(41)
     5 ـ وهناك ملحظ جدير بالأهمية في هذا النزول التدريجي ، هو إحكام الأمر ، وإبرام العقد ، وهذا الإحكام وذلك الإبرام يتمثل بعملية صياغة النفوس في إطار جديد ، فهي على قرب عهد من الجاهلية بأعرافها ومفاهيمها وأخطائها ، والنقلة الفورية ليست خطوة عملية في التغيير الاجتماعي الذي أرادته رسالة القرآن ، فمن عزم الأمور ـ إذن ـ أن تستجيب النفوس لهذا التغيير الجذري ، ولكن لا على أساس المفاجأة الخطرة ، التي قد تولد ردة فعل مضادة ، تطوح بكل شيء ، بل تقليص القيم القديمة شيئا فشيئا ، وتضييعها جزءا فجزءا ، لتتلاشى في نهاية المطاف ، وتختفي عن صرح الاجتماع . وخير دليل على ذلك مسألة تحريم الخمرة ، إذ ارتبطت بالعرب أدبيا واجتماعيا ونفسيا واقتصاديا ، وهي جوانب متعددة ، أباحت هذا الإدمان المستحكم عند العرب ، فلو حرمت دفعة واحدة ، لكفر بهذا التحريم ، ولضاعت فرصة التغيير الاجتماعي ، ولكن الوحي تلبث وترصد وتأنى ، فجاء بالأمر في خطوات متعاقبة شملت بيان المنافع والمضار والمآثم ، وتدرجت إلى النهي عن اقتراب الصلاة وأنتم سكارى ، وانتهت إلى التحريم : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ... ) (1) .
     6 ـ ولنقف بهذا الجانب الحساس والمؤثر على صلب الموضوع من بدايته ، قبل النظر في التطبيق .
     كانت الجزيرة العربية بعامة ، ومكة المكرمة بخاصة ، تتجاذبهما عقائد شتى ، فالصابئة لها طقوسها المختلطة من ابتداعات وشعائر ترتبط بالكواكب وتأثيرها على الأحداث الأرضية (2) . وما امتزج عن عاداتهم في مذاهب قريش في الوثنية وعبادة الملائكة ، ومراسم الحج .
     والمسيحية ، وما صاحب مبادئها من تحريف مزدوج ، وتغيير مفاجىء ، فبدل التسامح الديني الذي اشتهرت به تعاليم السيد المسيح ،
(1) المائدة : 90 .
(2) ظ : جزءا من عقائد الصابئة ، محمد عبدالله دراز ، مدخل إلى القرآن الكريم : 132 وما بعدها .

(42)
والزهد في الحياة بكل مظاهرها ، استخدم المسيحيون في إرساء شهوائهم كل وسائل العبث والترف والقسوة ، فمن عزلة مصطنعة إلى تزمت مفتعل ، ومن تثليث لا يستقيم إلى وثنية مستهجنة ، ومن تمسك باللاهوت إلى ابتزاز للحرية ، كل ذلك يتراصف نماؤه بين أوهام موروثة ، وخرافات مستجدة .
     واليهودية ، بما كان يكتنفها من غموض في ستر العلم وتحريف للكلم عن مواضعه ، واستيعاب لاستحصال المال ، وجمع الثروة عن طريق الخيانة والربا والاحتكار .
     والحنفية ، وهي أسلم الأديان آنذاك عن الدس والتحريف الكبيرين ، فقد أدخل عليها مع ذلك تزييف في بعض الوقائع ، ومغالطة في طقوس الحج ومتابعة الوثنية ، وارتباط قسم من العرب بها على أساس من التعصب للأخطاء الموروثة في تأليه الملائكة وتأنيثها ، وعبادة الأصنام وتقديسها ، ورؤية الشمس والقمر والكواكب بمنظار الأرباب .
     والجاهلية ، وأرجاسها في الوأد ، والبغاء ، والريا ، والزنا ، وقتل الأولاد خشية الفقر ، وأكل التراث وحب المال ، ووراثة النساء كرها بما صرح به القرآن في آيات عديدة ، ومواضع كثيرة من سوره (1) .
