(141)
حقيقته ، لأن اختلاف بعض الخطوط لقواعد الهجاء لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ، ليتحقق بعد هذا كله التأكيد الإلهي بحفظ القرآن ، سالما من التحريف ، مصانا عن الزيف .
     وقد شاءت العناية الإلهية أن يظل شكل القرآن متجاوبا مع اختلافات الرسم في كل العصور ، ومتجانسا مع عملية التطوير الكبرى للخط العربي ، فقد دأب المتخصصون بصياغة الخطوط وطرائقها أن ينقلوه من جيل إلى جيل مطابقا للأصل الكوفي مع إضافة الأشكال التطويرية زيادة في الإيضاح ، ورفعا للالتباس ، وكان ذلك متواترا طيلة أربعة عشر قرنا من الزمان ، فما وجدنا في طول العالم الإسلامي وعرضه نصا قرآنيا يخالف نصا آخر ، ولا مخطوطا يعارض مخطوطا سواه ، حتى هيأ الله تعالى الطباعة ، لتزود المسلمين بل الناس أجمعين ، بملايين النسخ من القرآن الكريم ، وبمختلف الطبعات الأنيقة والمذهبة والمحكمة ، وهي تعطر كل بيت ، وتشرف كل منتدى ، وتحتل صدر كل مكتبة .
     وكان دور الطباعة مهما في نشر القرآن الكريم في كل من أوروبا والبلدان الإسلامية والوطن العربي .
     فقد نشر القرآن مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530 م ، بيد أن السلطات الكنسية وقفت منه موقفا متعصبا ، فأصدرت أمرا بإعدامه عند ظهوره ؛ ثم قام هنكلمان بطبع القرآن في مدينة هانبورغ عام 1694 م ، وتلاه ( مراتشي ) بطبعه في بادو عام 1698 م .
     وقد ذكر كل من بلاشير وشزر وبفنلمر أن أول طبعة إسلامية للقرآن كانت في سانت بطرسبورج بروسيا عام 1787 م وهي التي قام بها مولاي عثمان ، وبعد هذا قدمت إيران طبعتين حجريتين الأولى في طهران عام 1828 م والثانية في تبريز عام 1833 م (1) .
     وفي مصر قام الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي بكتابة مصحف عني فيه بكتابة الكلمات في ضوء الرسم العثماني ، وقدم له بمقدمة
(1) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 99 وانظر مصادره .
(142)
أبان فيها تحرير المصحف ورسمه وضبطه ، وطبع بمطبعة حجرية هي المطبعة البهية في القاهرة عام ( 1308 هـ ) (1) .
     وكانت هذه الطبعة الأولى من نوعها في القاهرة ، وقد استدركت عليها بعض الملاحظات المطبعية عولجت فيما بعد .
     وفي القاهرة ، عام 1342 هـ ـ 1923 م تشكلت لجنة عليا من مشيخة الأزهر ، مستعينة بكبار العلماء ، بإقرار من قبل الملك فؤاد الأول ، كان قوامها كل من : شيخ المقارىء المصرية محمد خلف الحسيني ، والأستاذ حفني ناصف العالم اللغوي ، ومصطفى عناني ، وأحمد الإسكندري .
     وقد اضطلعت هذه اللجنة بمهمة ضبط المصحف ورسمه وشكله ، فكتب القرآن ـ بإقرارها ـ موافقا للرسم العثماني ، وعلى قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي ، برواية حفص بن سليمان الكوفي . ثم طبعته طبعة أنيقة بالنسبة لزمنها ، تلقاها العالم الإسلامي بالغبطة ، وكان ذلك أساس انتشار طبعات القرآن الأخرى ، ففي عام 1924 تم طبع القرآن في مطبعة بولاق في القاهرة ، وكانت هذه الطبعة هي الطبعة الرسمية للقرآن في نظر المستشرقين (2) . وبعبارة أخرى فهي القرآن الرسمي عندهم .
     وكان القرآن قد طبع بحجم صغير في عام ( 1337 هـ ) في مطبعة بولاق أيضا ، وأعيدت طبعته في ( 1344 ، 1347 ) (3) .
     وقد بقي طبع القرآن في الوطن العربي بل الإسلامي مقتصرا على مصر في أغلبية مشروعاته ، ثم قامت عدة دول بطبع القرآن طبعات أنيقة فاقت ما قدمته مصر ، كان ذلك في عصر تقدم الطباعة وآلاتها ومستلزماتها ، وتحسين الورق وازدهار الخطوط ، وكان ذلك حديثا وفي بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ، حينما استعانت هذه الدول
(1) ظ : عبد الفتاح القاضي ، تأريخ المصحف الشريف : 91 وما بعدها .
(2) هناك مقالة للمستشرق الألماني الأستاذ نولدكه بعنوان : القرآن : الرسمي ( طبعة بولاق 1924 ) بالنظر إلى قراءة أهل مصر ، نشرها في مجلة الإسلام ج 20 ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : 1 |141 .
(3) ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : 1 | 141 .

