وفي الكافي : كان علي بن الحسين عليهما السلام يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتى يطلع الفجر . ويقول : إن الله جعل الليل سكنا لكل شيء ، وقريء وجاعل الليل . والشمس والقمر حسبانا : على أدوار مختلفة تحسب بها الأوقات . ذلك تقدير العزيز : الذي قهرهما وسيرهما على الوجه الخاص العليم : بتدبيرهما .
(97) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر (1) : في ظلمات الليل في البر والبحر ، وأضافتها إليهما للملابسة ، أو في مشتبهات الطرق ، أو الامور سماها ظلمات على الأستعارة . القمي : مقطوعا قال : ( النجوم ) : آل محمد عليهم السلام . قد فصلنا الآيات : بيناها فصلا فصلا . لقوم يعلمون : فإنهم منتفعون به .
(98) وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام . فمستقر : وقرء بكسر القاف أي قار . ومستودع : والعياشي : عن الباقر عليه السلام إنه قال لأبي بصير حين سأله عن هذه الآية : ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه ؟ قال : يقولون : مستقر : في الرحم ، ومستودع : في الصلب ، فقال : كذبوا ، المستقر : من استقر الأيمان في قلبه فلا ينزع منه أبدا ، والمستودع : الذي يستودع الأيمان زمانا ثم يسلبه ، وقد كان الزبير منهم .
وعن الصادق عليه السلام : أنه سئل عنها ؟ فقال : مستقر : في الرحم ، ومستودع : في الصلب ، وقد يكون مستودع الأيمان ثم ينزع منه ، ولقد مشى الزبير في ضوء الأيمان ونوره حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مشى بالسيف ، وهو يقول : لا نبايع إلا عليا . وفي رواية : قال : المستقر : الثابت ، والمستودع : المعار .
وعن الكاظم عليه السلام في هذه الآية : ما كان من الأيمان المستقر : فمستقر إلى
____________
(1) لان من النجوم ما يكون بين يدي الانسان ومنها ما يكون خلفه ومنها ما يكون عن يمينه ومنها ما يكون عن يساره ويهتدي بها في الاسفار وفي البلاد وفي القبلة وأوقات الليل وإلى الطريق في مسالك البراري والبحار وقال البلخي ليس في قوله لتهتدوا ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك بل خلقها سبحانه لامور جليلة عظيمة ومن فكر في صغر الصغير منها وكبر الكبير واختلاف مواقعها ومجاريها واتصالاتها وسيرها وظهور منافع الشمس والقمر في نشو الحيوان والنبات علم أن الامر كذلك .
( 143 )

يوم القيامة أبدا ، وما كان مستودعا سلبه الله قبل الممات .
وفي الكافي : عنه عليه السلام أن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء ، وخلق المؤمنين على الأيمان فلا يكونون إلا مؤمنين ، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه ، قال : وفيهم جرت ( فمستقر ومستودع ) ، وقال : إن فلانا كان مستودعا إيمانه فلما كذب علينا سلب إيمانه ذلك .
أقول : كني بفلان عن أبي الخطاب محمد بن مقلاص الغالي كما يستفاد من حديث آخر . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون : قيل : ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة ، وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى إستعمال فطنة وتدقيق نظر .
(99) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا : على تلوين ( 1 ) الخطاب . به : بالماء . نبات كل شيء : نبت كل شيء من أصناف النبات ، والمعنى إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة بماء واحد كما قال : ( يسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل ) . فأخرجنا منه خضرا نبتا غضا أخضر وهو الخارج من الحبة المتشعب نخرج منه : من الخضر . حبا متراكبا : قد ركب بعضه على بعض ، وهو السنبل . ومن النخل من طلعها قنوان أعذاق (2) جمع قنو ، كصنوان جمع صنو دانية : قريبة من التناول . وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه : بعضها متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم ، وبعضها غير متشابه . انظروا إلى ثمره : إلى ثمر كل واحد من ذلك ، وقريء بضم الثاء على الجمع . إذا أثمر : إذا أخرج ثمره كيف يكون صغيرا حقيرا لا يكاد ينتفع به . وينعه : وإلى حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة مصدر ينعت (3) الثمرة : إذا
____________
(1) تلوين الخطاب لغيره من اسلوب الى آخر وهو من البلاغة .
(2) العذق النخلة بحملها وبالكسر والقنو منها والعنقود من العنب وإذا اكل ما عليه اعذاق .
(3) ينع الثمر كمنع وضرب ينعا وينعا وينوعا بضمهما حان قطافه كأينع واليانع الاحمر من كل شيء والثمر الناضج . كالينع جمع ينع .