     ألا يتناسب مع هذا الخليط العجيب من الديانات المحرفة ، وتعدد الآلهة ، أن يبدأ الوحي بنداء التوحيد لأول مرة ، وقد كان ذلك كذلك ، فاستنقذ الناس من عبودية الفكر ، واسترقاق النفوس ، واتجه بها إلى عبادة الله الواحد القهار ، وهي عبادة تجمع إلى راحة الضمير ، صدق العبودية دون إذلال ، وصحة الاعتقاد دون انحراف ، ابتعادا عن الخرافات والأساطير والمتاهات .
     وكان من الجدير بعد هذه الاستجابة ، أن يتم تشريع الصلاة ، لأنها تتضمن التوحيد والعبادة بوقت واحد .
     وحينما اتجهت القلوب لله بدأ تطهير النفوس بالخلق والأدب والصفاء
(1) ظ : على سبيل المثال ، العادات الجاهلية كما يصورها القرآن : النساء 19 ، 20 ، 21 ، 22 ، 23 ، 38 ، 127 + الأنعام : 140 + النور : 33 + الفجر : 17 ، 18 ، 19 ، 20 .
(43)
الروحي والإيثار ، وكان كذلك منطق الوحي بتعليماته ، الواحدة تلو الأخرى .
     7 ـ واشتد الأذى بالمسلمين ، فكانت قصص الغابرين إيذانا بحرب نفسية ، فما هم عنها ببعيد : ( وأنه أهلك عادا الأولى * وثمودا فما أبقى * ) (1) .
     وكانت أحاديث الأنبياء مع أممهم ، واستقراء أحوالهم في العذاب ، نذيرا بما قد يصيب العرب نتيجة التكذيب ، والأمور تقاس بأضرابها : ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * ) (2) .
     وهكذا الحال في كل من قوله تعالى :
     ( كذبت ثمود بالنذر * ) .
     ( كذبت قوم لوط بالنذر * ) .
     ( ولقد جاء ءال فرعون النذر * ) (3) .
     وهي مؤشرات إنذارية في آيات من سورة واحدة ، فكيف بك في السور المكية كافة .
     وقد ذكرت قريش بعذاب الاستئصال في الفترة المكية ، وكان ذلك مجالا رحبا من مجالات الوحي في هذه الحقبة العصيبة ، فثاب من ثاب إلى رشد ، وتجبر من تجبر في ضلال ، وأمثلة عديدة متوافرة ، ومن نماذجه قوله تعالى ( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لأيات أفلا يسمعون * ) (4) .
     وهكذا الإشارة إلى مجموعة الأمم المكذبة ، وقد مزقوا كل ممزق ، كما في قوله تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون * ) (5) .
(1) النجم : 50 ـ 51 .
(2) القمر : 18 ـ 20 .
(3) على التوالي : سورة القمر : 23 ، 33 ، 41 .
(4) السجدة : 26 .
(5) المؤمنون : 44 .

(44)
     وما قصة نوح عليه السلام مع قومه ، وموسى عليه السلام مع آل فرعون ، وصالح عليه السلام وشعيب عليه السلام وهود عليه السلام إلا مؤشرات فيما سبق .
     8 ـ وقد تناسق بشكل متقن عجيب استقراء اليوم الآخر ، والتذكير بأهواله ومظاهره ، والتحذيرمن عذابه وكوارثه ، والتصريح بفناء الأعراض وذهابها ، وتلاشي العوالم ونهايتها ، وصفة الجنة والنار ، وحال المؤمنين والكافرين ، وقد مثل ذلك بسور فضلا عن الآيات ، وبمجموعة مكية منها زيادة عن المتفرقات ، وما سورة الرحمن والواقعة ، والحاقة ، والمعارج ، والمدثر ، والقيامة ، والمرسلات ، والنبأ ، والنازعات ، والتكوير ، والانفطار ، والمطففين ، والانشقاق ، والطارق ، والغاشية ، والبلد ، والقارعة ، والتكاثر ، وغير ذلك إلا معالم في هذا الطريق مضافا إلى مئات الآيات الأخرى المتناثرة نجوما في معظم السور المكية .
