القمي : قال : المجازاة بالأعمال إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا ، قال : وهو قوله : ( فمن ثقلت ) الآية .
فمن ثقلت موازينه : حسناته جمع موزون .
في التوحيد : عن أمير المؤمنين عليه السلام إنما يعني الحسنات توزن الحسنات والسيئات ، والحسنات ثقل الميزان ، والسيئات خفة الميزان .
وفي الأحتجاج : عنه عليه السلام هي قلة الحسنات وكثرتها . فأولئك هم المفلحون : الفائزون بالنجاة والثواب .
(9) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم : بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها ، واقتراف ما عرضها للعذاب . بما كانوا بآياتنا يظلمون : فيكذبون مكان التصديق ، القمي : قال : بالأئمة يجحدون .
في الأحتجاج : عن الصادق عليه السلام إنه سئل أو ليس توزن الأعمال ؟ قال : لا لأن الأعمال ليست أجساما ، وإنما هي صفة ما عملوا ، وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها ولا خفتها ، وإن الله لا يخفى عليه شيء ، قيل : فما معنى الميزان ؟ قال : العدل قيل : فما معناه في كتابه : ( فمن ثقلت موازينه ) ؟ قال : فمن رجح عمله .
أقول : وسر ذلك أن ميزان كل شيء هو المعيار الذي به يعرف قدر ذلك الشيء فميزان الناس يوم القيامة : ما يوزن به قدر كل إنسان ، وقيمته على حسب عقيدته وخلقه وعمله لتجزى كل نفس بما كسبت ، وليس ذلك إلا الأنبياء والأوصياء عليهم السلام إذ بهم وباتباع شرايعهم وإقتفاء آثارهم وترك ذلك ، وبالقرب من سيرتهم والبعد عنها يعرف مقدار الناس وقدر حسناتهم وسيئاتهم . فميزان كل امة هو نبي تلك الأمة ، ووصي نبيها ، والشريعة التي أتى بها ، فمن ثقلت حسناته وكثرت فاولئك هم المفلحون ، ومن خفت وقلت فاولئك الذين خسروا أنفسهم بظلمهم عليها من جهة تكذيبهم للأنبياء والأوصياء أو عدم إتباعهم .
في الكافي ، والمعاني : عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن قول الله عز وجل : ( ونضع الموازين
( 182 )
القسط ليوم القيامة ) قال : هم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام .
وفي رواية اخرى : نحن الموازين القسط . وقد حققنا معنى الميزان وكيفية وزن الأعمال ووقفنا بين الأخبار المتعارضة في ذلك والأقوال بما لا مزيد عليه في كتابنا الموسوم بميزان القيامة وهو كتاب جيد لم يسبق بمثله فيما أظن يوفق لمطالعته وفهمه من كان من أهله إن شاء الله .
(10) ولقد مكناكم في الأرض : مكناكم من سكناها ، وزرعها ، والتصرف فيها . وجعلنا لكم فيها معايش : تعيشون بها . قليلا ما تشكرون : فيما خلقنا لكم .
(11) ولقد خلقناكم ثم صورناكم .
القمي : عن الباقر عليه السلام أما خلقناكم : فنطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم لحما ، وأما صورناكم : فالعين ، والأنف ، والأذنين ، والفم ، واليدين ، والرجلين صور هذا ونحوه ، ثم جعل الدميم ، والوسيم ، والجسيم ، والطويل ، والقصير ، وأشباه هذا .
أقول : الأقتصار على بيان الخلق والتصوير لبني آدم في الحديث لا ينافي شمول الآية لآدم فأنه خلقه طينا غير مصور ثم صوره ، فلا ينافي الحديث تمام الآية . ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم : أي بعد خلق آدم وتصويره . فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين : ممن سجد لآدم .
