(11)
     ما برحت حياة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم موضع عناية الدارسين من أبعاد مختلفة ، وبقدر ما عبىء للموضوع من أهبة واستعداد ، ومنهجية في أغلب الأحيان ، فما تزال هناك بقية للبحث ، فقد تنقصنا كثير من الوثائق عن حياته الروحية قبل البعثة ، وصلتها بحياته العامة والخاصة بعد البعثة .
     هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة والتأريخ والآثار ، تتعلق بحياة النبي صلى الله عليه واله وسلم هامشيا ، تتخذ مجال الثناء والأطراء حينا ، وتتسم بطابع الحب والتقديس حينا آخر ، وهي مظاهر لا تزيد من منزلة النبي صلى الله عليه واله وسلم الذاتية ، ولا تكشف عن مكنونات مثله العليا ، ذلك باستثناء الإجماع على عزلته في عبادته وتحنثه ، والاقتناع بصدقه وأمانته ، وهي شذرات غير غريبة في أصالة النبي صلى الله عليه واله وسلم الكريمة ، وتقويمه الخلقي الرصين .
     وتطالعنا ـ احيانا ـ أحداث في تأريخ النبي صلى الله عليه واله وسلم قبل البعثة ، لها مداليل من وثاقة ، ورجاحة من عقل ، كالمشاركة الفاعلة في حلف الفضول ، وتميزه بالدفاع عن ذوي الحقوق المهتضمة ، وكاللفتة البارعة في رفع الحجر الأسود ، ووضعه بموضعه من الكعبة اليوم ، بما أطفأ به نائرة ، وأخمد فتنة .
     وهناك انفراده عن شباب عصره بالحشمة والاتزان ، وهو في شرخ الصبا وعنفوان العمر ، والتأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة وشعابها ، وفي غار حراء بخاصة ، والحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين ، لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية ، ولا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا واجتماعيا .


(12)
     في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد ، ويفقد أبويه تباعا ، ويحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن ، وبوفاته يوصي به لأبي طالب ، ويتزوج وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد ، وكان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة ، تكّد وتكدح في تجارة تتأرجح بين الربح والخسران ، وفجأة الوحي الحق ، والتجأ إلى خديجة ، تزمله آنا ، وتدثره آنا آخر .
     وينهض النبي صلى الله عليه واله وسلم في دعوته ، فتجد الدعوة مكذبين ومصدقين ، وتقف قريش بكبريائها وجبروتها في صدر الدعوة ، ويلقى الأذى والعنت من قومه وعشيرته الأقربين ، وفي حمأة الأحداث يموت كافله وزوجته في عام واحد ، فيكون عليه عام الأحزان ، فلا اليد التي قدمت المال للرسالة ، ولا الساعد الذي آوى وحامى ، ويوحى إليه بالهجرة ، فتمثل حدثا عالميا فيما بعد .
     هذه لمحات يذكرها كل من يترجم للنبي صلى الله عليه واله وسلم يطيل بها البعض ، ويوجز البعض الآخر ، وليست كل شيء في حياة النبي ، فقد تكون غيضا من فيض .
     ولست في صدد تأريخية هذه الأحداث ، ولا بسبيل برمجتها ، لألقي عليها ظلالا مكثفة من البحث ، ولكنها لمسات تمهيدية تستدعي الإشارة فحسب .
     ومهما يكن من أمر ، فقد تبقى طريقة النبي صلى الله عليه واله وسلم المنهجية في التوفيق بين واجباته الروحية ومهماته القيادية من جهة ، وبين حياته العامة ومساره الدنيوي من جهة ثانية ، لا تجد تأريخا يمثل بدقة ووضوح تأمين المنهج الرئيسي الذي اختطه لنفسه هذا القائد العظيم وهو في مكة المكرمة .
     في المدينة المنورة حيث العدد والعدة ، والنصرة والفداء ، نلمس إيحاء قرآنيا بنقطتين مهمتين :
     الأولى : مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء ، وتذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي ، والتصديق الكاذب ، يصافحون أهل الكتاب تارة ، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى ، حتى ضاق بهم ذرعا ، ونهاهم


(13)
     القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا وتكرارا ، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان ، ولم ينقطع كيدهم ، فمثلوا ثورة مضادة داخلية ، تفتك بالصفوف وتفرق الجموع ، لولا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف ، وهزائمهم المتلاحقة ، إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية ، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد ، وعاصفة بين الضلوع ، تخمد تارة وتهب أخرى .
