القمي : قال : نزلت في بني أمية . فقالوا ياليتنا نرد : تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا . ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين : عطف على نردّ أو ابتداء كلام ، وقريء بالنصب فيهما على الجواب بإضمار ( أن ) بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء ، وبرفع الأول ونصب الثاني .
(28) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل من نفاقهم ، وقبايح أعمالهم ، فتمنوا ما تمنوا ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا . ولو ردوا : أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور لعادوا لما نهوا عنه : من الكفر والمعاصي . وإنهم لكاذبون : فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به .
العياشي : عن الصادق عليه السلام أنهم ملعونون في الأصل .
(29) وقالوا عطف على عادوا أو إبتداء . إن هي إلا حياتنا الدنيا : الضمير للحياة . وما نحن بمبعوثين .
(30) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم : للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه كناية عن اطلاعهم على الرب وجزائه ، والوقوف : بمعنى الأطلاع . قال أليس هذا بالحق : تعيير من الله لهم على تكذيبهم بالبعث . قالوا بلى وربنا : أقروا وأكدوا باليمين لأنجلاء الأمر غاية الجلاء . قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون : بسبب كفركم .
(31) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله : ببلوغ الآخرة وما يتصل به من الجزاء إذ فاتهم النعيم ، واستوجبوا العذاب المقيم . حتى إذا جاءتهم الساعة : غاية لكذبوا لا لخسر لأن خسرانهم لا غاية له . بغتة : فجأة . قالوا يا حسرتنا : أي تعالي فهذا أوانك . على ما فرطنا : قصّرنا فيها . قيل : أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها أو في الساعة أي في شأنها والأيمان بها أو في الجنة يعني في طلبها والعمل لها ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في هذه الآية يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون : يا حسرتنا . وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم : تمثيل لأستحقاقهم آضار (1) الآثام ألا ساء ما يزرون : بئس شيئا
____________
(1) الوضر بالتحريك الدرن والدسم يقال وضرت القصعة أي دسمت ووضره وضرا فهو وضر مثل وسخ وسخا فهو
( 116 )

يزرونه وزرهم .
(32) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو : وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية ، وهي جواب قولهم : ( إن هي إلا حياتنا الدنيا ) . وللدار الآخرة خير للذين يتقون : لدوامها وخلود لذاتها ومنافعها ، وقريء ولدار الآخرة . أفلا يعقلون : أي الأمرين خير ، وقريء على الخطاب .
(33) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك في الحقيقة ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون : ولكنهم يجحدون آيات الله ويكذبونه ، و ( الباء ) لتضمن الجحود معنى التكذيب ، وقرأ بالتخفيف من اكذبه إذا وجده كاذبا أو نسبه إلى الكذب .
في الكافي : والعياشي : عن الصادق عليه السلام قريء رجل على أمير المؤمنين عليه السلام ( فإنهم لا يكذبونك ) ، فقال : لي والله لقد كذبوه أشد التكذيب ، ولكنها مخففة ( لا يكذّبونك ) لا يأتون بباطل يكذبون به حقك .
ونسبه القمي إلى الصادق عليه السلام إلا أنه قال : لا يأتون بحق يبطلون حقك . ويؤيد هذا ثبوت التكذيب ، والعياشي : عنه عليه السلام أي لا يستطيعون إبطال قولك .
وفي المجمع : عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه كان يقرأ لا يكذبونك ، ويقول : إن المراد بها أنهم لا يأتون بحق أحق من حقك .
وفيه عن أكثر المفسرين لا يكذبونك بقلوبهم إعتقادا ، قال : ويشهد لهذا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا جهل فصافحه فقيل له في ذلك فقال : والله إني لأعلم أنه صادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف ، فأنزل الله تعالى الآية .
(34) ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا : في الكافي : عن الصادق عليه السلام إن من صبر صبر قليلا ، وإن من جزع جزع قليلا ، ثم قال : وعليك بالصبر في جميع امورك فإن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالصبر والرفق قال فصبر