( 144 )

أدركت أو جمع يانع . إن في ذلكم لآيات : على وجود صانع عليم حكيم قدير ، يقدره ، ويدبره ، وينقله من حال إلى حال . لقوم يؤمنون : فإنهم المنتفعون .
(100) وجعلوا لله شركاء الجن : الملائكة جعلوهم أندادا لله فعبدوهم وقالوا : إنهم بنات الله ، سماهم جنا لاجتنانهم (1) ، وتحقيرا لشأنهم ونحوه وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا .
وقيل : بل اريد بالجن : الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله ، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم ، وقالوا إن الله خالق الخير ، وإبليس خالق الشر . وخلقهم وقد خلقهم (2) أي وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن ، وليس من يخلق كما لا يخلق . وخرقوا (3) له : واختلقوا لله . بنين وبنات : فإن المشركين قالوا : الملائكة بنات الله ، وأهل الكتابين : عزير ابن الله ، والمسيح : ابن الله ، وقرء وخرقوا للتكثير . بغير علم : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ، ولكن جهلا منهم بعظمة الله . سبحانه وتعالى عما يصفون : وهو أن له شريكا وولدا .
(101) بديع السموات والارض أي هو مبدعهما ومنشؤهما بعلمه ابتداء لا من شيء ولا على مثال سبق كذا في المجمع عن الباقر عليه السلام أنى يكون له ولد من أين وكيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة يكون منها الولد وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ومن كان بهذه الصفات فهو غني عن كل شيء .
(102) ذلكم موصوف بهذه الصفات الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء .
في الخصال عن الباقر عليه السلام .
وفي العيون : عن الرضا عليه السلام أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين والله خالق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض فاعبدوه فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة وهو على كل شيء وكيل حفيظ مدبر وقيل هو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها (4) إليه وتوسلوا بعبادته إلى انجاح مأربكم ورقيب على
____________
(1) أي لإستتارهم من جنة الليل .
(2) خلق الإفك افتراه كاختلقه وتخلقه .
(3) خرق الرجل كذب .
(4) وكل بالله يكل وتوكل عليه فأوكل واتكل استسلم إليه ووكل إليه الأمر وكلا ووكولا سلمه وتركه .

( 145 )

أعمالكم فيجازيكم عليها .
(103) لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار .
في الكافي والتوحيد عن الصادق عليه السلام في هذه الآية يعني إحاطة الوهم الا ترى إلى قوله وقد جاءكم بصائر من ربكم ليس يعني بصر العيون فمن أبصر فلنفسه ليس يعني من البصر بعينه ومن عمي فعليها لم يعن عمى العيون إنما عني إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب الله أعظم من أن يرى بالعين .
وعن الباقر عليه السلام في هذه الآية أوهام القلوب أدق من أبصار العيون أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولم تدركها ببصرك وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات وأما قوله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فهو كما قال لا تدركه الأبصار لا تحيط به الأوهام وهو يدرك الأبصار يعني يحيط بها .
وفي المجمع والعياشي عن الرضا عليه السلام أنه سئل عما اختلف الناس من الرؤية فقال من وصف الله سبحانه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على الله لا تدركه الأبصار وهذه الأبصار ليست هذه الأعين إنما هي الأبصار التي في القلوب لا يقع عليه الأوهام . وهو اللطيف (1) الخبير .
في الكافي والتوحيد والعيون عن الرضا عليه السلام وأما اللطيف فليس على قلة وقصافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والإمتناع من أن يدرك كقول الرجل لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنه غمض فيه العقل
____________
(1) في الحديث إن الله لطيف ليس على قلة وقضافة صغر للقضافة بالضم والقضف محركة النحافة والقضف الدقة وقد قضف بالضم قضافة فهو قضيف اي نحيف والجمع قضاف .
( 146 )

وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف واللطافة منا الصغر والقلة فقد جمعنا الأسم واختلف المعنى قال :
وأما الخبير فالذي لا يغرب عنه شيء ولا يفوته شيء ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء فتفيده التجربة والأعتبار علما ولولاهما ما علم لأن من كان كذلك كان جاهلا والله لم يزل خبيرا بما يخلق والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم فقد جمعنا الأسم واختلف المعنى .
(104) قد جاءكم بصائر (1) من ربكم البصيرة للقلب كالبصر للبدن فمن أبصر الحق وآمن به فلنفسه أبصر لأن نفعه لها ومن عَمِيَ عن الحق وضل فعليها وباله وما أنا عليكم بحفيظ : وإنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها ، وهذا كلام ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
(105) وكذلك نُصرّف الآيات مثل ذلك التصريف نصرف وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال وليقولوا درست : أي ( وليقولوا درست ) صرفنا ، واللام للعاقبة ، والدرس : القراءة والتعلم ، وقريء ( دارست ) أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم ، ودرست : من الدروس أي : قدمت هذه الآيات ، وعفت كقولهم : ( أساطير الأولين ) .
القمي : كانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الذي تخبرنا من الأخبار تتعلمه من علماء اليهود وتدرسه . ولنبينه : ( اللام ) هنا على أصله ، لأن التبيين مقصود التصريف ، والضمير للآيات باعتبار المعنى . لقوم يعلمون : فإنهم المنتفعون به .
____________
(1) قوله بصائر من ربكم أي حجج بينة واحدها بصيرة وهي الدلالة التي يستبصرها الشيء على ما هو به وهو نور .
( 147 )

وأعرض عن المشركين : ولا تحتفل (1) بأقوالهم ، ولا تلتفت إلى آرائهم .
(107) ولو شاء الله ما أشركوا .
في المجمع : في تفسير أهل البيت عليهم السلام ولو شاء الله أن يجعلهم كلهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنة ولا إلى نار ، ولكنه أمرهم ونهاهم وامتحنهم وأعطاهم ما له عليهم به الحجة من الالة والأستطاعة ليستحقوا الثواب والعقاب .
القمي : ما يقرب منه . وما جعلناك عليهم حفيظا : رقيبا . وما أنت عليهم بوكيل : تقوم بأمورهم .
(108) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله : ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح . فيسبوا الله عدوا : تجاوزا عن الحق إلى الباطل . بغير علم : على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به .
في المجمع ، والقمي : عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشرك أخفى من دبيب (2) النمل على صفا (3) سوداء ، في ليلة ظلماء فقال : كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله . فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون ، فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسبوا الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون .
وفي الكافي : عنه عليه السلام في حديث طويل وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم .
والعياشي : عنه عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية فقال : رأيت أحدا يسب الله ؟ فقيل : لا ، وكيف ؟ قال : من سب ولي الله فقد سب الله . وفي إعتقادات عنه عليه السلام أنه
____________
(1) أي لا تعتن كمال الاعتناء بأقوالهم من الاحتفال بمعنى حسن القيام بالامور .
(2) دب يدب دبا ودبيبا مشى على هيئته وهو خفيّ .
(3) الصفا والصفاة صخرة ملساء .

( 148 )

