(131)
     وبقي الرسم العثماني للمصحف هو الأساس في خط المصحف الكريم قديما وحديثا ، فحينما تطورت عملية الكتابة ، وتبلور فن الخط ، لم يفقد ذلك الأساس أهميته على الإطلاق ، إذ ظل المنار الهادي لدى أغلب خطاطي مختلف العصور ، نظرا لاكتمال الصورة الأولى للمصحف ، وإن انتقل الشكل في العموم من الخط الكوفي إلى الخط النسخي المعروف .
     « وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف المخطوطة القديمة أو قطع منها ، بعضها مكتوب على الرق ، وبالخط الكوفي القديم ، مجردة من النقط والشكل ، ومن كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آياتها وغير ذلك بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليه المصاحف الأولى » (1) .
     وقد شاهدت كثيرا من هذه الآثار المصحفية في المتحف البريطاني في لندن ، مصونة ومحافظا عليها ، بعناية أثارية فائقة ، وبحواجز زجاجية محكمة ، لا تصل إليها يد الناظر ، وقد أشير ببعضها إلى تواريخ قديمة قد يرجع قسم منها إلى القرون الأولى ، ولا نعلم مدى توثيقها .
*      *      *
     أما الرسم المصحفي الأول للقرآن ، أعني كتابته على الكتبة الأولى ، فقد جاء دور الحديث عنه ، وأول ما نفجأ به ، هو الهالة الكبرى من التقديس لهذا الرسم مما يضفي شيئا كثيرا من المغالاة التي لا مسوغ إليها في أغلب الأحيان ، وإنا وإن كنا لا نعارض تبجيله والاعتداد به ، ولكننا نعارض الغلو في شأنه ، ويبدو أن هذا الغلو والتقديس ، وما صاحب ذلك من هالات ، ما هو إلا تعبير عملي عن احترام جيل الصحابة الذين كتبوا المصحف عند توحيد القراءة ، وإن كانت تلك الكتابة مخالفة لأصول الإملاء ، وقواعد الخط ، إذ الكتابة تصوير لنطق اللفظ ، والعبرة بنطق ذلك اللفظ ، لا بتصويره ، والتطرف في إضفاء صفة التقديس على الكتبة الاولى ،
(1) نقل هذا النص غانم قدوري ، عن جولد تسهير وغيره ، ظ : محاضرات في علوم القرآن : 93 ، وانظر مصادره .
(132)
لا يعضده دليل نصي على الإطلاق ، وما قيل هنا وهناك من توقيف كتابة المصحف ؛ لا يستند إلى أساس من نقل أو عقل أو كتاب ، وليس فيه ما هو مرفوع إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إجماعا ، بل كان منسجما مع طبيعة ما يحسن الكتبة ، سواء أكان جنس ما يحسنون ممتازا ، أم هو ما تعارفوا عليه ، مما يؤدي إلى النطق الصحيح بالكلمات والآيات ، وهو أمر يرجع إلى مدى الجهد الذي بذله القدامى إملائيا وهجائيا في ضبط الرسم ، وما من شك أن يحصل الاختلاف بين الكتبة بقدر تفاوت الضبط فيما بينهم ، أو على نحو من اختلاف القبائل فيما تكتب ، مما طبع أثره على الاختلاف في الخطوط .
     حينما جمع القرآن على لغة قريش ، ووحدت القراءات على حرف معين ، حصل جزء من هذا الاختلاف ، فقد قال الزهري : « واختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه فقال : النفر القرشيون : التابوت ، وقال زيد : التابوه ، فرفع اختلافهم إلى عثمان ، فقال : اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش » (1) .
     وفي رواية مماثلة : « فإنما أنزل القرآن على لسان قريش » (2) .
     وأما ما ادعاه ابن المبارك في نقله عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال :
     « ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة ، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة : بزيادة الألف ونقصانها ، لأسرار لا تهتدي إليها العقول ، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية ، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز ، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في « مائة » دون « فئة » وإلى سر زيادة الياء في « بأييد » و« بأييكم » أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الأف في « سعوا » بالحج ، ونقصانها من « سعو » بسبأ ؟ وإلى سر زيادتها في « آمنوا » وإسقاطها من « باؤ ، جاؤ ، تبوؤ ، فاؤ » بالبقرة ؟ وإلى سر زيارتها في « يعفوا الذي » ونقصانها من « يعفو عنهم » في النساء ؟ أم كيف
(1) ابن أبي داود ، المصاحف : 19 .