     9 ـ وزيادة على التشريع المناسب في المدينة المنورة ، وإقرار الأحكام ، وتوالي الفروض ، والدعوة إلى الجهاد ، وتصنيف معالم القتال ، وتحديد سهام الحقوق ، فقد عانت المدينة من ظاهرة النفاق متسترة بالدين تارة ، ومتأطرة بسبيل أهل الكتاب تارة أخرى ، فقد تعدد مكرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعظم وقعهم على المسلمين ، فكانوا رأس كل فتنة ، وأصل كل سوءة ، فالدسائس تحاك ، والأراجيف تروج ، والأباطيل تلوكها الألسن ، فما كان من القرآن إلا أن تعقبهم بالتي هي أحسن تارة ، وبالإنذار تارة أخرى ، وبالتقريع والتوبيخ غيرهما ، فكان الوعيد على أشده ، والإغراء بهم على وشك الوقوع ، وقد عالج القرآن مشكلتهم ، وسلط الأضواء على تحركاتهم ، وتربصهم الدوائر بالإسلام ، وصور حالتهم النفسية والخلقية الجماعية والفردية ، وأبان واقعهم الدنيوي ومآلهم الأخروي ، وقد جاء ذلك متراصفا في سور عديدة ، لمعالجة كل حال بإزائها ، فكانت سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، والفتح ، والحديد ، والحشر ، والمنافقون ، والتحريم ، ميادين فارهة في تعقيب ظاهرة النفاق ، وحقيقة المنافقين ، فكان ذلك سمة لهم لا تبلى .
     ولا نريد أن نطيل أكثر فأكثر في هذا الجانب وسواه فهو بديهي


(45)
لاستكمال الرسالة وضرورة تطبيقها ، ومواكبة الوحي لهذه الأحداث والأزمات والمؤشرات دليل على أصالة هذا المنهج المتناسب تأريخيا وزمنيا مع مرحلية الظروف .
     10 ـ وهناك العلاقة الثنائية بين الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهناك التجاوب المطلق بينهما ، وكان تحقق ذلك في التدرج بالنزول ، وكانت الأزمات وهي تحاول أن تعصف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تضرب فجأة بإرادة الوحي الإلهي ، فهو إلى جنبه ، يشد عزمه ، ويقوي أسره ، ويسلّيه تارة ، ويعزيه تارة أخرى ، ويصبره ويؤسيه ، فيما يقتص له من الأنباء ، وما يورده من الصبر ، وما يحدده من الأحكام ، مفرقا بين الحق الثابت الرصين ، والباطل المتزعزع الواهن ، وفي ذلك تثبيت له على المثل ، وتحريض له على المثابرة ، وإعلام له بالنصر ، لأنها سنة الله مع رسله وأنبيائه .
     وهناك أسئلة تتطلب الإجابة المحددة . وحوادث تستدعي القول الفصل ، ولا يضمن هذا إلا الوحي فيما ينزل به ، فقد سألوه عن الخمر والميسر ، وسألوه عن المحيض ، وسألوه عن القتال في الأشهر الحرم ، وسألوه عن الأهلة ، وسألوه عن الساعة ، وسألوه عن الروح ، وسألوه عن الأنفال ، وسألوه عن الجبال ، وسألوه عن ذي القرنين .. وهكذا ، فتصدر الوحي للإجابة الفاصلة ...
     واستفتوه في النساء ، واستفتوه في الكلالة ، فأفتاهم الوحي عن الله . ووقع الظهار ، والايلاء ، وحادثة الإفك وغنموا في الحرب ، وحصل الزنا ، ونزلت السرقة ، وبدأ القتل العمد والقتل الخطأ ، وهي حوادث متعددة ، وقد نزلت أحكامها المتعددة ، وهكذا .
