(91)
بحسم الفتنة وقطع الخلاف . ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة ، بل لا تكاد تتاح للخاصة ، وإنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع . ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات ، وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة ، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف ؛ لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئا من دينهم ، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها ، على أن الأمر أعظم خطرا وأرفع شأنا من علم العلماء ، وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات » (1) .
     ومهما يكن من رأي حول هذا الموضوع ، فإن من المقطوع به أن المصحف العثماني هو النص القرآني الوحيد الذي عليه عمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الكتاب المقدس الوحيد الذي أحيط بعناية ورعاية خاصة ، حتى نقل بالتواتر القطعي جيلا بعد جيل .
     ويبدو أن بعض نسخ المصحف العثماني ، قد كانت معروفة في القرن الثامن الهجري ، فالحافظ ابن كثير ( ت : 774 هـ ) يقول :
     « أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود 518 هـ ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي ، بحبر محكم ، في رق أظنه من جلود الإبل » (2) .
     قال أبو عبد الله الزنجاني : « ومصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري فهو يقول في وصف مسجد دمشق : ( وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني ) ويُظن قويا أن هذا
(1) طه حسين ، الفتنة الكبرى : 1 | 183 وما بعدها .
(2) ابن كثير ، فضائل القرآن : 49 ، طبعة المنار ، القاهرة 1348 هـ .

(92)
المصحف هو الذي كان موجودا في دار الكتب في لينين غراد وانتقل إلى إنكلترا » (1) .
     وقد تتبعت هذا الأمر في المتحف البريطاني فلم أظفره بحصيلة يطمئن إليها بوجود هذا المصحف .
     نعم هناك عدة مصاحف في دار الكتب المصرية ، مكتوبة بالخط الكوفي ، ولكن الزخارف والنقوش توحي بأنها لا علاقة لها بأية نسخة من المصاحف العثمانية .
(1) الزنجاني ، تاريخ القرآن : 67 .
(93)
الفصل الرابع
قراءات القرآن


(94)