(2) الزركشي ، البرهان : 1 | 376 .

(133)
تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض ، كحذف الألف من « قرءنا » بيوسف والزخرف ، وإثباتها في سائر المواضع ، وإثبات الألف بعد واو « سموات » في فصلت وحذفها في غيرها ، وإثبات الألف في « الميعاد » مطلقا ، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال ، وإثبات الألف في « سراجا » حيثما وقع ، وحذفه من موضع الفرقان ؟ وكيف نتوصل إلى حذف بعض التاءات وربطها في بعض ؟ ؟
     فكل ذلك لأسرار إلهية ، وأغراض نبوية ، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني ، بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة في أوائل السور ، فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة ، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها ، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف » (1) .
     فهو كلام طويل عريض يشتمل على ادعاءات وافتراضات لا نوافقه عليها من عدة وجوه :
     الأول : أن الرسم المصحفي لم يرد فيه ولا حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يكون توقيفيا ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتهجى ، فكيف يتم هذا الغلو بشأنه ، بادعاء أن ما كتبوه كان بأمره ، وهو تجاوز على مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر بما يخطأ فيه ويصاب ، هجاء وإملاء مما نعتبره دون أدنى ريب خارجا عن توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيفه ، لأنه لا يحسن منه شيئا ؛ وأما ما ورد بالزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قال لأحد كتبة الوحي :
     « الق الدواة ، وحرف القلم ، وأنصب الباء ، وفرق السين ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم ، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك » (2) . فموضوع لا أصل له ، ويدل على وضعه ونحله كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميا ، فما أدراه بأصول الخط ؟ وما هي معرفته بالحروف ومميزات كتابتها وهو فاقد لأصل الصنعة ، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون ، وليس في ذلك انتقاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا غض من منزلته ، ولكن
(1) الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 376 .
(2) المصدر نفسه : 1 | 370 .

(134)
الحقيقة التي نطق بها القرآن في أكثر من موضع بأنه أمي ، وهذه الحقيقة صاحبت حياته كلها ، وهي ليست نقصا في شأنه ، بل اقتضتها الحكمة الإلهية ، لدرء تخرصات المشركين وارتياب المبطلين ، فهي كرامة لا منقصة ، وتشريف لا تضعيف ، وتكريم لا توهين .
     لقد أوتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوامع الكلم ، وفصل الخطاب ، والنص المتقدم لا ينسجم مع بلاغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القولية ، ولا يتفق مع فصاحته المتناهية ، فالصنعة بادية على النص ، والتكلف بين السمات عليه ، وعدم ارتباطه فنيا يبعده عن كلام أفصح من نطق بالضاد ، ثم ما هي علاقة الكتابة بوضع القلم على الأذن اليسرى ؟ وهل يصدق أن يكون هذا الهراء من كلام الرسول ؟ وأين هي المعاني الجامعة في هذا النص الهزيل ؟ وما هو وجه النظم بين فقراته التائهة ، وما هو المراد منها ؟
     الثاني : لو كان رسم المصحف توقيفيا ، لكانت خطوط كتاب الوحي واحدة ، وليس الأمر كذلك ، فقد أشير كثيرا إلى اختلاف المرسوم منها في جملة من الروايات .