قيل : إنا نرى في المسجد رجلا يعلن بسب أعدائكم ويسبهم ، فقال : ما له لعنه الله تعرض بنا ، قال الله : ( ولا تسبوا الذين يدعون ) الآية .
قال : وقال الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية : لا تسبوهم فإنهم يسبون عليكم . وقال : من سب ولي الله فقد سب الله وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي صلوات الله عليه : من سبك فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله فقد كبه (1) الله على منخريه في نار جهنم . كذلك زينا لكل أمة عملهم : في الخير والشر .
والقمي : يعنى بعد اختبارهم ودخولهم فيه ، فنسبه الله إلى نفسه والدليل على ذلك لفعلهم المتقدم : قوله ( بما كانوا يعملون ) . ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون : بالمحاسبة والمجازاة .
(109) وأقسموا بالله جهد أيمانهم حلفوا به مجدين مجتهدين ، القمي : يعني قريشا . لئن جاءتهم آية : من مقترحاتهم . ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء على مقتضى الحكمة ، ليس شيء منها بقدرتي وإرادتي . وما يشعركم : وما يدريكم استفهام إنكار . أنها : إن الآية المقترحة . إذا جاءت لا يؤمنون : بها يعني أنا أعلم إنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تدرون بذلك . قيل : وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجيء الآية ، يتمنون مجيئها فأخبرهم الله سبحانه أنهم ما يدرون ما سبق علمه به من أنهم لا يؤمنون ، ألا ترى إلى قوله : ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) وقيل : ( لا ) مزيدة .
وقيل : ( إن ) بمعنى ( لعل ) ويؤيده قراءة ابي لعلها ، وقريء ( إنها ) بالكسر ، على أن الكلام قد تم قبله ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم وهذا أوضح ، ولا تؤمنون - بالتاء على أن الخطاب للمشركين .
(110) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عطف على لا يؤمنون ، أي وما يشعركم إنا
____________
(1) كببت فلانا كبا ألقيته على وجهه فاكب هو بالالف وهي من النوادر التي يعدى ثلاثيها دون رباعيها .
( 149 )

حينئذ نقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم فلا يبصرونه ، فلا يؤمنون بها . كما لم يؤمنوا به أول مرة : أي بما أنزل الله من الآيات . والقمي : يعني في الذر ، والميثاق . ونذرهم في طغيانهم يعمهون وندعهم متحيرين ولا نهديهم هداية المؤمنين .
القمي : عن الباقر عليه السلام ( ونقلب أفئدتهم ) ، يقول : ننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها ، وتعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدى ، وقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : إن أول ما تقلبون عليه من الجهاد : الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه معروفا ، ولم ينكر منكرا ، نكس قلبه ، وجعل أعلاه أسفله ، فلم يقبل خيرا أبدا .
(111) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا (1) كما اقترحوا فقالوا : ( لو لا أنزل علينا الملائكة ) ( فأتوا بآبائنا ) ( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) .
القمي : قبلا : أي عيانا . وفسر بمعان أخر ، وقريء ( قبلا ) بكسر القاف وفتح الباء وهو بمعناه المذكور . ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون : أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون ، فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم كذا قيل .
(112) وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوا : أي كما جعلنا لك عدوا جعلنا لكل نبي سبقك عدوا بمعنى التخلية بينهم وبين أعدائهم للأمتحان .
القمي : عن الصادق عليه السلام ما بعث الله نبيا قط إلا وفي أمته شيطانان يؤذيانه ويضلان الناس بعده ، فأما صاحبا نوح ففيطيقوس ، وحزام ، وأما صاحبا إبراهيم فمكمل ، ورزام ، وأما صاحبا موسى فالسامري ومرعقيبا ، وأما صاحبا عيسى فبوليس
____________
(1) أي قبيلا قبيلا وقيل عيانا وقبلا أي أصنافا جمع قبيل أي صنف .
( 150 )

ومرينون ، وأما صاحبا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحبتر وزريق بتقديم الزاي على الراء مصغر زرق ، والحبتر بالمهملة ثم الموحدة ثم المثناة من فوق ثم الراء على وزن ـ جعفر ـ : الثعلب ، وإنما كنى عنهما لزرقة عين أحدهما ، وتشبه الآخر بالثعلب في حيلته . شياطين الإنس والجن : مردتهما . يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا : الأباطيل المموهة (1) من زخرفة : إذا زينه .
القمي : يقول بعضهم إلى بعض : لا تؤمنوا بزخرف القول ، فهذا الوحي كذب .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام في حديث من لم يجعله الله من أهل صفة الحق فاولئك شياطين الأنس والجن .
وفي الخصال : عنه عليه السلام الأنس على ثلاثة أجزاء : فجزء تحت ظل العرش يوم لا ظل إلاّ ظله ، وجزء عليهم الحساب والعذاب ، وجزء وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين . ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون .
(113) ولتصغي إليه : تميل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه لأنفسهم . وليقترفوا : وليكتسبوا ما هم مقترفون : من الآثام .
(114) أفغير الله أبتغي حكما : يعني قل لهم : أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق منا من المبطل وهو الذي أنزل إليكم الكتاب : القرآن . مفصلا : مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والألتباس . والذين آتيناهم الكتاب : التورات والأنجيل . يعلمون أنه منزل من ربك بالحق : لتصديق ما عندهم إياه ولتصديقه وما عندهم مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم ، فلا تكونن من الممترين : في أنهم يعلمون ذلك أو في أنه منزل بجحود أكثرهم فيكون من باب التهييج كقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) ومن قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة .
____________
(1) موهت الشيء بالتشديد إذا طليته بفضة أو ذهب وتحت ذلك نحاس أو حديد ومنه التمويه وهو التلبيس وقول مموه اي مزخرف مزخرف أو ممزوج من الحق والباطل .
( 151 )

