس ، والاصل في معناه التضييق ، قال الراغب في المفردات : والحصر والاحصار المنع من طريق البيت ، فالاحصار يقال : في المنع الظاهر كالعدو ، والمنع الباطن كالمرض ، والحصر لا يقال ، إلا في المنع الباطن ، فقوله تعالى : فإن أحصرتم فمحمول على الامرين وكذلك قوله : « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » ، وقوله عز وجل : « أو جائوكم حصرت صدورهم » ، أي ضاقت بالبخل والجبن ، انتهى. والتعفف التلبس بالعفة ، والسيماء العلامة ، والالحاف هو الالحاح في السؤال. وفي الآية بيان مصرف الصدقات ، وهو أفضل المصرف ، وهم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل واسباب إلى ذلك : اما عدو اخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك. وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل اي الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف دلالة على انهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما. ومن هنا يظهر : ان المراد بقوله : لا يسألون الناس إلحافا انهم لا يسألون الناس اصلا حتى ينجر إلى الالحاف والاصرار في السؤال ، فإن السؤال أول مره يجوز للنفس (400)
الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها ان لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف ، والالحاف
على كل أحد ، كذا قيل ، ولا يبعد ان يكون المراد نفى الالحاف لا اصل السؤال ، ويكون
المراد بالالحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة ، فإن مسمى الاظهار عند
الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا ، والزائد عليه وهو الالحاف هو المذموم.
وفي قوله تعالى : تعرفهم بسيماهم دون ان يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان امرهم وظهور ذلهم. وأما معرفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحالهم بتوسمه من سيماهم ، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم ، ولا ذهاب كرامتهم ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد. قوله تعالى : « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار » إلى آخر الآية ، السر والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين ، واستيفاء الازمنة والاحوال في الانفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب ، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله ، وإرادة وجهه ، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة والتلطف فقال : لهم أجرهم عند ربهم الخ. ( بحث روائي )
في الدر المنثور في قوله تعالى : « والله يضاعف لمن يشاء » الآية ، اخرج ابن
ماجه عن الحسن بن علي بن أبي طالب وابي الدرداء وابي هريرة وابي امامة الباهلي و
عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله انه قال :
ح ، واخرج ابن ماجه وابن ابي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )قال : من ارسل بنفقة في سبيل الله واقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا
بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة الف درهم
ثم تلا هذه الآية : « والله يضاعف لمن يشاء ».
(401)
وفي
تفسير العياشي ورواه البرقي ايضا عن الصادق ( عليه السلام ) :
إذا احسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله : « والله
يضاعف لمن يشاء فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله ».
وفي تفسير العياشي عن عمر بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : إذا احسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله : « والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله » ، قلت : وما الاحسان؟ قال : إذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك ، وإذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك ، وإذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك وعمرتك ، قال : وكل عمل تعمله فليكن نقيا من الدنس. وفيه عن حمران عن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : قلت له : أرايت المؤمن له فضل على المسلم في شيء من المواريث والقضايا والاحكام حتى يكون للمؤمن اكثر مما يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال : لا هما يجريان في ذلك مجرى واحدا إذا حكم الامام عليهما ، ولكن للمؤمن فضلا على المسلم في اعمالهما ، قال : فقلت : أليس الله يقول : من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ، وزعمت انهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن؟ قال : فقال : أليس الله قد قال : والله يضاعف لمن يشاء اضعافا كثيرة؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات ، لكل حسنة سبعين ضعفا ، فهذا من فضيلتهم ، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة ايمانه اضعافا مضاعفة كثيرة ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء. اقول : وفي هذا المعنى اخبار أخر وهي مبتنية جميعا على الاخذ بإطلاق قوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين ، والامر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد ، ولا يكون المورد مخصصا ولا مقيدا ، وإذا كانت الآية مطلقة كذلك كان قوله : « يضاعف مطلقا بالنسبة إلى الزائد عن العدد وغيره » ، ويكون المعنى : « والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء » ، يضاعف لكل محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو اقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء ، ولا ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء (402)
لان
الذي نفينا هناك انما هو تقييده بالمنفقين ، والمعنى الذي تدل عليه الرواية نفى
التقييد.
وقوله ( عليه السلام ) :
أليس الله قد قال : والله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع :
آيتين إحديهما : هذه الآية من سوره البقرة ، والاخرى : قوله تعالى : « من ذا الذي يقرض
الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة » البقرة ـ 245 ، ومما يستفاد من الرواية
إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين وترتب الثواب عليها ، وسيجئ
البحث عنها في قوله تعالى : « إلا المستضعفين من الرجال
الآية » النساء ـ 98.