( 117 )

حتى نالوه (1) بالعظائم ، ورموه بها فضاق صدره فأنزل الله عز وجل : ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ) ثم كذبوه ورموه ، فحزن لذلك فأنزل الله : ( قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا ) ، فألزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه الصبر الحديث .
والقمي : عنه عليه السلام ما يقرب منه ولا مبدل لكلمات الله : قيل : اي لمواعيده من قوله : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون ) . ولقد جاءك من نبإ المرسلين : من قصصهم وما كابدوا (2) من قومهم .
(35) وإن كان كبر عليك : عظم وشق . إعراضهم : عنك ، وعن الأيمان بما جئت به .
القمي : عن الباقر عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب إسلام الحرث بن نوفل بن عبد مناف دعاه وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله هذه الآية . فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض : منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض . أو سلما في السماء : أو مصعدا تصعد به إلى السماء . فتأتيهم بآية : فتطلع لهم آية من الأرض أو تنزل آية من السماء يؤمنون بها وجوابه محذوف أي فافعل ، والجملة جواب الشرط الأول ، والمقصود بيان حرصه البالغ على إيمان قومه ، وأنه لو قدر على ذلك لفعل ، ولكنه لا يقدر نظيره ( فلعلك باخع(3) نفسك ) . ولو شآء الله لجمعهم على الهدى : بأن تأتيهم آية يخضعوا لها ، ولكن لا يفعل لخروجه عن الحكمة .
في الأكمال : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا علي إن الله قد قضى الفرقة والأختلاف على هذه الامة فلو شاء الله لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف إثنان من هذه الامة ، ولا ينازع في شيء من أمره ، ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله فلا
____________
(1) قوله نالوه بالعظائم يعني نسبوه الى الكذب والجنون والسحر وغير ذلك وافتروا عليه .
(2) الكبد بالتحريك : الشدة والمشقة من المكابدة للشيء وهو تحمل المشاق في شيء .
(3) أي قاتل نفسك بالغم والوجد عليهم .

( 118 )

تكونن من الجاهلين .
القمي مخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعني الناس .
(36) إنما يستجيب الذين يسمعون بتفهم وتدبر يعني إن الذين تحرص على إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون والموتى يبعثهم الله : فيحكم فيهم ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم .
(37) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه : مما اقترحوه ، تركوا الأعتداد بما نزلت عليه من آيات الله والمعجزات مع كثرتها كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عنادا منهم . قل إن الله قادر على أن ينزّل آية : يخضعوا لها ، وقريء أن ينزل بالتخفيف . ولكن أكثرهم لا يعلمون : إنه يقدر عليه ، وإن حكمته لا يقتضي ذلك .
القمي قال : لا يعلمون إن الآية إذا جاءت ولم يؤمنوا بها لهلكوا . وعن الباقر عليه السلام في هذه الآية سيريكم في آخر الزمان آيات . منها : دابة الأرض ، والدجال ، ونزول عيسى بن مريم ، وطلوع الشمس من مغربها .
(38) وما من دابة في الارض تدب على وجهها . ولا طائر يطير بجناحيه في الهواء . قيل : وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها . إلا أمم أمثالكم : محفوظة أحوالها ، مقدرة أرزاقها ، مكتوبة آجالها ، مخلوقة أبدانها ، مربوبة أرواحها كما أنتم كذلك .
القمي : يعني خلق مثلكم قال : وقال : كل شيء مما خلق خلق مثلكم . قيل : المقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره وليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية . ما فرطنا في الكتاب من شيء : شيئا من التفريط لأن ( فرط ) لا يتعدى بنفسه وقد عدى بفي إلى الكتاب ، وقريء بالتخفيف ، ويعني بالكتاب القرآن كما يستفاد من كثير من الأخبار كحديث اختلاف العلماء في الفتيا . في نهج البلاغة : عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال : أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ؟ أم كانوا شركاء له فعليهم أن يقولوا : وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وفيه