     إن الإحصاء الدقيق لهذه الجزئيات قد لا ينتهي إلا بصفحات كبيرة لا يتسع لها هذا البحث ، وفيما أشرنا له غنية في التمثيل التطبيقي .
     11 ـ وهناك ملحظ جدير بالأهمية في الوحي التدريجي ، يعود إلى التنزيل نفسه ، ليحكم فيه ناحيتين :
     الأولى : أنه ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله وحده ، وذلك أن هذه المراحل المتعددة التي مر فيها ، لم يحصل فيه تفاوت في


(46)
الأسلوب البياني ، فهو في الأول نفسه في الوسط والآخر ، ومع كثرة الأحداث وتعدد المسؤوليات في بيان الأحكام ، وتدارك النوازل ، واستيعاب المشكلات ، لم يبد فيه ـ ولو مرة واحدة ـ أي اختلاف وتناقض ، ولو كان من كلام البشر ، لحصل فيه التفاوت والتناقض معا ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( ولو كان من عند غير الله لوجودوا فيه اختلافا كثيرا ) (1) .
     الثانية : أن قليل هذا التنزيل وكثيره ، هو الدليل المتعاقب ـ مرة بعد مرة ـ على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن مراعاة المناسبة ، والعقل في الأمر الجلل ، والتحدث عن الغيب المطلق ، كل ذلك بتحديد قاطع ، وحجة لا تقبل جدلا ، لا يمكن أن يكون إلا من قبل الله تعالى ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمي يفقد أدنى ما يمكن أن يتمتع به غيره من الناس الاعتياديين في القراءة والكتابة ، فكيف إذن بمسائل التشريع ، وأخبار الغيب ، وقضايا الساعة ، ومختلف الأحكام ، ولم يسبق له أن مارس قبل بعثته أي نوع من أنواع الثقافة والمعرفة ، التي تتناسب مع هذا العطاء المتواصل من الوحي ، وفي هذه القضية الخارجة عن مقدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد لقوله تعالى : ( >ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين ) (2) .
*      *      *
     وكان نتيجة هذا التدرج في النزول أن استوعب نزول القرآن الكريم حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرسالة ، وكانت رسالته قد اتخذت مرحلتين : مرحلة الفترة المكية قبل الهجرة ، ومرحلة الفترة المدنية بعد الهجرة ؛ وفي هذا الضوء اقتضى أن ينقسم القرآن الكريم الى مرحلتين تبعا لمرحلتي الرسالة ، لاستمراره بالنزول فيهما ، وهما المرحلة المكية ، والمرحلة المدنية ، وهو تقسيم روعي فيه النظر إلى الزمان والمكان ، وللباحثين فيه ثلاثة إصطلاحات :
(1) النساء : 82 .
(2) الحاقة : 44 ـ 47 .

(47)
     1 ـ أن المكي ما نزل بمكة ، والمدني ما نزل المدينة .
     2 ـ أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعد الهجرة .
     3 ـ أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة (1) .
     ولكل من هذه الاصطلاحات مبررها التأريخي ، فالقول الأول ينظر إلى مكان النزول دون الالتفات إلى حدث الهجرة ، فالمكي ما نزل في مكة وإن كان بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة لا خارج حدودها ، فالمكان جزء من التأريخ في عملية التحديد .
     والقول الثاني ، وهو المشهور ، ينظر إلى الزمان من خلال حدث الهجرة ، والزمان جزء من التاريخ ، وإن لم يكن التأريخ بعينه ، فما نزل قبل الهجرة فمكي ، وما نزل بعد الهجرة فمدني .
     والقول الثالث ، ينظر إلى الأشخاص ، فما وقع خطابا لأهل مكة فهو مكي بحكم من نزل بين ظهرانيهم ، وما وقع خطابا لأهل المدينة فهو مدني بلمح من نزل فيهم ، والأشخاص عنصر التأريخ ومادته الأولى .