(12) قال ما منعك ألا تسجد : أي أن تسجد يزاد ـ لا ـ في مثله لتأكيد معنى الفعل الذي دخلت عليه نظيره لئلا يعلم ، وفيه تنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود . وقيل : الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى أن لا تسجد ؟ إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين : في الكافي : عن الصادق عليه السلام أن إبليس قاس نفسه بآدم فقال : خلقتني من نار وخلقته من طين ، فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا وضيئا من النار . وعنه عليه السلام : أن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ، وكان في علم الله أنه ليس منهم فاستخرج ما في نفسه من الحمية فقال : ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) .
( 183 )
وفي الكافي ، والأحتجاج ، والعلل : عنه عليه السلام أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال له : يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس ، قال : نعم أنا أقيس ، قال : لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال : ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) فقاس ما بين النار والطين ، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين ، وصفاء أحدهما على الآخر .
وعنه عليه السلام في حديث طويل : إن أول معصية ظهرت : الأنانية من إبليس اللعين ، حين أمر الله ملائكته بالسجود لآدم فسجدوا وأبى اللعين أن يسجد ، فقال الله عز وجل : ( ما منعك ألا تسجد ) ؟ الآية فطرده الله عز وجل عن جواره ، ولعنه وسماه رجيما ، وأقسم بعزته لا يقيس أحد في دينه إلا قرنه مع عدوه إبليس في أسفل درك من النار .
والقمي : عنه عليه السلام كذب إبليس ما خلقه الله إلا من طين ، قال الله عز وجل : ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) قد خلقه الله من تلك الشجرة ، والشجرة أصلها من طين .
(13) قال فاهبط منها : من المنزلة التي أنت عليها في السماء ، وزمرة الملائكة . فما يكون لك : فما يصح لك . أن تتكبر فيها : وتعصي فإنها مكان الخاشع المطيع . قيل : فيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة ، وأنه تعالى إنما طرده وأهبطه للتكبر لا لمجرد عصيانه ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر وضعه الله . فاخرج إنك من الصاغرين : ممن أهانه الله تعالى لكبره .
(14) قال أنظرني إلى يوم يبعثون : أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني ، ولا تعجل عقوبتي .
(15) قال إنك من المنظرين : أجابه الله إلى ما سأله من الأمهال ، ولم يجبه إلى ما سأله من غايته ، لأن الله يقول في موضع آخر : ( فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) ، وهو النفخة الاولى ، ويوم البعث والقيامة : هو النفخة الثانية .
في العلل : عن الصادق عليه السلام يموت إبليس ما بين النفخة الاولى والثانية .
والعياشي : عنه عليه السلام أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا ، ويأتي الخبران في سورة
( 184 )
الحجر إن شاء الله تعالى ، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته .
(16) قال فبما أغويتني : أي فبسبب إغوائك إياي وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي ولم يثبت كما ثبتت الملائكة فإنه لما أمره الله بالسجود حملته الأنفة على معصيته . لأقعدن لهم صراطك المستقيم : لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم بأن أترصد لهم على طريق الأسلام كما يترصد القطاع على الطريق ليقطعه على المارة .
العياشي : عن الصادق عليه السلام الصراط هنا : علي عليه السلام .
وفي الكافي : عن الباقر عليه السلام يا زرارة إنما عمد لك ولأصحابك ، فأما الآخرون فقد فرغ منهم . وفي رواية العياشي : عنه عليه السلام إنما صمد (1) .
(17) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم : من الجهات الأربع جمع .
في المجمع : عن الباقر عليه السلام : ( ثم لاتينهم من بين أيديهم ) معناه اهوّن عليهم أمر الآخرة ( ومن خلفهم ) أمرهم بجمع الأموال ، والبخل بها عن الحقوق ، لتبقى لورثتهم ( وعن أيمانهم ) أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة ( وعن شمائلهم ) بتحبيب اللذات إليهم ، وتغليب الشهوات على قلوبهم (2) والقمي : ما يقرب منه ببيان أبسط . ولا تجد أكثرهم شاكرين : مطيعين قاله تظننا لقوله سبحانه : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ) .