( 119 )

تبيان كل شيء . وحديث وصف الأمامة عن الرضا عليه السلام في العيون ، وغيره : جهل القوم وخدعوا عن أديانهم إن الله لم يقبض نبيه حتى أكمل الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بين فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه كملا ، فقال عز وجل : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) . ثم إلى ربهم يحشرون : يعني الامم كلها . في الفقيه : عن الصادق عليه الصلوة والسلام أي بعير حج عليه ثلاث سنين جعل من نعم الجنة .قال : وروي سبع سنين .
وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها فقال : أين صاحبها مروه فليستعد غدا للخصومة .
وفي الخصال : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القيامة قال : لن يركب يومئذ إلا أربعة : أنا وعلي ، وفاطمة ، وصالح نبي الله . فأما أنا : فعلى البراق ، وأما فاطمة ابنتي : فعلى ناقتي العضباء ، وأما صالح : فعلى ناقة الله التي عقرت ، وأما علي : فعلى ناقة من نور زمامها من ياقوت عليه حلتان خضراوان .
(39) والذين كذبوا بآياتنا صُمّ : عن الهدى . وبكم : لا يتكلمون بخير . في الظلمات : يعني ظلمات الكفر ، كذا رواه القمي عن الباقر عليه السلام في تفسير الآية . من يشأ الله يضلله : يخذله فيضل لأنه ليس من أهل الهدى . ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم : يرشده إلى الهدى بلطفه لأنه من أهل الهدى واللطف .
القمي : عن الباقر عليه السلام نزلت في الذين كذبوا الأوصياء ، هم صم وبكم كما قال الله : ( في الظلمات ) من كان من ولد إبليس فإنه لا يصدق بالأوصياء ولا يؤمن بهم أبدا ، وهم الذين أضلهم الله ، ومن كان من ولد آدم آمن بالأوصياء وهم على صراط مستقيم .
(40) قل أرءيتكم : أرأيت أنفسكم معناه أخبروني . إن أتيكم عذاب الله : في الدنيا أو أتتكم الساعة : يعني القيامة ، من تدعون . أغير الله تدعون : تبكيت لهم . إن كنتم صادقين : بأن الأصنام آلهة .
(41) بل إيّاه تدعون : بل تخصون الله بالدعاء دون الالهة . فيكشف ما تدعون


( 120 )

إليه ما تدعون إلى كشفه . إن شآء : أن يتفضل عليكم بكشفه وتنسون ما تشركون وتتركون آلهتكم لما ركز في العقول إنه القادر على كشف الضر دون غيره أو لا تذكرونها في ذلك الوقت من شدة الأمر وهوله .
(42) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك يعني الرسل فكذبوهم . فأخذناهم بالبأساء : بالشدة والفقر . والضراء والمرض ، ونقصان الأنفس والأموال . لعلهم يتضرعون لكي يتضرعوا ، ويخضعوا ، ويتذللوا ، أو يتوبوا عن ذنوبهم .
(43) فلولا إذ جائهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت جاء بلولا ليدل على أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم في نهج البلاغة : من كلامه ولو أن الناس حين ينزل بهم النقم ، ويزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد .
(44) فلما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء يعني تركوا الأتعاظ به . فتحنا عليهم أبوب كل شيء : من الصحة والتوسعة في الرزق ، وقريء فتحنا بالتشديد حيث وقع حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا من الخير والنعم واشتغلوا بالنعم عن المنعم . أخذناهم بغتة مفاجأة من حيث لا يشعرون . فإذا هم مبلسون : آيسون من النجاة والرحمة متحسرون .
(45) فقطع دابر القوم الذين ظلموا : أي اخرهم لم يترك منهم أحد من دبره إذا تبعه . والحمد لله رب العالمين : على إهلاك أعدائه وإعلاء كلمته فإن تخليص أهل الأرض من سوء عقايد الكفار وقبيح أعمال العصاة والفجار نقمة جليلة يحق أن يحمد عليها .
في المجمع : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأيت الله تعالى يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ، ثم تلا هذه الاية ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام يا ابن آدم إذا رأيت ربك تتابع عليك نعمه فاحذره .