(143)
بمطابع راقية في الدول الغربية لسحب ملايين النسخ من القرآن الكريم بأبهى حلة لا سيما في مطابع ألمانيا وشركاتها ، وكان في طليعة من تصدى لهذا العمل من دول الشرق الإسلامي وغربه كل من : العراق وتركيا وإيران وسوريا والمغرب والجزائر وتونس وغيرها .
     وفي ضوء جميع ما تقدم نجد أن شكل القرآن قد استقر الآن على ما استقر عليه بالتحسينات والإيضاحات والأناقة الطباعية ، مما نقطع معه إن لم يقدر لأي أثر ديني أن يحتفي بهذا القدر من الاحتفاء كما قدر للقرآن الكريم ، كتابة ، وشكلا ورسما ، وحفظا ، وطباعة ، وانتشارا .


(144)

(145)
الفصل السادس
سلامة القرآن


(146)

(147)
     لا حاجة بنا إلى القول بأن القرآن الكريم قد وصل إلينا كما نزل ، وقد حفظ بين الدفتين كما أوحي ، فالحديث عن سلامة القرآن وصيانته من البديهيات ، والاعتقاد بخلوه من الزيادة والنقصان من الضروريات .
     والقرآن في منأى عن التحريف في نصوصه وآياته ، إذ لم يضف إليها ما ليس منها ، ولم يحذف ما هو منها ، فالموجود بين أيدينا هو النص القرآني الكامل في ضوء ما أسلفناه من وحي القرآن ، ونزول القرآن ، وجمع القرآن ، وقراءات القرآن ، وشكل القرآن ، إذ تضافرت هذه العوامل جميعا على ضبطه كما أنزل ، زيادة على العناية الإلهية التي رافقت هذه العوامل ، وصاحبت هذا النص .
     أن الدلائل العلمية تؤكد حقيقة صيانة القرآن كيانا متماسكا مستقلا لم تصل إليه يد التحريف ، ولم تستهدفه نبال العوادي ، وليس هذا أمرا اعتباطيا تحكمت فيه الظروف أو الصدف ، بل هو أمر حيوي قصدت إليه إرادة الغيب بإشاءة الله تعالى ، وتأسيسا على ذلك فلا يغير القرآن غرض طارىء ، ولا عدوان مباغت .
     وحديثنا عن سلامة النص القرآني يقتضي دحض أي ادعاء مغاير ، ورد أي اتجاه مناوىء ، وهذا يدعو إلى تصفية دعاوى التحريف وتفنيد أباطيلها من الوجوه كافة .
     ودعاوى التحريف لدى غربلتها ، ودراسة مظاهرها ، نجدها تتردد بين عدة ظواهر هي :


(148)
     الادعاءات ، الافتراضات ، أخبار الآحاد ، الاتهامات ، الشبهات ، المحاولات .
     ورصد هذه الظواهر يحتم مسايرة الموضوع لجزئياتها ، ولدى مسايرة الموضوع بجزئياته ، والظواهر بحيثياتها ، تجلى بطلان قسم منها ، وفشل القسم الآخر ، وتعثر الجزء الأخير في تحقيق الدعوى .
     وسنقف عند هذه الظواهر وقفة المقوم المتحدي ، والناقد الموضوعي .
     أولا : الادعاءات ، ويثيرها عادة زمرة من المستشرقين دون أساس يعتمد عليه ، حتى بدا بعضهم مترددا متخاذلا ، والبعض الآخر متحاملا .
     فمع الجهد الكبير الذي بذله المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه ( 1836 م ـ 1930 م ) في كتابه القيم عن تأريخ القرآن ؛ إلا أننا نجد موقفه أحيانا غريبا ومتناقضا ، ففي الوقت الذي يعقد فيه بكتابه فصلا بعنوان : ( الوحي الذي نزل على محمد ولم يحفظ في القرآن ) والذي يبدو فيه قائلا بالتحريف تلميحا ، نجده يصرح بذلك في مادة قرآن بدائرة المعارف الإسلامية فيقول : « إنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت ويثني على هذا الموضوع الخطي في دائرة المعارف البريطانية ، مادة قرآن فيقول : « إن القرآن غير كامل الأجزاء » (1) .
     وجملة ما أثاره لا يعدو الادعاءات التي يصعب معها الاستدلال المنطقي ، ويبدو أن نولدكه قد تنازل عن آرائه وتراجع عنها شيئا ما ، فحينما ظهر كتاب المستشرق الألماني « فوللرز » عن لغة الكتابة واللغة الشعبية عند العرب القدماء ، أثار نقاشا حادا ، فقد زعم « فوللرز » في كتابه هذا أن القرآن الكريم قد ألف بلهجة قريش ، وأنه قد عدّل وهذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار الحضارة العربية ، وقد انبرى نولدكه نفسه للرد عليه موضحا أن كلامه عار من الصحة والتحقيق العلميين (2) .
(1) المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : 30 وانظر مصدره .
(2) ظ : آلبرت ديتريش ، الدراسات العربية في ألمانيا : 13 .