(18) قال اخرج منها مذؤما : مذموما من ذأمه إذا ذمه . مدحورا : مطرودا . لمن تبعك
____________
(1) يصمد في الحوائج يقصد والصمد القصد يقال صمده يصمده صمدا .
(2) قيل المعنى من قبل دنياهم وآخرتهم ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم عن ابن عباس وتلخيصه إني ازين لهم الدنيا وأخوفهم بالفقر وأقول لهم لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب واثبطهم عن الحسنات واشغلهم عنها واحبب إليهم السيئات واحثهم عليها قال ابن عباس وانما لم يقل من فوقهم لان فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له الى ذلك ولم يكن من تحت ارجلهم لان الاتيان به يوحش انتهى وانما دخلت من في القدام الخلف وعن في اليمين والشمال لان في القدام والخلف معنى طلب النهاية وفي اليمين والشمال الانحراف عن الجهة .
( 185 )
منهم : اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه . لأملأن جهنم منكم أجمعين : أي منك ومنهم فغلب المخاطب .
القمي : عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين فقال إبليس : يا رب فكيف وأنت العدل الذي لا يجور فثواب عملي بطل ؟ قال : لا ، ولكن سلني من أمر الدنيا ما شيءت ثوابا لعملك أعطك ، فأول ما سئل : البقاء إلى يوم الدين ، فقال الله : قد أعطيتك ، قال : سلطني على ولد آدم ، قال : سلطتك ، قال : أجرني فيهم مجرى الدم في العروق ، قال : قد أجريتك ، قال : لا يولد لهم ولد إلا ولد لي إثنان ، وأراهم ولا يروني ، وأتصور لهم في كل صورة شيءت ، فقال : قد أعطيتك ، قال : يا رب زدني قال : قد جعلت لك ولذريتك في صدورهم أوطانا ، قال : يا رب حسبي ، قال إبليس عند ذلك : ( فبعزتك لأغوينهم إلى قوله ( شاكرين ) ، قال له : جعلت فداك بماذا استوجب إبليس من الله أن أعطاه ما أعطاه ؟ فقال : لشيء كان منه شكره الله عليه ، قيل : وما كان منه جعلت فداك ؟ قال : ركعتين ركعهما في السماء في أربعة آلاف سنة .
(19) ويا آدم : وقلنا يا آدم . اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شيءتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين : قد مضى تفسيرها في سورة البقرة .
(20) فوسوس لهما الشيطان الفرق بين وسوس إليه ووسوس له : أن الأول : بمعنى الأصل : الصوت الخفي . ليبدي لهما : ليظهر لهما . ما وري (1) : غطي . عنهما من سوآتهما : عوراتهما . قيل : وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر . وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا : كراهة أن تكونا . ملكين أو تكونا من الخالدين .
(21) وقاسمهما : أقسم لهما . إني لكما لمن الناصحين .
(22) فدلاهما : فدلهما إلى الأكل من الشجرة ، نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة ، فإن التدلية والأدلاء : إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل بغرور بما
____________
(1) قيل تكتب بواو واحدة وتلفظ بواوين مثل داود .
( 186 )
غرهما به من القسم . فإنهما ظنا أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما : فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما .
القمي ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام كانت سواتهما لا تبدو لهما فبدت ، يعني كانت داخلة . وطفقا يخصفان (1) : وأخذا يرقعان (2) ويلزقان ورقة فوق ورقة . عليهما من ورق الجنة : يغطيان سواتهما به .
القمي : عن الصادق عليه السلام لما أسكنه الله الجنة وأباحها له إلا الشجرة لأنه خلق الله خلقة لا تبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والأكنان (3) والتناكح ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوقيف فجائه إبليس فقال له : إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبدا وإن لم تأكلا منها أخرجكما من الجنة ، وحلف لهما أنه لهما ناصح ، فقبل آدم عليه السلام قوله فأكلا من الشجرة وكان الأمر كما حكى الله ( بدت لهم سواتهما ) ، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من لباس الجنة ، وأقبلا يستران من ورق الجنة . وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين : عتاب على مخالفة النهي ، وتوبيخ على الأغترار بقول العدو .