     الثانية : مجابهته للفضوليين ، الذين كانوا يأخذون عليه راحته ، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته ، بين أفراد عائلته وزوجاته ، فينادونه باسمه المجرد ، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق ، بما عبر عنه القرآن بصراحة :
     ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ) (1) .
     واستأثر البعض من هؤلاء وغيرهم بوقت القائد ، فكانت الثرثرة والهذر ، وكان التساؤل والتنطع ، دون تقدير لملكية هذا الوقت ، وعائدية هذه الشخصية ، فحد القرآن من هذه الظاهرة ، واعتبرها ضربا من الفوضى ، وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب ، فكانت آية النجوى :
     ( يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم *) (2) .
     وكان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم فكف الفضول ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي صلى الله عليه واله وسلم للمسؤولية القيادية .
     ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ، وبلغ الله منها أمره ، نسّخ حكمها ورُفع ، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة مؤدبة ، وفريضة رادعة ، وتأنيب في آية النسخ :
(1) الحجرات : 4 .
(2) المجادلة : 12 .

(14)
     ( ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعلمون * ) (1) .
     كان هذا وذاك يستدعي الوقوف فترة زمنية عند رعاية الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوفيق بين واجباته القيادية ، وحياته الاعتيادية ، فأمام المنافقين نجد الحذر واليقظة يتبعهما الإنذار النهائي باغرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ، وعند الحادثتين التاليتين نجد الوحي حاضرا في اللحظة الحاسمة ، فيسليه في الأولى بأن أكثر هؤلاء لايعقلون . ويعظمه في الثانية بجعل مقامه متميزا ، فلا يخاطب إلا بصدقة ، ولايسأل إلا بزكاة .
     وما زلنا في هذا الصدد فإننا نجد الوحي رفيقا أمينا لهذا القائد الموحى إليه ، من هذه الزاوية التوفيقية بين التفرغ لنفسه ، والتفرغ لمسؤولياته ، وهذا أهم جانب يجب أن يكشف في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والكشف عنه إنما يتم بدراسة حياة النبي الخاصة مرتبطة بهذه الظاهرة ، وهي ظاهرة الوحي الإلهي ، ومدى الاتصال والانفصال بينها وبين النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وحاجته الملحّة إلى هذا الشعاع الهادي ، منذ البدء وحتى النهاية .
     لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعا من الرسل ، ولم يختص بالوحي دونهم ، بل العكس هو الصحيح ، فقد شاركهم هذه الظاهرة ، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل ، قال تعالى :
     ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) (2) .
     فقد هدفت الآية وما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء عليهم السلام كافة ، ممن اقتص خبرهم وممن لم يقتص ، وإيثار موسى بالمكالمة وحده .
     ويبقى التساؤل قائما : بماذا تفسر هذه الظاهرة ، وكيف تعلل نفسيا ؟ وكيف تنطبق كونيا ، وكيف عولجت قرآنيا ؟ وهل هي حقيقة تنطلق من ذات
(1) المجادلة : 13 .
(2) النساء : 163 ـ 164 .

(15)
النبي صلى الله عليه واله وسلم ؟ أم هي ظاهرة منفصلة عنه تماما ؟ وما هو سبيل معرفتها جوهريا عند النبي صلى الله عليه واله وسلم ؟ وعند الناس ؟ وكيف آمن به بكل قوة ويقين وآمن بها من حوله ؟
     وللإجابة عن هذه الافتراضات ، لا بد من رصد جديد لهذه الأبعاد كافة ، وقد يرى ذلك غريبا في تأريخ القرآن ، ولكن نظرة تمحيصية خاطفة ، تؤصل حقيقة هذا المناخ ، وتؤكد ضرورة هذا المنهج ، لأن الوحي يشكل بعدا زمنيا معنيا يقترن بنزول القرآن ، وذلك أول تأريخ القرآن ، ويستمر معه بوحي القرآن متكاملا ، وذلك تفصيلات تأريخ القرآن في عهد الرسالة ، وهو الجزء المهم والأساس في هذا التأريخ .