(115) وتمت كلمت ربك : ما تكلم به من الحجة وقرأت ( كلمات ربك ) . يعني بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده . صدقا : في الأخبار والمواعيد وعدلا : في الأقضية والأحكام . لا مبدل لكلمته : لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل . وهو السميع : بما يقولون . العليم : بما يضمرون .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام إن الأمام يسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين كتفيه ، وفي رواية بين عينيه . وفي أخرى : على عضده الأيمن ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) الآية فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة .
وفي رواية فبهذا (1) يحتج الله على خلقه .
والقمي ، والعياشي : ما يقرب منه .
(116) وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله : لأن الأكثر في الغالب يتبعون الأهواء . إن يتبعون إلا الظن : وهو ظنهم أن آباءهم كانوا محقين وهم يقلدونهم ، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة . وإن هم إلا يخرصون : يقولون : عن تخمين .
(117) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله : أي بمن يضل أو استفهام . وهو أعلم بالمهتدين : أي أعلم بالفريقين .
(118) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه : مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحلون الحرام وذلك أنهم قالوا للمسلمين : أتأكلون مما قتلتم أنتم ولا تأكلون مما قتل ربكم ؟ فقيل : كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه خاصة دون ما يذكر عليه اسم غيره ، أو مات حتف أنفه . إن كنتم بآياته مؤمنين : فإن الأيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله واجتناب ما حرمه .
(119) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه : وأي غرض لكم بأن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم منه . وقد فصل لكم ما حرم عليكم : مما لم يحرم بقوله
____________
(1) أي فبمن يكون على هذه الصفة .
( 152 )

حرمت عليكم الميتة ، وقريء ( فصل ) على البناء للمفعول و ( حرم ) على البناء للفاعل . إلا ما اضطررتم إليه : مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة . وإن كثيرا ليضلون : بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، وقريء بضم الياء . بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين : المتجاوزين الحق إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام .
(120) وذروا ظاهر الإثم وباطنه : ما يعلن وما يسر .
القمي : قال : الظاهر من الإثم : المعاصي ، والباطن : الشرك والشك في القلب . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون : يعملون .
(121) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه : في الفقيه ، والتهذيب : عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن مجوسي قال : بسم الله وذبح فقال : كل ، فقيل : مسلم ذبح ولم يسم فقال : لا تأكل إن الله يقول : ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب ؟ فقال : لا بأس إذا ذكر اسم الله عليه ، ولكني أعني منهم من يكون على أمر موسى وعيسى عليهما السلام .
وعنه عليه السلام : إنه سئل عن ذبائح اليهود والنصارى ؟ فقال : الذبيحة اسم ولا يؤمن على الأسم إلا مسلم .
وفي التهذيب : عن الباقر عليه السلام في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني ، قال : لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله عليه أما سمعت قول الله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .
أقول : هذا الحديث يوضح سابقه ويحكم عليهما ، ويفصل إجمالهما ، كما أن أولهما يحكم عليه ، والثلاثة توفق بين كل ما ورد في هذا المعنى مع كثرته واختلافه .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن رجل ذبح ولم يسم ، فقال


( 153 )