وفي المجمع قال : والآية عامة في النفقة في جميع ذلك ( يشير إلى الجهاد وغيره من أبواب البر ) وهو المروي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ). وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال : أشرف على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رجل من رأس تل ، فقالوا : ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أو ليس في سبيل الله إلا من قتل؟ ثم قال : من خرج في الارض يطلب حلالا يكف به والديه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالا يكف به أهله فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان. وفيه أيضا أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سأل البراء ابن عازب فقال : يا براء كيف نفقتك على أمك؟ وكان موسعا على أهله فقال : يا رسول الله ما أحسنها؟ قال : فإن نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك منا ولا أذى. أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين ، وفيها أن كل عمل يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله ، وكل نفقة في سبيل الله فهي صدقة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله » الآية عن الصادق( عليه السلام ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم أذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادق ( عليه السلام ) : والصفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى : كمثل جنة بربوة الآية وابل أي (403)
مطر ، والطل ما يقع بالليل على الشجر والنبات ، وقال في قوله تعالى : « إعصار فيه نار »
الآية الاعصار الرياح.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات » الآية ، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، قال : من الذهب والفضة ومما اخرجنا لكم من الارض ، قال : يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة. وفيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ، قال : نزلت فينا معشر الانصار ، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته ، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان احدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل ، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف ، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه » قال : لو ان احدكم أهدي إليه مثل ما اعطي لم يأخذه الا عن إغماض وحياء ، قال : فكنا بعد ذلك يأتي احدنا بصالح ما عنده. وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) في قول الله : « يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا امر بالنخل ان يزكى يجئ قوم بألوان من التمر وهو من اردئ التمر ، يؤدونه عن زكوتهم تمر يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحى عظيمة النوى ، وكان بعضهم يجئ بها عن التمر الجيد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا تجيئوا منها بشيء وفي ذلك نزل : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الا ان تغمضوا فيه ، والاغماض ان تأخذ هاتين التمرتين ، وفي رواية أخرى عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) في قوله تعالى : « انفقوا من طيبات ما كسبتم » فقال : كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما اسلموا ارادوا ان يخرجوها من اموالهم ليتصدقوا بها ، فأبى الله (404)
تبارك وتعالى الا ان يخرجوا من اطيب ما كسبوا.
اقول : وفي هذا المعنى اخبار كثيرة من طرق الفريقين. وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « الشيطان يعدكم الفقر » الآية ، قال : قال : « ان الشيطان يقول لا تنفقوا فإنكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلا اي يغفر لكم ان انفقتم لله وفضلا يخلف عليكم ». وفي الدر المنثور اخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة : فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرء : « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » الآية. وفي تفسير العياشي أبي جعفر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال : المعرفة. وفيه عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين. وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : في الآية : قال : طاعة الله ومعرفه الامام. اقول : وفي معناه روايات أخر وهي من قبيل عد المصداق. وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا رفعه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل ، فنوم العاقل افضل من سهر الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ، ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله افضل من جميع عقول امته ، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين ، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه ، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل ، والعقلاء هم أولوا الالباب ، قال الله تبارك وتعالى : « وما يذكر إلا أولوا الالباب ». وعن الصادق ( عليه السلام ) قال : الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ولو قلت : ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت ، (405)
قال
الله عز وجل : « يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا
أولوا الالباب ».
اقول : وفي قوله تعالى : وما أنفقتم الآية في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إنشاء الله. وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس وابن جبير واسماء بنت ابي بكر وغيرهم : ان رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الاسلام وان المسلمين كانوا يكرهون الانفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله : « ليس عليك هداهم » الاية فأجاز ذلك. اقول : قد مر أن قوله : « هداهم إنما يصلح لان يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفار » فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول ، على ان تعيين المورد في قوله : « للفقراء الذين أحصروا » الآية لا يلائمه كثير ملائمة ، وأما مسألة الانفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات. وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) في قول الله عز وجل : « وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم » فقال : هي سوى الزكوة ، إن الزكوة علانية غير سر. وفيه عنه ( عليه السلام ) : كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وما كان تطوعا فإسراره افضل من إعلانه. اقول : وفي معنى الحديثين أحاديث أخرى وقد تقدم ما يتضح به معناها. وفي المجمع في قوله تعالى : « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » الآية قال قال أبو جعفر( عليه السلام ) نزلت الآية في أصحاب الصفة ، قال : وكذلك رواه الكلبي عن ابن عباس ، وهم نحو من اربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ، ولا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد ، وقالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله ، فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وفي تفسير العياشي عن ابي جعفر ( عليه السلام ) : إن الله يبغض الملحف. وفي المجمع في قوله تعالى : « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار » الآية ، قال : سبب النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كانت معه أربعة |
|||
|