(95)
     هناك اتجاهان رئيسيان في شأن نشوء القراءات القرآنية ومصادرها .
     الأول : أن المصحف العثماني قد كتب مجردا عن الشكل والنقط والإعجام ، فبدا محتمل النطق بأحد الحروف المتشابهة في وجوه مختلفة ، فنشأت نتيجة ذلك القراءات المتعددة للوصول إلى حقيقة التلفظ بتلك الألفاظ المكتوبة ، ضبطا لقراءة القرآن على وجه الصحة وكما نزل . وفي هذا الضوء تكون القراءات القرآنية اجتهادية فيما احتمل موافقته للصحة من جهة الرسم القرآني أو العربية ، وقد تكون روائية في إيصال النص القرآني مشافهة عن طريق الإسناد ، فيصحح الرسم القرآني في ضوء الإسناد الروائي .
     الثاني : أن منشأ ذلك هو التوصل بالرواية المسندة القطعية المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية القراءة القرآنية إلى النطق بآيات القرآن الكريم كما نطقها ، وكما نزلت عليه وحيا من الله تعالى ، بغض النظر عن كتابة المصحف الشريف ، وفي هذا الضوء فهي الطرق المؤدية بأسانيدها المختلفة حتى تتصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان الأمر كذلك ، وتحققت هذه الطرق بالأسانيد الصحيحة الثابتة ، فالقراءات متواترة وليس اجتهادية .
     وقد ادعى المستشرق المجري جولد تسهير أن نشأة القراءات كانت بسبب تجرد الخط العربي من علامات الحركات ، وخلوه من نقط الإعجام (1) .
(1) ظ : جولد تسهير ، مذاهب التفسير الإسلامي : 8 وما بعدها .
(96)
     وتابعه على هذا المستشرق الألماني الأستاذ كارل بروكلمان فقال :
     « حقا فتحت الكتابة التي لم تكن قد وصلت بعد إلى درجة الكمال ، مجالا لبعض الاختلاف في القراءة ، لا سيما إذا كانت غير كاملة النقط ، ولا مشتملة على رسوم الحركات ، فاشتغل القراء على هذا الأساس بتصحيح القراءات واختلافها » (1) .
     وقد أكد بروكلمان هذا المعنى فيما بعد وقال : « جمع عثمان المسلمين على نص قرآني موحد ، وهذا النص الذي لم يكن كاملا في شكله ونقطه ، كان سببا في إيجاد اختلافات كثيرة ، ولذلك ظهرت عدة مدارس في بعض مدن الدولة الإسلامية ، وبخاصة في مكة والمدينة والبصرة والكوفة ، استمرت كل منها في رواية طريقة للقراءة والنطق ، معتمدة في ذلك على أحد الشيوخ ... ولقد تبين على مر الزمن أن الدقة في الرواية الشفوية ، التي كانت مرعية في بادىء الأمر ، لا يمكن اتباعها دائما بسبب عدد من الأشياء الصغيرة التي وجب المحافظة عليها » (2) .
     ومع أن هذا الرأي قد لقي نقدا وتجريحا من قبل بعض الدارسين العرب (3) . إلا أنه لقي بالوقت نفسه تأييدا من قبل آخرين أمثال الدكتور جواد علي والدكتور صلاح الدين المنجد (4) . لما يحمله في طياته من بعض وجوه الصحة .
     لقد كان الاختلاف في القراءة شائعا ، فأراد النص التدويني للمصحف العثماني ، قطع ذلك الاختلاف ، فكان سبيلا إلى التوحيد ، وهذا لا يمانع أن ينشأ بعد هذا التوحيد بعض الخلاف الذي جاء اجتهادا في أصول الخط المكتوب ، فنشأ عنه قسم من القراءات .
     إن ما يستدل به حول تفنيد موقع الكتابة المصحفية من نشوء بعض
(1) بروكلمان ، تاريخ الأدب العربي : 1 | 140 .
(2) المصدر نفسه : 4 | 1 وما بعدها .
(3) ظ : عبد الوهاب حمودة ، القراءات واللهجات + عبد الصبور شاهين ، تأريخ القرآن : .
(4) ظ : جواد علي ، لهجة القرآن : الكريم ، مجلة المجمع العلمي العراقي : 1955 + صلاح الدين المنجد ، دراسات في تأريخ الخط العربي : 42 .

(97)
القراءات يكاد ينحصر بالاستدلال بحديث : ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) (1) ليقال بأن الاختلاف روائي وليس كتابيا ، والحق أن المسلمين إلى اليوم لم يصلوا إلى مؤدى هذه الرواية ، ولا يمكن أن يحتج بغير الواضح ، فما زال الخلاف قائما في معنى هذا الحديث وترجمته ، على أنه معارض ـ كما سترى ـ بحديث إنزال القرآن على حرف واحد . على أنه لا دلالة في هذه الحروف السبعة على القراءات السبعة إطلاقا ، وإذا كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف . فالإنزال ـ حينئذ ـ توقيفي ، ووجب على الله تعالى حفظه وصيانته ، لأنه ذكر ، والذكر قرآن ، والقرآن مصان لقوله تعالى : ( إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (2) .
     ولقائل أن يتساءل : أين هذه الأحرف السبعة في القرآن ، وهلا يدلنا أحد عليها ، ولم يتفق المفسرون بل المسلمون على المعنى المراد من هذه الأحرف ، ولا يصح الاحتجاج بما لا يفهم معناه ، ولا يقطع بمؤداه ، إذ هو احتجاج بما لا يعرف ، وأخذ بما لا يراد ، واعتماد على ما لا يبين ، والالتزام بهذا باطل دون ريب .
     وإذا كانت الأحرف السبعة منزلة من قبل الله تعالى بواسطة الوحي الذي أوحاه الروح الأمين جبرائيل عليه السلام ، فمعنى ذلك أنها من القرآن الإلهي ، وإلا فمن التشريع الإلهي الذي لا يرد ولا ينقض إلا أن ينسخ ، وما ادعى أحد بنسخ ذلك من القائلين به .
     وقد يقال ـ مع عدم وضوح الدلالة ـ أن هذه الأحرف مما خفف به عن الأمة لوجود الشيخ والصبي والعجوز وما إلى ذلك كما في بعض الروايات (3) .
     وإذا كان ذلك مما خفف به عن الأمة ، فكيف يجوز لأحد أن يشدد عليها ، وإذا كان ذلك للرحمة فكيف صح لعثمان ( رض ) أن يتجاوز هذه
(1) ظ : الطبري ، جامع البيان : 1 | 11 ـ 20 + البخاري ، الجامع الصحيح 6 | 227 .
(2) الحجر : 9 .
(3) ظ : أبو شامة ، المرشد الوجيز : 77 ـ 89 .