     وباستعراض هذه الافتراضات سوف نلمس النبي صلى الله عليه واله وسلم عبدا مأمورا محتسبا ، يُنفّذ ولا يسأل ، ويبلغ ولا يضيف ، مهمته التلقي والأداء ، مستقلا بذاته ، ومنفصلا عن ظاهرته ، ويبقى الجمع بين حياته العامة والخاصة من اختصاصه بتوجيه من الله تعالى ، وبعناية من وحيه ، فلا تعارض بينهما ، فيرتفع بذلك ما أثرناه مسبقا ، ويتلاشى الإشكال بهذا الملحظ ، مع أننا نلمس بشكل جدي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قد وهب حياته للوحي ، مبلغا أمينا ، ورسولا كريما ، إلا أن شخصيته حقيقة ، والوحي حقيقة أخرى ، وهذا ما ندأب إلى إثباته علميا .
*      *      *
     أن ما يذهب إليه بعض الدارسين من أن ظاهرة الوحي ، قد يراد بها المكاشفة ، وقد يعبر عنها بالوحي النفسي تارة ، أو الإلهام المطلق تارة أخرى ، دون تحديد مميز ، لا يتوافق مبدئيا مع دراسة النهج الموضوعي لظاهرة الوحي .
     إن كلمة الإلهام ليس لها أي مدلول نفسي محدد ، مع أنها مستخدمة عموما لكي ترد معنى الوحي إلى ميدان علم النفس .
     والوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير ، والوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير ، وأيضا غير قابل للتفكير .


(16)
والمكاشفة لا تنتج عند صاحبها يقينا كاملا ، ويقين النبي صلى الله عليه واله وسلم بالوحي قد كان كاملا ، مع وثوقه بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية ، وطارئة ، وخارجة عن ذاته (1) .
     والوحي الإلهي هو الفصل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (2).
     وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، وليس الإلهام والكشف كذلك ، وهذا ما يميز الوحي عن المكاشفة ، والوحي النفسي ، والإلهام ، إذ أن مردّ الإلهام يعود عادة إلى الميدان التجريبي لعلم النفس ، ونزعة الوحي النفسي في انقداحها تعتمد على التفكر في الاستنباط ، والمكاشفة تتأرجح بين الشك واليقين .
     أما الوحي فحالة فريدة مخالفة لا تخضع إلى التجربة أو التفكير ، ومتيقنة لا مجال معها للشك . مضافا إلى أن حالات الكشف والإلهام والإيحاء النفسي حالات لا شعورية ولا إرادية ، والوحي ظاهرة شعورية تتسم بالوعي والإدراك التأمين .
     والوحي بالمعنى المشار إليه يختص بالأنبياء ، وليس الإلهام أو الكشف كذلك ، فهما عامان وشائعان بين الناس .
     ولقد فرّق المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه ( 1836 ـ 1930م ) بين الوحي والإلهام تفريقا فيه مزيج بين الواقع والصوفية ، فاعتبر الوحي خاصا بالأنبياء ، والإلهام خاصا بالأولياء إذ لا يوحى إليهم (3).
     ويتجلى الفرق بين الإلهام والوحي بتعبير آخر ، وبتصور متغاير ، أن مصدر الإلهام باطني ، وأن مصدر الوحي خارجي بل الإلهام من الكشف المعنوي ، والوحي من الواقع الشهودي ، لأن الوحي إنما يتحصل بشهود الملك وسماع كلامه ، أما الإلهام فيشرق على الإنسان من غير واسطة
(1) ظ : مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 167 وما بعدها .
(2) ظ : د . جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : 2 | 570 .
(3) ظ : نولدكه ، دائرة المعارف الإسلامية : مجلد 9 مادة : الدين .

(17)
ملك ، فالإلهام أعم من الوحي ، لأن الوحي مشروط بالتبليغ ، ولا يشترط ذلك في الإلهام .
     والإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق ، ويصلح للبرهان والإلزام ، وإنما هو كشف باطني ، أو حدس ، يحصل به العلم للإنسان في حق نفسه لا على وجه اليقين والقطع ، كما هي الحالة في الوحي ، بل على أساس الاحتمال الإقناعي (1) .
     ولهذا فلا اعتبار بما حاوله الأستاذ محمد عبده : بجعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس ، وحسبان ذلك طريقا لإمكان الوحي (2).