     الثالث : ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى ، وأنى توصل لذلك ؟ وكيف يطلق الكلام جزافا ؟ وهل هنالك من له أدنى مسكة من عقل ، أو إثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن ، والقرآن معجزة بتحديه ونظمه وحسن تأليفه ، وتفوقه باستعاراته ومجازاته وكناياته ، وارتباط كل ذلك بالكشف عن الغيب ، والتحدث عن المجهول ، واستقراء الأحداث ، واشتماله على الإعجاز التشريعي ـ مضافا إلى الإعجاز البلاغي ـ الذي لا يناسب البيئة التي نزل بها القرآن ، وتمكنه بأسراره العلمية ونظرياته الثابتة ، القرآن معجز بصورته الفنية التي اعتبرت اللفظ حقيقة ، والمعنى حقيقة أخرى ، والعلاقة القائمة بينهما حقيقة ثالثة ، وهل يقاس هذا بالخط والإملاء ؟ وما إعجاز الخط وما هي أسرار الإملاء ؟ حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات ، وحذفها من كلمات أخرى ، نعم السر واضح ، وهو بكل بساطة وكل تواضع وكل موضوعية : خطأ الكاتبين ، ولا علاقة لخطئهم بالنص ، فالنص القرآني متعبد بتلاوته لا برسمه ، ولا يطالب الأوائل بأكثر من هذا الجهد في ضبط النص


( 135 )
القرآني بعد أن ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » (1) .
     فكتابة المصحف إذن كانت في ضوء ما ألفوه من الهجاء ، واعتادوه من الرسم ، وذلك قصارى جهدهم ، وما ورد فيها من منافيات أصول الخط ، لا يتعارض مع أصول المعاني ومداليل الألفاظ ، فالإملاء لا يغير نطقاً ، ولا يحرف معنى .
     الرابع : ليس من المنطق العلمي ولا من المنهج الموضوعي ان نقارن ـ ولو بوجه ضئيل ـ بين الرسم المصحفي الذي كتبه بشر ، وبين أوائل السور القرآنية ذات الحروف المقطعة التي قام الإجماع والتواتر على أنها من الوحي الإلهي والنص القرآني ، وللعلماء فيها آراء واجتهادات ، وفي مضامينها روايات وأخبار ، وفي عرضها رموز وإشارات ، وليس هذا موضع بحثها فلسنا بصددها ، إلا أنها من القرآن المعجز ، وليس الرسم المصحفي من الإعجاز في شيء وإنما هو يخضع لمدى ما يحسن الكاتب ، وأين التحدي من السماء بالإعجاز إلى الصنعة الأرضية التي تتفاوت جودة وضعفا وإتقانا .
     وقد حقق عبد الرحمن بن خلدون ( ت : 808 هـ ) في قضية الرسم القرآني ، وألقى مزيدا من الأضواء الكاشفة ، على فكرة التعصب للرسم العثماني ، وانتهى من فلسفة القول في الخط عند العرب بعامة فقال :
     « وكان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الأحكام والإتقان والإجادة ، ولا إلى التوسط ، لمكان العرب من البداوة والتوحش ، وبعدهم عن الصنائع . انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف ، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم ، وكانت غير محكمة الإجادة ، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم الصناعة الخط عند أهلها .
     ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخير الخلق من بعده ، المتلقون لوحيه من كتاب الله
(1) أبو شامة ، المرشد الوجيز : 132 .
(136)
وكلامه ، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا ، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا .
     وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه ، فاتبع ذلك وأثبت رسما ، ونبه علماء الرسم على مواضعه . ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط ، وأن ما يتخيل من مخالفته خطوطهم لأصول الرسم كما يتخيل ، بل لكلها وجه ، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة رضوان الله عليهم ، عن توهم النقص في قلة إجادة الخط ، وحسبوا أن الخط كمال ، فنزهوهم عن قصه ، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته ، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة عن رسمه وليس ذلك بصحيح .
     واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم ، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية ، والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق ، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ، ولا في الخلال . وإنما يعود على أسباب المعاش ، وبحسب العمران والتعاون عليه ، لأجل دلالته على ما في النفوس .
     ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أميا ، وكان ذلك كمالا في حقه ، وبالنسبة إلى مقامه ، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها . وليست الأمية كمالا في حقنا نحن ، إذ هو منقطع إلى ربه ، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا » (1) .