     إلا أن المشهور بين العلماء والمفسرين ، وهو الرأي الثاني لاعتبار الهجرة هي الحدث الفصل في تأريخ الرسالة الإسلامية ، فالمكي ما نزل قبلها ، وإن خوطب به أهل المدينة ، وإن نزل حواليها كالمنزل بمنى وعرفات والجحفة مثلا ، أو خارجها كالمنزل في الطائف أو بيت المقدس ، بل وإن كان حكمه مدنيا .
     والمدني ما نزل بعد الهجرة ، وإن خوطب به أهل مكة ، وإن نزل حواليها كالمنزل ببدر وأحد وسلع مثلا ، أو خارجها كالمنزل في الحديبية أو في مكة في حجة الوداع ، بل وإن كان حكمه مكيا .
     والحق أن علمائنا القدامى قد عنوا في هذا الجانب عناية فائقة ، تتناسب مع جلال القرآن وعظمته ، واعتبروا علم نزول القرآن زمانيا ومكانيا
(1) ظ : الزركشي ، البرهان : 1 | 187 .
(48)
من أشرف علوم القرآن ، حتى ذهبوا إلىأن من لم يعرف مواطن النزول وأماكنه وأزمنته ، ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله .
     قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري ( ت : 406 هـ ) :
     « من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء ، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك ، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني ، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي ، وما نزل بمكة من أهل المدينة ، وما نزل بالمدينة من أهل مكة ، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني ، وما يشبه نزول المدني في المكي ، ما ثم ما نزل بالجحفة ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف ، وما نزل بالحديبية ، ثما ما نزل ليلا ، وما نزل نهارا ، وما نزل مشيعا ، وما نزل مفردا ، ثم الآيات المدنيات في السور المكية ، والآيات المكية في السور المدنية ، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة إلى مكة ، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة ، ثم ما نزل مفسرا ، وما نزل مرموزا ، ثم ما اختلفوا فيه [ فقال بعضهم : مكي ] وقل بعضهم : مدني . هذه خمسة وعشرون وجها ، من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله » (1) .
     والحق أن ابن حبيب النيسابوري قد نبه إلى جزئيات وحيثيات مهمة ، مضافا إلى تقسيمه المكي ، ومثله المدني ، إلى مراحل : أولية ، ووسطية ، ونهائية ، وهي تقديرات تعنى بالتأريخ الدقيق لنزول سور القرآن وآياته ، وكأنه بهذا قد فتح الطريق أمام المستشرقين للخوض في هذه التفصيلات في محاولة لترتيب القرآن زمنيا ، ووصف كل ما يتعلق بمراحل نزول الوحي القرآني ، وقد علقوا على ذلك أهمية كبرى ، وكان المستشرق الألماني الأستاذ تيوردنولدكه ( 1836م ـ 1930م ) من أبرز المقتنعين في هذا المنهج وضرورة استقصائه ، وقد أخضع في ضوئه الحوادث الهامشية في الحروب والمغازي والمراسلات والوقائع لاستنتاجاته العلمية .
(1) الزركشي ، البرهان : 1 | 192 .
(49)
     وقد سلك في كشف تأريخ السور مسلكا قويما يهدي إلى الحق أحيانا ، فإنه جعل الحروب والغزوات الحادثة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلم تأريخها كحرب بدر والخندق وصلح الحديبية وأشباهها من المدارك لفهم تأريخ ما نزل من القرآن ، وجعل اختلاف لهجة القرآن وأسلوبه الخطابي ، دليلا آخر لتأريخ آياته ، وهو يرتاب في بحثه التحليلي في الروايات والأحاديث وأقوال المفسرين في تأريخ القرآن ، وفي عين الحال يأخذ من مجموعها ما يضيء فكره ، ويرشده على تأريخ السور والآيات ونظمها أحيانا (1) .