( 121 )

القمي : عن الباقر عليه السلام ( فلما نسوا ما ذكروا به ) يعني فلما تركوا ولاية علي ابن أبي طالب عليه السلام وقد أمروا بها ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) دولتهم في الدنيا وما بسط لهم فيها ( أخذناهم بغتة ) يعني بذلك قيام القائم ( صلوات الله عليه ) حتى كأنهم لم يكن لهم سلطان قط .
والعياشي : عنه عليه السلام لما تركوا ولاية علي صلوات الله عليه وقد أمروا بها ( أخذناهم بغتة ) الآية قال : نزلت في ولد العباس .
(46) قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم : بأن يصمكم ويعميكم وختم على قلوبكم بأن يغطي عليها ما يذهب عقلكم ويسلب تميزكم . من إله غير الله يأتيكم به : بذلك .
القمي : عن الباقر عليه السلام إن أخذ الله منكم الهدى . أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون : قال : يعرضون .
(47) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة من غير مقدمة وظهور إمارة أو جهرة بتقدم أمارة ، قابل البغتة بالجهرة لما في البغتة من معنى الخفية . هل يهلك إلا القوم الظالمون : ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا بكفرهم وفسادهم .
القمي : نزلت لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض ، فشكوا ذلك إليه يعني لا يصيبكم إلا الجهد والضر في الدنيا ، فأما العذاب الأليم الذي هو الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين .
العياشي : عن الصادق عليه السلام يؤاخذ بني أمية بغتة ، وبني العباس جهرة .
(48) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين : المؤمنين بالجنة . ومنذرين : الكافرين بالنار . فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم : من العذاب . ولا هم يحزنون : بفوت الثواب .
(49) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب : جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم يفعل بهم ما يريد . بما كانوا يفسقون : بسبب خروجه عن التصديق والطاعة .


( 122 )

(50) قل لا أقول لكم عندي خزائن الله : في التوحيد ، والمعاني ، والمجالس : عن الصادق عليه السلام لما صعد موسى على نبينا وآله وعليه السلام إلى الطّور فنادى ربه عز وجل قال : يا رب أرني خزائنك فقال تعالى : يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون . ولا أعلم الغيب : الذي اختص الله بعلمه ، وإنما أعلم منه ما يعلمني الله . ولا أقول لكم إني ملك : من جنس الملائكة أقدر على ما يقدرون عليه . إن أتبع إلا ما يوحى إلي ما انبئكم بما كان وما يكون إلا بالوحي تبرأ من دعوى الالوهية والملكية وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر ردا لأستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه .
في العيون عن الرضا عليه السلام إنه سئل يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشيء الواحد فقال : إن الله عز وجل حرم حراما وأحل حلالا ، وفرض فرائض ، فما جاء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو رفع فريضة في كتاب الله رسمها قائم بلا نسخ نسخ ذلك فذلك شيء لا يسع الأخذ به لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله وأحكامه ، وكان في ذلك كله متبعا مسلما مؤديا عن الله عز وجل ، وذلك قول الله عز وجل : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) فكان متبعا لله مؤديا عن الله ما أمر به من تبليغ الرسالة . قل هل يستوي الاعمى والبصير : قيل : الضال والمهتدي .
والقمي : من لا يعلم ، ومن يعلم .
ونسبه في المجمع إلى أهل البيت عليهم السلام . أفلا تتفكرون : فلا تكونوا ضالين أشباه العميان وتنصفوا من أنفسكم .
(51) وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون .
في المجمع : عن الصادق عليه السلام وأنذر بالقرآن الذين يرجون الوصول إلى