(98)
الرحمة ، ويجمع المسلمين على حرف واحد ، ثم ما عدا مما بدا ؟ فإن كان في المسلمين الأوائل من يعجز عن تلاوة القرآن حق تلاوته ، أو أن ينطق به كما نزل فتجوّز بالأحرف السبعة تيسيرا ، وهم أبلغ العرب ، فما بال المسلمين في عصر عثمان ، وما ذنبنا نحن في هذا العصر الذي انطمست به خصائص العربية حتى شدد علينا في حرف واحد .
     ولسنا بصدد دفع هذا الحديث الآن ، ولكننا بصدد رد دعوى من لا يرى للخط المصحفي أي أثر في تعدد القراءات واختلافها ، إذ لو كان الأمر كذلك لما كانت موافقة خط المصحف أساسا لقراءات عدة ، وميزانا للرضا والقبول والاعتبار ، وما ذلك إلا لتحكم الخط بالقراءة . ولا نريد أن نتطرف فنحكم بأن الخط المصحفي هو السبب الأول والأخير في تفرع القراءات القرآنية ، ولكن نرى أن جزءا كبيرا من اختلاف القراءات قد نشأ عن الخط المصحفي القديم ، باعتباره محتملا للنطق بوجوه متعددة .
     قال القسطلاني ( ت : 923 هـ ) مشيرا إلى ذلك : « ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم ، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته ، وفاقا لبدعتهم ... رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للأغنياء بشأن القرآن العظيم » (1) .
     وتابعه على هذا الدمياطي البنا ( ت : 1117 هـ ) وصرح بالأسباب ذاتها (2) .
     فقد كان لاحتمال الرسم ، ما تطاول به أهل البدع فيقرؤون بما لا تحل تلاوته ، ولا تصح قراءته ، ومعنى هذا أن قراءات ما قد نشأت عن هذا الملحظ ، فاحتاط المسلمون لأنفسهم بقراءات أئمة ثقات لدفع القراءات المبتدعة .
     وقد يقال : بأن الاختلاف في القراءات مما شاع في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره ، وأن هذه القراءات السبع أو العشر أو الأكثر إنما تبرز بالمشافهة تلك
(1) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 66 .
(2) الدمياطي ، اتحاف فضلاء البشر : 5 .