(23) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
(24) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قد مضى تفسيرها مع تمام القصة في سورة البقرة .
____________
(1) أي يلزقان بعضه على بعض ليسترا به عورتهما من الخصف وهم ضم الشيء الى الشيء والالصاق به .
(2) رقع الثوب أصلحه بالرقاع .
(3) الكن بالكسر وقا كل شيء وستره كالكنة والكنان بكسرهما والبيت ج اكنان واكنة .
( 187 )
(25) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون : بالجزاء للجزاء ، وقرء بفتح التاء .
(26) يا بني آدم : العياشي : عنهما عليهما السلام قالا : هي عامة . قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم : ويغنيكم عن خصف الورق . وريشا : تتجملون به ، والريش ما يتجمل به ، استعير من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته . ولباس (1) التقوى : خشية الله ذلك خير : وقرء لباس بالنصب .
القمي : قال : لباس التقوى ثياب البياض .
وعن الباقر عليه السلام : وأما اللباس : فالثياب التي تلبسون ، وأما الرياش : فالمتاع والمال ، وأما لباس التقوى : فالعفاف ، إن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عاريا من الثياب ، والفاجر : بادي العورة وإن كان كاسيا من الثياب ، ( ذلك خير ) ، يقول : والعفاف خير . ذلك : أي انزال اللباس . من آيات الله : الدالة على فضله ورحمته . لعلهم يذّكّرون : فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبايح .
(27) يابني آدم لا يفتننكم الشيطان : لا يمتحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة باغوائكم ، والمعنى نهيهم عن اتباعه والأفتتان به . كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما أسند النزع إليه للتسبب . إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم : تعليل للنهي ، وتأكيد للتحذير من فتنته ، وقبيله : جنوده ، وفي الحديث : أن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم منه . إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون : لما بينهم من التناسب .
(28) وإذا فعلوا فاحشة : فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم ، والأئتمام بإمام الجور ، والطواف بالبيت عريانا . قالوا وجدنا عليها آبآءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون
____________
(1) قوله ولباس التقوى خشية الله وقيل السمت الحسن وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره ذلك خيرا أو خير وذلك صفته كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ولباس بالنصب عطفا على لباسا .
( 188 )
القمي : قال الذين عبدوا الأصنام فرد الله عليهم .
وفي الكافي : مضمرا ، والعياشي : عن عبد صالح قال : هل رأيت أحدا زعم أن الله أمرنا بالزنا وشرب الخمر وشيء من هذه المحارم ؟ فقيل : لا ، قال : ما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرهم بها ؟ قيل : الله أعلم ووليه ، فقال : فإن هذا في أئمة الجور إدعوا أن الله أمرهم بالأيتمام بقوم لم يأمرهم الله بالأيتمام بهم فرد الله ذلك عليهم فأخبر أنهم قد قالوا عليه الكذب ، وسمى ذلك منهم فاحشة . والعياشي : عن الصادق عليه السلام قال : من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله .
(29) قل أمر ربي بالقسط : بالعدل والأستقامة . وأقيموا وجوهكم : توجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها أو أقيموها نحو القبلة . عند كل مسجد : في كل وقت سجودا ، وفي كل مكان سجود ، وهو الصلاة .
في التهذيب : عن الصادق عليه السلام هذه في القبلة . وعنه عليه السلام : مساجد محدثة فأمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام .
والعياشي : مثل الحديثين ، وزاد في الأول ليس فيها عبادة الأوثان خالصا مخلصا ، وعنه عليه السلام : عند كل مسجد : يعني الأئمة . وادعوه : واعبدوه . مخلصين له الدين : أي الطاعة فإن إليه مصيركم . كما بدأكم : كما أنشأكم إبتداءا تعودون : باعادته فيجازيكم على أعمالكم .