(149)
     ثم قرر نولدكه بعد هذا أن النص القرآني يعتبر على أحسن صورة من الكمال والمطابقة (1) .
     لقد فتح ( نولدكه ) الطريق أمام القول بتحريف القرآن ، ثم بدا مدافعا عنه ، مما بدا فيه متناقضا بين السلب والإيجاب في الموضوع .
     وإذا كان ما قدمه الاستاذ نولدكه قد تضاءل قيمة نظرا لتردده في الأمر ، وعدم وضوح الرؤية له فيه ، فإن ما كتبه الأستاذ بول بكثير من عدم التورع ، لا يمكن أن يتهاون فيه .
     لقد ألقت مسألة التحريف التي أثارها بعض المستشرقين ، عند الأستاذ بول بثقلها ، فكتب عنها بحثا في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية (2) .
     اعتبر بول التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة ، وأن الأمر الذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة هو ما جاء بالقرآن من آيات اتهم فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليهود وبتغيير ما أنزل إليهم من كتب وبخاصة التوراة . ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراك خاطىء أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود ، فكان في نظرهم مبطلا .
     وقد خلط ( بول ) في هذا البحث خلطا غير متناسق ، واكبته فيه النزعات المنحرفة ، وصاحبه إسراف وإفراط لا يمتان إلى استكناه الحقائق بصلة .
     والذي يهمنا من بحثه أن نشير إلى ما يلي (3) :
     أ ـ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد الحصول على تأييد أهل الكتاب بالمعنى الذي أشار إليه ، وإنما هو تعبير عن وحدة الديانات والشرائع والأنبياء في جميع الأطوار ، وأن أصول هذه الديانات واحدة ، وإن تغيير هذه الحقيقة
(1) ظ : نولدكه . تأريخ القرآن : 2 | 93 .
(2) ظ : بول ، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : 4 |604 ـ 608 .
(3) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : 40 ـ 41 .

(150)
الواقعة يعتبر تحريفا بالمعنى الذي أشار إليه القرآن : ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) (1) .
     ب ـ إن الألفاظ التجريحية التي وردت في المقال بالنسبة للرسول الأعظم لا تتفق مع المنهج الموضوعي ، فقد أشار بل صرح بأن القرآن من تلقاء نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه تحدث في القرآن بطريقة مبهمة ، وأن محمدا يستعمل لفظ حرف بدل القرآن .
     وهذه مواد لا يفترض بعالم أن يتولى التحدث بها بأسلوب الغمز واللّمز ، وهو ما لا يقبل في بحث علمي ، ولسنا نرى ذلك غفلة أو هفوة بل هو تغافل وجفوة .
     ج ـ ادعى الباحث أن خصوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذوا عليه نسخ بعض أحكام القرآن بأحكام أخرى ، مما حدا بعلماء المسلمين أن يذهبوا مذاهب شتى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتهام .
     وبإيجاز نقول : إن نسخ الأحكام شيء ، والتحريف شيء آخر ، فالنسخ لا يكون تحريفا ، وإنما هو إحلال لحكم مكان حكم ، أو رفع لحكم من الأحكام من قبل الله تعالى ، تخفيفا عن العباد ، أو رعاية لمصلحة المسلمين ، أو استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم ، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالشريعة أو بمعتنقيها ، ولا مجال إلى الطعن في هذه الناحية على ادعاء التحريف في القرآن .
     د ـ يقول الباحث ، وهو يضرب على وتر حساس : « وقد أثيرت تهمة التحريف فيما وقع من جدل بين الفرق الإسلامية المختلفة. فالشيعة يصرون عادة على أن أهل السنة قد حذفوا وأثبتوا آيات في القرآن بغية محو أو تفنيد ما جاء فيه من الشواهد ، معززا لمذهبهم ، وقد كال أهل السنة بطبيعة الحال نفس التهمة للشيعة » (2) .
     وهنا أثار مسألة مهمة في أقدس أثر من تراث المسلمين ، ولم يعط
(1) النساء : 46 .
(2) ظ : بول ، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : 4 | 608 .