     ورأي ابن خلدون واضح الأبعاد في إلقاء التبعة على من يتصور أن الخط كمال مطلق في حد ذاته ، وإن فقدانه يشكل نقصا جليا ، وعيبا لا يطاق ، وصوبوا في كتابته من أخطأ ، وليس الأمر كذلك ، فالإخلال ببعض قواعد الخط ، وجملة من أصول الإملاء ليس نقصا بحقهم ، بل هي الطاقة وجهد المقدور ، والتعظيم لمنزلة الصحابة لا يعني أن نغض الطرف عن خطأ هجائي وأصل إملائي فمنزلتهم شيء ، وحقائق الأمور شيء آخر ،
(1) ابن خلدون ، المقدمة : 350 . طبعة بولاق .
(137)
ولهذا كان ابن خلدون فيما قدمه من رأي جريئا في الحكم ، وسخيا في العرض ، وواقعيا في المبادرة .
     وهناك موقف للباقلاني ( ت : 403 هـ ) يتناسب مع الذائقة الفطرية ، لطبيعة الأشياء ، فما لم يفرض فيه أمر ، لا يستنبط منه حكم ، وما لا وجه له لا يحدد بوجه مخصوص لقد بين حقيقة هذا الأمر بقوله :
     « وأما الكتابة ، فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا ، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره ، أوجبهم عليهم وترك ما عداه ، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه : أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلاّ على وجه مخصوص ، وحد محدود ، ولا يجوز تجاوزه ، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية . بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر برسمه ، ولم يبين لهم وجها معينا ، ولا نهى أحدا عن كتابته ، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ؛ فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال . ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف ، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك .
     وإذا كانت خطوط المصحف ، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى ، من غير تأثيم ولا تناكر ؛ عُلم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم في القراءة والأذن ، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز ، فكل رسم دال على الكلمة ، مفيد لوجه قراءتها . تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت .
     وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب


(138)
عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك » (1) .
     ورأي الباقلاني قوي الحجة بجواز كتابة المصحف بأي خط اتفق ، يدل على ألفاظ القرآن ويفصح عن قراءته ، بدليل ثبوت كتابته بالحروف الكوفية ، وبالخطوط المحدثة ، وبالهجاء القديم ، وفيما بين ذلك .
     ومع اصالة هذا الرأي الذي لم يتأثر بميل أو هوى فقد تجد من يأتي بعده ، ويتكأ على كثير من آرائه يخالفه جملة وتفصيلا ، دون دليل علمي في الموضوع .
     قال القسطلاني : ( ت : 923 هـ ) وأكثر رسم المصاحف موافق لقواعد العربية ، إلا أنه قد خرجت أشياء عنها ، يجب علينا اتباع مرسومها ، والوقوف عند رسومها ، فمنها ما عرف حكمه ، ومنها ما غاب عنا علمه » (2) .
     والقسطلاني يريد بتعبيره بأن أكثر رسم المصاحف موافق لقواعد الإملاء العربي ، وأصول الخطوط ، وما خرج عن ذلك يجب اتباعه في نظره ، ولا أعلم من أين استفاد وجوب اتباع مرسوم هذه الخطوط ، والوقوف عند رسومها ، وما هي فلسفة حكمه من الأخطاء الإملائية ، وما غاب عنا علمه من الاشتباهات الهجائية ، وليست تلك إلا أمور موهومة ، دعا إليها الغلو الفاحش ، والطيش في العاطفة ، وهو نفسه يقول :
     « ثم إن الرسم ينقسم إلى قياسي ، وهو موافقة الخط للفظ ، واصطلاحي ، وهو مخالفته ببدل ، أو زيادة ، أو حذف ، أو فصل ، أو وصل ، للدلالة على ذات الحرف ، أو أصله ، أو فرعه ، أو رفع لبس ، أو نحو ذلك من الحكم والمناسبات » (3) .
     وهذا هو التقسيم الصحيح ، والرسم المصحفي إصطلاحي لا شك ، تواضع عليه كتبة المصاحف الأولى ، واشتمل على مخالفة الخط للفظ ، في
(1) ط : محمد عبد العظيم الزرقاني ، مناهل العرفان : 1 | 373 وما بعدها.
(2) القسطلاني ، لطائف الإشارات : 1 | 285 .
(3) المصدر نفسه : 1 | 284 .