القمي : عن الباقر عليه السلام في هذه الآية خلقهم حين خلقهم مؤمنا وكافرا وسقيا وسعيدا ، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتد وضال .
(30) فريقا هدى : بأن وفقهم للأيمان . وفريقا حق عليهم الضلالة : أي الخذلان إذ لم يقبلوا الهدى فضلوا . إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله : أطاعوهم فيما أمروهم به . ويحسبون أنهم مهتدون .
القمي : وكأنه تمام الحديث السابق ، وهم القدرية : الذين يقولون لا قدر ، ويزعمون
( 189 )
إنهم قادرون على الهدى والضلال ، وذلك إليهم إن شاؤا اهتدوا وإن شاؤا ضلوا ، وهم مجوس هذه الأمة وكذب أعداء الله المشيئة والقدرة لله ( كما بدأهم يعودون ) من خلقه شقيا يوم خلقه كذلك يعود إليه ، ومن خلقه سعيدا يوم خلقه كذلك يعود إليه سعيدا ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشقي : من شقي في بطن امه ، والسعيد : من سعد في بطن أمه .
وفي العلل : عنه عليه السلام : أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله يعني أئمة دون أئمة الحق .
(31) يبني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد : القمي : قال : في العيدين ، والجمعة يغتسل ويلبس ثيابا بيضا .
وروي أيضا : المشط عند كل صلاة .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام يعني في العيدين والجمعة .
وفي المجمع : عن الباقر عليه السلام أي خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة في الجمعات والأعياد .
والعياشي : عن الرضا عليه السلام هي الثياب .
وعن الصادق عليه السلام : هي الأردية في العيدين والجمعة .
وفي الجوامع ، والعياشي : كان الحسن بن علي عليهما السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له : في ذلك ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأتجمل لربي ، وقرء الآية .
وفي الفقيه : عن الرضا عليه السلام : من ذلك التمشط عند كل صلاة .
والعياشي : عن الصادق عليه السلام مثله .
وفي الخصال : عنه عليه السلام في هذه الآية تمشطوا فإن التمشط يجلب الرزق ، ويحسن الشعر ، وينجز الحاجة ، في ماء الصلب ، ويقطع البلغم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسرح تحت لحيته أربعين مرة ويمر فوقها سبع مرات ، ويقول : إنه يزيد في الرزق ويقطع البلغم .
( 190 )
وفي التهذيب : عنه عليه السلام في هذه الآية قال : الغسل عند لقاء كل إمام .
والعياشي : عنه عليه السلام يعني الأئمة عليهم السلام . وقيل : هو أمر بلبس الثياب في الصلاة والطواف وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نعبد في ثياب أذنبنا فيها .
القمي : أن أناسا كانوا يطوفون عراة بالبيت الرجال بالنهار والنساء بالليل . فأمرهم الله بلبس الثياب ، وكانوا لا يأكلون إلا قوتا فأمرهم الله أن يأكلوا ويشربوا ولا يسرفوا .
أقول : يعني في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم وكلوا واشربوا : ما طاب لكم . ولا تسرفوا : بالأفراط والأتلاف ، وبالتعدي إلى الحرام ، وبتحريم الحلال ، وغير ذلك . قيل : (1) لقد جمع الله الطب في نصف آية فقال : ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) . وهو ناظر إلى الأفراط في الأكل ، وهو مذموم في أخبار كثيرة . إنه لا يحب المسرفين : لا يرضى فعلهم .
العياشي : عن الصادق عليه السلام قال : أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه ، ومنع من منع من هوان به عليه ، لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودايع وجوز لهم أن يأكلوا قصدا ، ويشربوا قصدا ، ويلبسوا قصدا ، وينكحوا قصدا ، ويركبوا قصدا ، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ، ويلموا به شعثهم ، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ، ويشرب حلالا ، ويركب حلالا ، وينكح حلالا ، ومن عدا ذلك كان عليه حراما ، ثم قال : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) أترى الله إئتمن رجلا على مال خول (2) له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه بعشرين دينارا ، وقال : ( لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . وعنه عليه السلام : قال : من سأل الناس شيئا وعنده ما يقوته يومه فهو من المسرفين .