     إن طريق الوحي هو التلقي ، وطريق هذا التلقي هو الملك وفي ضوئه نجد عبد القاهر الجرجاني ( في 471 هـ ) حديا بتمثل الوحي متفردا بما ألقاه جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأن القول بأنه : « قد كان على سبيل الإلهام ، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان ، ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب ، فذلك مما يستعاذ بالله منه ، فإنه تطرق للإلحاد » (3).
     ولقد تطرق بعض الباحثين الكهنوتيين فادعى بأن الوحي : « هو حلول روح الله في روح الكتّاب الملهمين لاطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية ، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم ، فلكل منهم نمطه في التأليف ، وأسلوبه في التعبير » (4).
     وهذا التعبير عن الوحي بهذا الفهم ، يختلف جذريا عن المفهوم القرآني للوحي ، ويضفي مناخا باطنيا في الحلول والاتحاد ، يدفعه الإسلام ، وهو سبيل مختصر إلى تقمص الصفاء الروحي وادعائه من قبل من لم يحصل عليه ، وفيه استهواء للدجل الاجتماعي عند الكهنة والكذبة ، وبعد
(1) ظ : د . جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : 1 | 131.
(2) ظ : محمد عبده ، رسالة التوحيد : 108 .
(3) عبد القاهر ، الرسالة الشافية ، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : 156 .
(4) جورج بوست ، قاموس الكتاب المقدس ، وانظر : صبحي الصالح مباحث في علوم القرآن : 25 .

(18)
هذا : فهو مغاير لمفهوم الوحي وطريقته اللذين خاطب الله بهما رسله ، وعلمهم من خلالهما ، مع استقلال في شخصية الوحي ، بعيدة عن مراتب الفراسة والتجانس الروحي ، واستقلال في المتلقي بعيد عن الاستنتاج الذاتي ، أو التعبير المطلق بكل صوره .
     إن عملية الوحي الإلهي إنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين : « ذات متكلمة آمرة معطية ، وذات مخاطبة مأمورة متلقية » (1).
     ولم تتشاكل في مظهر من مظاهر الوحي وظاهرته ، الذات المتكلمة ، والذات المخاطبة في قالب واحد ، ولم يتحدا في صورة واحدة على الإطلاق ، فهما متغايران .
     إن ظاهرة الوحي الإلهي ظاهرة مرئية ومسموعة ، ولكنها خاصة بالنبي صلى الله عليه واله وسلم وحده ، فما اتفق ولو مرة واحدة ، أن سمع أصحابه صوت الوحي ، ولا حدث أن رأوا هذا الكائن الموحي ، ومع هذا فقد أدركوا صحة ما نزل عليه ، وصدق ما أوحي إليه ، بدلائل الإعجاز ، وقرائن الأهوال ، واعتبارات الاختصاص ، فالنفس الإنسانية ، وإن كانت واحدة في الأصل والجوهر ، ولكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلا من قبل الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه واله وسلم يرى ويسمع ويعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد ، ومن حوله لا يرون ولا يسمعون ولكنهم يصدقون ويؤمنون .
     وربما قيل أن ما يتلقاه النبي صلى الله عليه واله وسلم من الروح الأمين وهو رسول الوحي : « هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية ، فكان صلى الله عليه واله وسلم يرى ويسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع ... فكان صلى الله عليه واله وسلم يرى الشخص ، ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين كما نستخدمهما ، ولو كانت رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره ، فكان سائر الناس يرون ما يراه ، ويسمعون ما يسمع ، والنقل القطعي يكذب
(1) ظ : مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 194 + صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 27 .
(19)
ذلك ، فكثيرا ما كانت تأخذه برحاء الوحي ، وهو بين الناس ، فيوحى إليه ، ومن حوله لا يشعرون بشيء ، ولا يشاهدون شخصا يكلمه » (1).
     وقد يفسر هذا بأنه ظاهرة ذاتية ، ولكن عمى الألوان (2) ـ مثلا ـ يقدم لنا حالة نموذجية ، لا يمكن في ضوئها أن ترى بعض الألوان بالنسبة لكل العيون .
     « هناك مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر ، وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا ، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون ، فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة ، كما يحدث في حالة الخلية الضوئية الكهربية » (3).