(139)
وجوه البدلية والزيادة والنقصان والحذف والفصل والوصل ، وكان ذلك شائعا في جملة من الحروف ، لا سيما في إبدال الألف ياء ، وزيادة الأف بعد واو الجماعة الداخلة على بعض الأسماء ، وحذفها بعد جملة من الأفعال في ذات المكان ، وإثباتها لبعض الأفعال المعتلة بالواو ، وفي إثبات الهمزة في الوصل حينا ، وحذفها حينا آخر ، وفي ما فيه قراءتان والرسم على أحدهما ، كما هو ملاحظ في جملة من خطوط الرسم المصحفي .
     وقد حصر السيوطي أمر الرسم المصحفي في الحذف ، والزيادة ، والهمز ، والبدل ، والفصل ، وما فيه قراءتان فكتب بأحدهما (1) .
     ولا حرج مطلقا في أن يكتب المصحف كاتب ، أو يطبعه طابع ، بأي هجاء شاء ، مادام لا يخرج عن النطق المطلوب ، كما أنزله الله تعالى ، وكما تنطق به العرب ، إذ لا يختلف اثنان في أن المراد بالقرآن هو ألفاظه ومعانيه ، ومقاصده ومراميه ، لا هجاؤه ورسمه وهيكله ، والقرآن ما رسم بهذا الرسم ، ولا كتب بهذا الهجاء ، إلا لأنه الهجاء المعروف المتداول في العصر الأول (2) .
     وما القول بوجوب اتباع الرسم القديم ، وعدم مخالفته وتعديه ، إلا نوع من أنواع التزمت الذي لا يتفق من النهج العلمي ، والارتفاع بتقدير الأوائل من مستوى الاحترام المناسب إلى مستوى التقديس اللامعقول ، وبهذا الملحظ فإننا لا نميل إلى ما قرره البيهقي في « شعب الإيمان » بقوله :
     « من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا فيها المصاحف ، ولا يخالفهم فيها ، ولا يغير مما كتبوه شيئا ، فإنهم أكثر علما ، وأصدق قلبا ولسانا ، وأعظم أمانة منا ، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم » (3) .
(1) ظ : السيوطي ، الاتقان : 4 | 147 .
(2) ظ : ابن الخطيب ، الفرقان : 84 وما بعدها .
(3) الزركشي ، البرهان : 1 | 379 .

(140)
     بل نذهب إلى جواز المخالفة ، وتيسير القرآن بالخط والهجاء الذي لا لبس فيه ، فلا يؤدي إلى اختلاف ، ولا يؤول إلى إبهام ، وليس في ذلك تحامل على السلف ، فليس الخط ونقصانه مما يشكل استخفافا بهم ، ولا هو يتنافى مع ورعهم وتقواهم ، ولا علاقة له بأنهم أصدق لسانا ، وأعظم أمانة ، ما دام أن الخطوط لم تكن متكاملة المعالم في عهودهم .
     يقول الاستاذ أحمد حسن الزيات : « الغرض من كتابة القرآن : أن نقرأه صحيحا لنحفظه صحيحا ، فكيف نكتبه بالخطأ ، لنقرأه بالصواب ؟ وما الحكمة أن يقيد كلام الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب » (1) .
     ولقد كان عز الدين بن عبد السلام جريئا ومحافظا في وقت واحد بقوله :
     « لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه ، لئلا يؤدي إلى دروس العلم ، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين ، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة » (2) . فهو يدعو إلى تطوير الرسم المصحفي رفعا لمشاكل القراءة عند المحدثين ، ويدعو إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني كجزء من التراث الذي لا يترك حبا بالأقدمين .
     ولقد أوضح السيوطي حقيقة مخالفة الخط المصحفي في بعض الحروف لقواعد الخط العربي فقال : « القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء والوقف عليه ، وقد مهد النجاة له أصولا وقواعد ، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام » (3) .
     وأنى كانت وجهة النظر تجاه الرسم المصحفي ، فهي لا تعني شيئا ذا أهمية قصوى ، لأنها مسألة شكلية لا تتعلق بجوهر القرآن ، ولا تغير
(1) مجلة الرسالة المصرية ، عدد 8 يناير ، 1950 .
(2) الزركشي ، البرهان : 1 | 379 .
(3) السيوطي ، الاتقان : 4 | 146 .