____________
(1) وقد حكى ان الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن راقد ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الابدان وعلم الاديان فقال له علي قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله كلوا واشربوا ولا تسرفوا وجمع نبينا صلى الله عليه واله وسلم الطب في قوله : المعدة بيت الادواء والحمية رأس كل دواء واعط كل بدن ما عودته فقال الطبيب ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا .
(2) خوله الله المال أعطاه إياه متفضلا .
( 191 )
(32) قل من حرم زينة الله : من الثياب وسائر ما يتجمل به . التي أخرج لعباده : من الأرض كالقطن والكتان والأبريسم والصوف والجواهر . والطيبات من الرزق : المستلذات من المآكل والمشارب ، وهو إنكار لتحريم هذه الأشياء .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام بعث أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن العباس إلى ابن الكوا وأصحابه ، وعليه قميص رقيق وحلة ، فلما نظروا إليه ، قالوا : يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس ؟ فقال : هذا أول ما اخاصمكم فيه ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) وقال الله : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .
والعياشي : عنه عليه السلام ما في معناه .
وفي الكافي : عنه عليه السلام أنه رآه سفيان الثوري وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان ، فقال : والله لآتينه ولأوبخنه فدنا منه ، فقال : يا ابن رسول الله ما لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا اللباس ولا علي عليه السلام ولا أحد من آبائك ، فقال له كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمان قتر (1) مقتر وكان يأخذ لقتره واقتاره وأن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها (2) فأحق أهلها بها ابرارها ثم تلا : ( قل من حرم زينة الله ) الآية فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله غير أني يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ، ثم اجتدب يد سفيان فجرها إليه ، ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا ، فقال : هذا لبسته لنفسي وما رأيته للناس ، ثم جذب ثوبا على سفيان اعلاه غليظ خشن وداخل ذلك الثوب ثوب لين ، فقال : لبست هذا الأعلى للناس ، ولبست هذا لنفسك تسرها .
____________
(1) قتر قترا وقتورا من بابي ضرب وقعد ضيق عليه في النفقة ومنه قتر على عياله إذا ضيق عليهم وأقتر اقتارا وقتر تقتيرا مثله .
(2) في الحديث فأرسلت السماء عزاليها أي افواهها والعزالي بفتح اللام وكسرها جمع العزلاء مثل الحمراء وهر فم المزادة فقوله أرسلت السماء عزاليها يريد شدة وقع المطر على التشبيه نزوله من افواه المزادة ومثله وان الدنيا بعد ذلك ارخت عزاليها .
( 192 )
وعنه عليه السلام : أنه كان متكئا على بعض أصحابه فلقيه عباد بن كثير وعليه ثياب مروية حسان ، فقال : يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت نبوة ، وكان أبوك ، (1) وكان فما لهذه الثياب المروية عليك ؟ فلو لبست دون هذه الثياب ، المروية عليك فقال له ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) إن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يراها عليه ليس بها بأس ، ويلك يا عباد إنما أنا بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تؤذوني ، وكان عباد يلبس ثوبين من قطن .
وعنه عليه السلام : أنه قيل له : أصلحك الله ذكرت أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يلبس الخشن ، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى عليك اللباس الجيد ؟ فقال له إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به ، فخير لباس كل زمان لباس أهله ، غير أن قائمنا إذا قام لبس لباس علي وسار بسيرته .
أقول : وفي رواية اخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه علل خشونة مطعمه وملبسه بأن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ (2) بالفقير فقره . قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا : بالأصالة وأما مشاركة الكفار لهم فيها فتبع . خالصة يوم القيامة : لا يشاركهم فيها غيرهم ، وقرء بالرفع .