( 123 )

ربهم ، ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع .
(52) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي : يعيدونه على الدوام يريدون وجهه : يبتغون مرضاته مخلصين له وقريء بالغدوة . ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم : جواب النفي . فتكون من الظالمين : جواب النهي .
القمي : قال : كان سبب نزولها أنه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمون أصحاب الصفة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يكونوا في صفة يأوون إليها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهدهم بنفسه ، وربما يحمل إليهم ما يأكلون ، وكانوا يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقربهم ويقعد معهم ويؤنسهم ، وكان إذا جاء الأغنياء والمترفون من أصحابه ينكرون عليه ذلك ، ويقولون اطردهم عنك فجاء يوما رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصحاب الصفة قد لزق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله يحدثه فقعد الأنصاري بالبعد منهما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقدم فلم يفعل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلك خفت أن يلزق فقره بك ، فقال الأنصاري : اطرد هؤلاء عنك ، فأنزل الله ، ولا تطرد الذين يدعون ربهم ، الآية .
(53) وكذلك مثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا . فتنا ابتلينا . بعضهم ببعض : في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الأيمان ليقولوا أهؤلاء مَنّ الله عليهم من بيننا أي هؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعده دوننا ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء ، وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : ( لو كانوا خيرا ما سبقونا إليه ) واللام للعاقبة . أليس الله بأعلم بالشاكرين بمن يقع منه الأيمان والشكر فيوفقه ، وبمن لا يقع منه فيخذله .


( 124 )

(54) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة : قيل : نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقيل : نزلت في حمزة ، وجعفر ، وعمار ، ومصعب بن عمير ، وغيرهم .
وقيل : إن جماعة أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : إنا أصبنا ذنوبا كثيرة فسكت عنهم فنزلت .
وفي المجمع : عن الصادق عليه السلام أنها نزلت في التائبين . ويؤيده تمام الاية ، ولا تنافي بين الروايات . إنه : استيناف يفسر الرحمة ، وقريء بالفتح على البدل منها . من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح : بالتدارك . فإنه غفور رحيم : وقريء بالفتح .
(55) وكذلك : ومثل ذلك التفصيل الواضح . نفصل الآيات : آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين . ولتستبين سبيل المجرمين : قريء بالتاء ، ونصب السبيل على الخطاب وبالياء ورفعها .
(56) قل إني نهيت : صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة ، وانزل عليّ من الآيات في أمر التوحيد أن أعبد الذين تدعون : تعبدون . من دون الله قل لا أتبع أهواءكم تأكيد لقطع أطماعهم ، وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الأمتناع من متابعتهم واستجهال لهم وبيان مبدأ ضلالهم ، وإن ما هم عليه هوى وليس بهدى ، وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد . قد ضللت إذا : أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت وما أنا من المهتدين : أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم ، وفيه تعريض بأنهم كذلك .
(57) قل إني على بينة : على حجة واضحة . من ربي : من معرفة ربي ، وأنه لا معبود سواه ، أو صفة لبينة . وكذبتم به : أنتم حيث أشركتم به غيره . ما عندي ما تستعجلون به : قيل : يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم : ( فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) . إن الحكم إلاّ لله : في تعجيل العذاب وتأخيره . يقضي الحق : قضاء الحق


( 125 )