(99)
القراءات كما كانت في عهد الرسول الأعظم ، ونحن وإن كنا لا ننكر جزءا ضئيلا من هذا ، إلا أن الواقع المرير لتلك الروايات القائلة باختلاف القراءات في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تستند إلى حقيقة تأريخية معينة يصرح فيها بنوعية هذا الاختلاف في القراءة ، ولا تعطينا نماذج مقنعة بكيفية هذه القراءات المختلفة ، بل تذهب مذاهب التعميم الفضفاض الذي لا يقره المنهج العلمي ، وذلك أن الاختلاف المدعي في القراءات بعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض بروايات ، تنقصها الدقة والوضوح والتحديد ، فتارة يطلق فيها التجوز بالأحرف السبعة بما لا دلالة فيه كما تقدم ، وتارة تنسب الاختلاف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه مصدر من مصادر الفرقة في القراءات بينما العكس هو الصحيح لما رأيناه ـ فيما سبق ـ أن الاختلاف في القراءات جر المسلمين إلى صراع داخلي ونزاع هامشي تحسس الصحابة إلى خطره على القرآن فجمعوهم على قراءة واحدة (1) .
     وتارة تدعي هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرأ هذا بقراءة ، وغيره بقراءة أخرى ، وحينا يدعى بأن أحد الصحابة قد سمع من صحابي مثله قراءة ما ، لسورة ما ، تختلف عما سمعه هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تحاكموا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فصحح القراءتين ، أما : ما هي هذه السورة المختلفة الحروف ، وما هو عدد آياتها المتعددة القراءة ، وما هي كيفية هذا الاختلاف ونوعية فروقه ، فلم يصرح بجميع ذلك ، مما يجعلها روايات قابلة للشك ، ومع حسن الظن بالرواة فإن رواياتهم تلك قد تعبر عن السهو والاشتباه .
     إننا لا ننكر الاختلاف في القراءات بعهد مبكر ، فباستعراض تأريخ الموضوع يبدو أن تمايز القراءات كان موجودا قبل توحيد القراءة زمن عثمان ، فقد أشير إلى كثرة الاختلاف بعهده ، حتى قال الناس : قراءة ابن مسعود ، وقراءة أبي وقراءة سالم (2) .
     ولكننا نبقى مصرين أن وجهة التعميم في الروايات تبقى هي المسيطرة ، وعدم وضوح الرؤية يظل مخيما ، إذ أننا نحتاج بمثل هذا
(1) ظ : فيما سبق ، جمع القرآن : .
(2) ظ : مقدمتان في علوم القرآن : 44 .

(100)
الموضوع الخطير إلى الجزئيات والدقائق لنضع النقاط على الحروف ، لهذا نرفض جملة هذه الروايات ، ونتهم أصحابها ، كما اتهمهم من سبقنا إلى الموضوع .
     أورد أبو شامة عن زيد بن أرقم قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد ، وأقرأنيها أُبيّ بن كعب ، فاختلفت قراءتهم ، بقراءة أيهم آخذ ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : وعلي عليه السلام إلى جنبه ، فقال علي : ليقرأ كل إنسان كما علم ، كل حسن جميل .. » (1) .
     وقد ذكر الطبري هذه الرواية ، وتعقبه الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه فقال :
     « هذا حديث لا أصل له ، رواه رجل كذاب ، هو عيسى بن قرطاس ، قال فيه ابن معين : ليس بشيء لا يحل لأحد أن يروي عنه . وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الثقات ، لا يحل الاحتجاج به . وقد اخترع هذا الكذاب شيخا له روى عنه وسماه : زيد القصار ، ولم نجد لهذا الشيخ ترجمة ولا ذكرا في شيء من المراجع .. » (2)
     وبعد هذا ، فليس هناك مسوغ على الإطلاق أن نأخذ بكل رواية على علاتها دون تمحيص ، ودون تجويز الافتراء على الضعفاء من الرواة .
     قال الإمام محمد الباقر عليه السلام : « إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (3) .
     وفي شأن الحروف السبعة المدعاة ، وإن كان لا علاقة لها بالقراءات ، إلا أن البعض حملها على ذلك ، بينما ورد عن الفضل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام ( يعني الإمام جعفر الصادق ) : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا ، أعداء الله ،
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 85 .
(2) الطبري ، جامع البيان : 1 | 24 الهامش .
(3) الكليني ، أصول الكافي : 2 | 630 .