في الكافي : عن الصادق عليه السلام بعد أن ذكر أنهار الأرض فما سقت واستقت فهو لنا ، وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدونا منه شيء إلا ما غصب عليه ، وإن ولينا لفي أوسع فيما بين ذه وذه يعني فيما بين السماء والأرض ، ثم تلا هذه الآية : ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب .
____________
(1) وكان أبوك وكان يعني كان زاهدا وكان يلبس الخشن وكان تاركا لنعم الدنيا يعني بأبيه امير المؤمنين ( عليه السلام ) وفي بعض النسخ قطوتين مكان قطن في آخر الحديث وهو بالمهملة ضرب من البرود منه .
(2) في الحديث ان الله فرض على أئمة العدل « الخ » اي تهيج به تبيغ عليه الامر اختلط والدم هاج وغلب واللبن كثر .
( 193 )
وفي الأمالي : عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث واعلموا يا عباد الله أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباحهم الله في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله : ( قل من حرم زينة الله الآية ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت . شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون ، وشربوا من طيبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون ، وركبوا من أفضل ما يركبون ، وأصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون ، لا ترد لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون : أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم .
(33) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن واللأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .
في الكافي ، والعياشي : عن الكاظم عليه السلام فأما قوله : ( ما ظهر منها ) يعني الزنا المعلن ، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر الفواحش في الجاهلية ، وأما قوله عز وجل : ( وما بطن ) يعني ما نكح من أزواج الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن امه فحرم الله عز وجل ذلك ، وأما ( الأثم ) فإنها الخمر بعينها ، وقد قال الله عز وجل في موضع آخر : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس ) فأما الأثم في كتاب الله : فهي الخمر والميسر ، واثمهما كبير .
وزاد العياشي بعد قوله : ( والميسر ) أخيرا فهي النرد ، قال : ( واثمهما كبير ) وأما قوله : ( والبغي ) فهي الزنا سرا .
أقول : وربما يعمم الفواحش لكل ما تزايد قبحه ما علن منها ، وما خفى ، ويعمم الأثم لكل ذنب ، ويفسر البغي بالظلم والكبر ويجعل بغير الحق تأكيدا ، وما لم ينزل
( 194 )
به سلطانا تهكما إذ لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره .
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام إن القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمة الجور ، وجميع ما أحل الله في الكتاب هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمة الحق وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي تتقولوا وتفتروا .
وفي الخصال : عنه عليه السلام إياك وخصلتين فيهما هلك من هلك ، إياك أن تفتي الناس برأيك ، وتدين بما لا تعلم وفي رواية اخرى أن تدين الله بالباطل ، وتفتي الناس بما لا تعلم .
وفيه ، وفي التوحيد عن الباقر عليه السلام أنه سئل ما حجة الله على العباد ؟ فقال أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عندما لا يعلمون .
وفي الفقيه : عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفية يا بني لا تقل ما لا تعلم ، بل لا تقل كل ما تعلم .
وفي العيون : عنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السموات والأرض .
(34) ولكل أمة أجل مدة أو وقت لنزول الموت أو العذاب . فإذا جاء أجلهم : انقرضت مدتهم أو حان وقتهم . لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون : العياشي عن الصادق عليه السلام هو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر (1) .
وفي الكافي عنه عليه السلام تعد السنين ثم تعد الشهور ، ثم تعد الأيام ، ثم تعد النفس ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) .
(35) يا بني آدم أما يأتينكم ضمت ـ ما ـ إلى إن الشرطية تأكيدا لمعنى الشرط . رسل منكم من جنسكم . يقصون عليكم آياتي فمن اتقى : التكذيب منكم . وأصلح
____________
(1) لعل مرجع الضمير المستتر الملائكة الموكلون بالآجال وهم ملك الموت وأعوانه المعبر عنهم بالرسل .