إن كان ناسيا فليسم حين يذكر ، ويقول بسم الله على أوله وآخره .
وعنه عليه السلام : إذا ذبح المسلم ولم يسم ونسي فكل من ذبيحته وسم الله على ما تأكل .
وفيه : عنه عليه السلام أنه سئل عن رجل ذبح فسبح أو كبر أو هلل أو حمد الله ، قال : هذا كله من أسماء الله تعالى ، ولا بأس به . وإنه لفسق : وان الفسق : ما أهل لغير الله به لقوله تعالى : ( أو فسقا أهل لغير الله به ) . وإن الشياطين (1) ليوحون : ليوسوسون . إلى أوليائهم : من الكفار . ليجادلوكم : بقولهم : تأكلون ما قتلتم أنتم ، وجوارحكم ، وتدعون ما قتله الله . وإن أطعتموهم : في إستحلال ما حرم . إنكم لمشركون : فإن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك بالله .
(122) أو من كان ميتا : وقريء بالتشديد . فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها : يعني مثل من هداه الله وأنقذه من الضلالة وجعل له حجة يهدي بنورها كمن صفته البقاء في الضلالة لا يفارقها بحال أبدا .
وفي الكافي : عن الباقر عليه السلام ( ميتا ) : لا يعرف شيئا ، و ( نورا يمشي به في الناس ) : إماما يؤتم به ، ( كمن مثله في الظلمات ) : الذي لا يعرف الأمام . والعياشي : مثله .
وعنه عليه السلام الميت : الذي لا يعرف هذا الشأن يعني هذا الأمر ، و ( جعلنا له نورا ) إماما يأتم به يعني علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ( كمن مثله في الظلمات ) قال : بيده هكذا هذا الخلق الذي لا يعرفون شيئا . وفي المناقب : عن الصادق عليه السلام كان ميتا عّنا فأحييناه بنا .
والقمي : كان جاهلا عن الحق والولاية فهديناه إليها ، قال : ( النور ) : الولاية في
____________
(1) يعني علماء الكافرين ورؤساؤهم المتمردين في كفرهم وقال ابن عباس معناه وإن الشياطين من الجن وهم ابليس وجنوده ليوحون إلى أوليائهم من الانس والوحي القاء المعنى الى النفس من وجه خفي وهم يلقون الوسوسة الى قلوب أهل الشرك .
( 154 )

الظلمات يعني ولاية غير الأئمة عليهم السلام .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام في حديث قال الله تعالى : ( يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ) فالحي : المؤمن الذي يخرج طينته من طينة الكافر ، والميت الذي يخرج من الحي : هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن ، فالحي : المؤمن ، والميت : الكافر ، وذلك قوله عز وجل : ( أو من كان ميتا فأحييناه ) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر ، وكان حياته حين فرق الله بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور ، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور ، وذلك قوله عز وجل : ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) . كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون .
في المجمع : عن الباقر عليه السلام إن الآية نزلت في عمار بن ياسر ، وأبي جهل .
(123) وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها أي كما جعلنا في مكة والمعنى خليناهم وشأنهم . ليمكروا ولم نكفهم عن المكر ، وإنما خص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم . وما يمكرون إلا بأنفسهم : لأن وباله يحيق (1) بهم . وما يشعرون : ذلك .
(124) وإذا جاءتهم آية قالوا : القمي : قال الأكابر . لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله : روي أن أبا جهل قال : زاحمنا (2) بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت . ونحوه قوله عز وجل : ( بل يريد كل امريء منهم أن يؤتى
____________
(1) قوله تعالى وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون أي احاط بهم وحل يقال حاق بهم العذاب حيقا إذا نزل والحيق نزول البلاء .
2 - قوله لع تزاحمنا أي ضايقنا الامر عليهم من كل وجه ولم نقصر عنهم في شرف حتى صرنا كالفرسين المتسابقين في ميدان الاستباق يهم في سبق كل منهما على الآخر فلا نسلم أبدا لهم شرفا لا يكون مثله لنا فلا نؤمن بالآيات المنزلة فيهم إلا أن ينزل مثلها فينا حتى لا نقصر عنهم .