     وقد ظهرت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن ، ودراسة مراحله التأريخية ، منها محاولة وليم موير الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست ، خمس منها في مكة وسادستها في المدينة . ومنها محاولة ويل التي بدأها سنة 1844 م ، ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872 ، وقسم في ضوئها المراحل القرآنية إلى أربع : ثلاث في مكة ورابعة في المدينة ، فتابعه على ذلك نولدكه وشفالي ، وتأثر بذلك كل من ، بل وبلاشير (2) .
     إلا أن هؤلاء جميعا قد رفضوا الأثر والروايات في تأريخ النزول مما خالفوا به مصدرا رئيسيا من مصادر التعيين في ترتيب النزل ، وذلك عن طريق الجمع بين الروايات وغربلتها ، والأخذ بأوثقها .
     وقد أورد ابن حجر عن الإمام علي عليه السلام : أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرجه ابن أبي داود (3) .
     وأيد وجود ذلك صاحب الميزان وتحدث عن خصوصياته (4) .
     وقد أثبت في « كتاب المباني لنظم المعاني » جدول لهذا الترتيب الزمني (5) .
(1) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : 88 وما بعدها .
(2) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 176 وانظر مصادره .
(3) ظ : السيوطي ، الاتقان : 1 | 202 + الزنجاني ، تأريخ القرآن : 48 .
(4) ظ : الطباطبائي ، القرآن في الإسلام : 134 ـ 138 .
(5) مقدمتان في علوم القرآن : 14 .

(50)
     إلا أنه يختلف عن ترتيبه فيما ورد بأصل النسخة المطبوعة في ليبسك ( 1871 ـ 1872م ) ولما أثبته الزنجاني في تقسيمه لجمع الإمام علي عليه السلام للمصحف في سبعة أجزاء (1) .
     وإذا صحت هذه الرواية ، فقد فاتنا تأريخ دقيق عن النزول يستند إلى أعظم رواية قد شاهد عصر التنزيل وصاحب مسيرته ، وبذلك يكون الإمام علي عليه السلام أول من حقق في تثبيت نزول القرآن تأريخيا .
     وليس أمامنا طريق إلى تعيين تأريخ النزول إلا من جهتين :
     الأولى : الرواية الصحيحة الثابتة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل البيت عليهم السلام أو الصحابة ( رض ) الذين شاهدوا قرائن الأحوال ، وتتبعوا مسيرة الوحي من بدايته إلى نهايته ، وقد كان جزء من ذلك متوافرا فيما نلمسه من روايات وآثار في كتب التفسير وعلوم القرآن ، من نصوص يوردها الإثبات ويتناقلها الثقات ، وإن كان بعضها لا يخلو من تضارب ، أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد ادعي أنه : « لم يؤمر به ، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة » (2) .
     الثانية : الاستنباط الاجتهادي القائم على أساس أعمال الفكر ، ودراسة الأحداث ، ومعرفة أسباب النزول ، والمقارنة بين الآيات نفسها ، واعتبار القرائن الحالية والمقالية ، والسياق والنظم ، ووحدة السورة الموضوعية ، وما ماثل ذلك أدلة تقريبية على ذلك ، لا سيما فيما لا نص عليه ، فتتعين معرفته عن طريق الأدلة والبراهين والمرجحات فيؤخذ بأقواها حجة ، وأبرمها دليلا ، وهذا ما نشاهده في شأن الآيات والسور المختلف بنزولها الزماني أو المكاني .
     وقد استأنس العلماء والمحققون بعلائم وإمارات وخصائص ، تتميز بها كل من السور المكية والمدنية ، ففرقوا بينها على أساس هذا الفهم ، والنظر في ذلك كضوابط قابلة للانطباق في أكثر تجاربها ، إلا أنها ليست حتمية ، ولكنها إمارات غالبة ، لتوافر استثناءات في بعضها .
     فمن ضوابط معرفة السور المكية أوردوا ما يلي :
(1) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : 69 ما بعدها .
(2) الزركشي ، البرهان : 1 | 191 .