في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ، وهو خير الفاصلين القاضين وقريء يقص الحق أي يتبعه من قص أثره .
(58) قل لو أن عندي ما تستعجلون به : من العذاب . لقضي الامر بيني وبينكم : لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي ، وانقطع ما بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين : في معنى استدراك كأنه قال : ولكن الأمر إلى الله وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ ، وبمن ينبغي أن يمهل كذا قيل .
وفي الكافي : عن الباقر عليه السلام في حديث وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ( قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ) قال : لو إني امرت أن أعلمكم الذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي لتظلموا أهل بيتي من بعدي فكان مثلكم كما قال الله عز وجل : ( كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ) يقول : أضاءت الأرض بنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تضيء الشمس الحديث .
(59) وعنده مفاتح الغيب : خزائنه إن كان جمع المفتح بفتح الميم بمعنى المخزن أو مفاتيحه إن كان جمع المفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح أي ما يتوصل به إلى المغيبات ، وقريء مفاتيح . لا يعلمها إلا هو : فيظهرها على ما اقتضته حكمته . ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس : معطوفات على ورقة . إلا في كتب مبين : قيل : أي علم الله ، أو اللوح المحفوظ ، أو القرآن ، بدل من الأستثناء الأول ، وقرئت المعطوفات بالرفع عطفا على محل من ( ورقة ) ، أو على ( الأبتداء ) ، والخبر ( إلا في كتاب ) . في الفقيه : في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام ( وما تسقط من ورقة ) من شجرة .
وفي الكافي ، والمعاني ، والعياشي عن الصادق عليه السلام والقمي : الورقة : السقط ، والحبة : الولد ، وظلمات الأرض : الأرحام ، والرطب : ما يحيي الناس ، واليابس : ما يغيض ، وكل ذلك : في كتاب مبين . والعياشي عن الكاظم عليه السلام الورقة السقط ، يسقط من بطن أمه من


( 126 )

قبل أن يهل الولد ، والحبة : الولد في بطن أمه إذا هل وسقط من قبل الولادة ، والرطب : المضغة إذا أسكنت في الرحم قبل أن يتم خلقها قبل أن تنتقل ، واليابس : الولد التام ، والكتاب المبين : الأمام المبين .
وفي الأحتجاج : عن الصادق عليه السلام في حديث وقال : لصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) . وقال الله عز وجل : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وعلم هذا الكتاب عنده .
أقول : قد مضى معنى الكتاب من جهة التأويل في أول سورة البقرة .
(60) وهو الذي يتوفاكم بالليل يقبض أرواحكم عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت . ويعلم ما جرحتم : أي ما كسبتم من الأعمال . بالنهار ثم يبعثكم فيه : ثم ينبهكم من نومكم في النهار . ليقضى أجل مسمى : لتستوفوا آجالكم .
القمي : عن الباقر عليه السلام في قوله : ( ليقضى أجل مسمى ) قال : هو الموت . ثم إليه مرجعكم : بالموت . ثم ينبئكم بما كنتم تعملون : بالمجازاة .
(61) وهو القاهر فوق عباده : المقتدر المستعلي على عباده . ويرسل عليكم حفظة : يحفظونكم ويحفظون أعمالكم ، ويذبون عنكم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وسائر الآفات ، ويكتبون ما تفعلون . قيل : الحكمة في كتابة الأعمال : أن العباد إذا علموا أن أعمالهم تكتب عليهم وتعرض على رؤوس الأشهاد كانوا أزجر من القبائح ، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عطفه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمة المتطلعين عليه . ويأتي ما يقرب منه عن الصادق عليه السلام في سورة الأنفطار إنشاء الله . حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ملك الموت وأعوانه كما سبق بيانه في سورة النساء ، وقرء توفاه بألف (1) ممالة وهم لا يفرطون لا يقصرون بالتواني والتأخير .
(62) ثم ردوا إلى الله : إلى حكمه وجزائه مولاهم : الذي يتولى أمرهم الحق
____________
(1) بأن يشبع الفتحة حتى يحصل منها نصف ألف وتميل الى الالف .
( 127 )