     وهذا مطرد بالنسبة للبصر المادي المتفاوت ، أما على التفسير الأول ، فينتفي الأشكال جملة وتفصيلا ، فهو من باب الأولى .
     ولقد توصل النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى اليقين القطعي بصدق الرؤية والسمع عند حدوث ظاهرة الوحي طيلة ثلاثة وعشرين عاما ، وكان لذلك إمارات خارجية تبدو على وجهه وعينه وجبينه ، من شجوب أو احتقان أو تصبب عرق ، وقد يرافق ذلك دوي بجسمه أو أصداء أو أصوات كما تقول الروايات (4).
     ولكن هذه المظاهر لم تمتلك عليه وعيه الكامل ، وإحساسه اليقظ ، لأنها إمارات خارجية لا تغير من حقيقة شعوره على الإطلاق ، فقسمات الوجه ، وتعرق الجبين ، وشحوب المحيا لا تدل في حالة اعتيادية على تغير في الوعي ، أو انعدام للذاكرة ، أو فقدان للشعور ، وما هي إلا طوارىء عارضة لا تمس الجوهر بشيء .
(1) الطباطبائي ، الميزان : 15 | 317 وما بعدها .
(2) عمى الألوان قسمان : كلي وجزئي ، فالكلي هو العجز عن التمييز بين الألوان مع بقاء الإحساس البصري سليما من الاضطراب ، والجزئي هو العجز عن إدراك لون بعينه ، أو عن تمييز ذلك اللون عن غيره . ( ط : المعجم الفلسفي : 2 | 108 ) .
(3) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 178 .
(4) ظ : ابن سعد ، الطبقات الكبرى : 1 | 197 + البخاري ، الجامع الصحيح : 1 | 4 + الفتح الرباني : 20 | 212 + فتح الباري : 1 | 21 .

(20)
     ولقد تعجل بعض النقاد من المستشرقين ، حين ألموا بهذه الدلائل النفسية ، والإمارات الشكلية الخارجية التي لا تنتاب الوعي إطلاقا ، ولا تؤثر على الإدراك في حال ، فاعتبروها ـ مخطئين ـ أعراضا للتشنج تارة ، وللإغماظ تارة أخرى . « وهذا الرأي يشمل خطأ مزدوجا حين يتخذ من هذه الأغراض الخارجية مقياسا يحكم به على الظاهرة القرآنية بمجموعها ، ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب ، الذي لا يمكن أن يفسر أي تعليل مرضي ... فإذا نظرنا الى حالة النبي صلى الله عليه واله وسلم وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن ؛ بينما يتمتع الرجل بحالة عادية ، وبحرية عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية ، بحيث يستخدم ذاكرته استخداما كاملا خلال الأزمة نفسها ، على حين يمحى وعي المتشنج وذاكرته خلال الأزمة ، فالحالة ـ إذن ـ ليست حالة تشنج .
     هذا التلازم الملحوظ بين ظاهرة نفسية في أساسها ، وحالة معينة ، هو الطابع الخارجي المميّز للوحي » (1).
     وهكذا كان لظاهرة الوحي عند بعض المستشرقين تفسيرات خاطئة أملاها حقد ودجل وافتراء ، فقد كان الوحي على حد زعمهم أثرا لنوبات الصرع التي تعتري الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم فكان يغيب عن صوابه ، ويسيل منه العرق ، وتعتريه التشنجات ، وتخرج من فيه الرغوة ، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه ، وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه وحي من ربه (2).
     ومع ما في هذا الزعم من الكذب المضحك ، والغض المتعمد من منزلة النبي صلى الله عليه واله وسلم الرسالية ، فالطريف أن ينبري له المستشرقون أنفسهم ، لا سيما هنري لامنس ، وفون هامر ، وأمثالهما ، للرد عليه ، إلا أن في طليعة هؤلاء جميعا السير وليم موير ( 1819 م | 1905 م ) (3).
     لقد فند هذا الباحث المحايد في كتابه ( حياة محمد ) مزاعم الجهلة الحاقدين ، وعقب على ظاهرة الوحي وأعراضها الخارجية بقوله : « وتصوير
(1) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 182 .
(2) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : 18 .
(3) .(Sir William Muir , life of Mohammad , p . ( 14-29