العدل الذي لا يحكم إلا بالحق . ألا له الحكم : يومئذ لا حكم لغيره . وهو أسرع الحاسبين : يحاسب الخلائق في مقدار لمح البصر كما مر في سورة البقرة .
وفي الأعتقادات : أن الله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين يوم القيامة بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة يسمع منها كل واحد قضيته دون غيره ، ويظن أنه المخاطب دون غيره ، لا يشغله عز وجل مخاطبة عن مخاطبة ، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار نصف ساعة من ساعات الدنيا .
(63) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر من شدائدهما استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الأبصار ، فقيل : لليوم الشديد : يوم مظلم . تدعونه تضرعا : متضرعين بألسنتكم . وخفية : ومسرين في أنفسكم لئن أنجانا من هذه : على إرادة القول أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الظلمة والشدة لنكونن من الشكرين .
(64) قل الله ينجيكم منها : وقريء بالتخفيف . ومن كل كرب : غم سواها . ثم أنتم تشركون : تعودون إلى الشرك ، ولا توفون بالعهد بعد قيام الحجة عليكم .
(65) قل هو القادر على أن يبعث : يرسل عليكم عذابا من فوقكم : كما أمطر على قوم لوط ، وعلى أصحاب الفيل الحجارة . ومن تحت أرجلكم : كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون . أو يلبسكم : يخلطكم . شيعا : فرقا مختلفي الأهواء ، كل فرقة منكم مشايعة للأمام ، ومعنى خلطهم أن يختلطوا أو يشتبكوا في ملاحم القتال . ويذيق بعضكم بأس بعض : يقتل بعضكم بعضا . انظر كيف نصرف الآيات : بالوعد والوعيد . لعلهم يفقهون
العياشي ، والقمي : عن الباقر عليه السلام ( عذابا من فوقكم ) : هو الدخان ، والصيحة ، ( أو من تحت أرجلكم ) : هو الخسف ، ( أو يلبسكم شيعا ) : هو الأختلاف في الدين ، وطعن بعضكم على بعض ، ( ويذيق بعضكم بأس بعض ) : هو أن يقتل بعضكم بعضا ، وكل هذا في أهل القبلة ، يقول الله : ( أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) . وفي المجمع : عن الصادق عليه السلام ، ( من فوقكم ) : من السلاطين الظلمة ، ( ومن تحت أرجلكم ) : العبيد السوء ، ومن لا خير فيه ، ( أو يلبسكم شيعا ) : يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة


( 128 )

والعصبية ، ( ويذيق بعضكم بأس بعض ) : هو سوء الجوار .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم ، فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني ، وسألته أن لا يجمعهم على ضلال فأعطاني ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني قال
وفي الخبر أنه قال : إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة .
(66) وكذب به قومك وهو الحق قيل : أي بالقرآن ، وقيل : أي بالعذاب . وهو الحق الصدق أو الواقع لابد أن ينزل . قل لست عليكم بوكيل بحفيظ .
(67) لكل نبأ خبر مستقر وقت استقرار ووقوع . وسوف تعلمون : عند وقوعه .
(68) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والأستهزاء بها والطعن فيها . فأعرض عنهم : فلا تجالسهم ، وقم من عندهم .
العياشي : عن الباقر عليه السلام في هذه الآية قال : الكلام في الله ، والجدال في القرآن ، قال : منه القصاص . حتى يخوضوا في حديث غيره : غير ذلك . وإما ينسينك الشيطان النهي ، وقريء ينسينك بالتخفيف . فلا تقعد بعد الذكرى (1) بعد أن تذكر مع القوم الظالمين أي معهم فوضع الظاهر موضعه تنبيها على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والأستهزاء موضع التصديق والأستعظام .
في العلل عن السجاد ليس لك أن تقعد مع من شيءت لأن الله تبارك وتعالى يقول : ( وإذا رأيت الذين ) الآية .
والقمي : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم إن الله تعالى يقول في كتابه : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ) الآية .
____________
(1) ودفعا لتوهم رجوع الضمير الى خصوص هؤلاء المكذبين المعهودين بل النهي عام لكل من فعل مثل فعلهم .