عمله . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
(36) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون : قيل : إدخال ـ الفاء ـ في الجزاء الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد ، والمسامحة في الوعيد .
(37) فمن أظلم : أشنع ظلما . ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته : تقول عليه ما لم يقله أو كذب ما قاله . أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب : مما كتبت لهم من الأرزاق والآجال .
والقمي : أي ينالهم ما في كتابنا من عقوبات المعاصي . حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم : ( حتى ) غاية لنيلهم نصيبهم وإستيفائهم إياه أي إلى وقت وفاتهم ، وهي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والمراد بالرسل هنا : ملك الموت وأعوانه . قالوا : أي الرسل . أين ما كنتم تدعون من دون الله : أي الآلهة التي تعبدونها . قالوا ضلوا عنا : غابوا عنا . وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين : اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه .
(38) قال : أي قال الله تعالى لهم ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم : كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم . من الجن والانس : يعني كفار الأمم الماضية من النوعين . في النار : متعلق بادخلوا كلما دخلت أمة : في النار . لعنت أختها : التي ضلت بالأقتداء بها . حتى إذا أداركوا (1) فيها جميعا : أي تداركوا أو تلاحقوا في النار .
في الكافي : عن الباقر عليه السلام في حديث برأ بعضهم من بعض ، ولعن بعضهم بعضا ، يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم ، وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ، ولات حين نجاة . قالت أخراهم : منزلة وهم الأتباع والسفلة . لاولاهم : منزلة أي لأجلهم إذ الخطاب مع الله لا معهم ، وهم القادة والرؤساء .
____________
(1) إدرك بعضهم بعضا أي خاصمه وجادله رجاء الفلج محركة أي الفوز والتخلص من العذاب فيفلتوا أي يطر عقلهم بغتة ويزلون ويسلب تدبيرهم فلا يهتدون سبيلا .
( 196 )
في المجمع عن الصادق عليه السلام يعني أئمة الجور ربنا هؤلاء أضلونا : دعونا إلى الضلال وحملونا عليه . فاتهم عذابا ضعفا من النار : مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا . قال لكل ضعف : أما القادة فبكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم . ولكن لا تعلمون : ما لكل ، وقرء بالياء على الأنفصال .
(39) وقالت أولاهم لأخراهم : مخاطبين لهم . فما كان لكم علينا من فضل عطفوا كلامهم على قول الله سبحانه للأتباع لكل ضعف ، أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا ، وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق الضعف . فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون : القمي : قال : شماتة بهم .
(40) إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها : أي عن الأيمان بها . لا تفتح لهم أبواب السماء : لأدعيتهم وأعمالهم ، ولنزول البركة عليهم ، ولصعود أرواحهم إذا ماتوا .
في المجمع : عن الباقر عليه السلام أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد اهبطوا إلى سجين ، وهو واد بحضرموت (1) يقال له : برهوت (2) ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط : أي لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج الجمل الذي لا يلج إلا في باب واسع في ثقب الأبرة . وكذلك : مثل ذلك الجزاء الفضيع . نجزي المجرمين .
(41) لهم من جهنم مهاد : فراش . ومن فوقهم غواش : أغطية . وكذلك نجزي الظالمين .
(42) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها : اعتراض بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما يسعه طاقتهم ويسهل عليهم . أولئك
____________
(1) حضرموت بضم الميم بلد وقبيلة ويقال هذا حضرموت ويضاف فيقال حضرموت بضم الراء وان شيءت لا تنون الثاني والتصغير حضيرموت .
(2) برهوت محركة وبالضم بئر او واد أو بلد .
( 197 )
أصحاب الجنة هم فيها خلدون .
(43) ونزعنا ما في صدورهم من غل : على إخوانهم في الدنيا فسلمت قلوبهم وطهرت من الحقد والحسد والشحناء ، ولم يكن منهم إلا التعاطف والتراحم والتواد .
القمي : عن الباقر عليه السلام العداوة تنزع منهم أي من المؤمنين في الجنة . تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله : في الكافي : عن الصادق عليه السلام في هذه الآية إذا كان يوم القيامة دعي بالنبي وأمير المؤمنين ، وبالأئمة عليهم السلام فينصبون للناس فإذا رأتهم شيعتهم قالوا : ( الحمد لله الذى هدانا لهذا ) الآية ، في ولاية أمير المؤمنين ، والأئمة عليهم السلام من ولده . لقد جاءت رسل ربنا بالحق : فاهتدينا بإرشادهم ، يقولون ذلك : اغتباطا وتبجحا (1) إذ صار علم يقينهم في الدنيا عين يقينهم في الآخرة . ونودوا أن تلكم الجنة : إذا رأوها . أورثتموها بما كنتم تعملون .
في المجمع : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فذلك قوله : ( أورثتموها بما كنتم تعملون ) .
(44) ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا : قالوا : تبجحا بحالهم ، وشماتة بأصحاب النار ، وتحسرا لهم ، وإنما لم يقل : ما وعدكم كما قال : ما وعدنا لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده بهم كالبعث والحساب ونعيم الجنة لأهلها . قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن : وقرء ـ أن ـ بالتشديد . لعنة الله على الظالمين .
في الكافي ، والقمي : عن الكاظم ، والعياشي : عن الرضا عليهما السلام المؤذن : أمير المؤمنين وزاد القمي يؤذن أذانا يسمع الخلائق .
____________
(1) البجح بتقديم الباء ثم الجيم ثم الحاء محركة الفرح .
( 198 )
وفي المجمع ، والمعاني : عن أمير المؤمنين عليه السلام أنا ذلك المؤذن .
(45) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا زيغا وميلا عما هو عليه . وهم بالآخرة كافرون .
(46) وبينهما حجاب : أي بين الفريقين لقوله : ( فضرب بينهم بسور ) أو بين الجنة والنار ليمنع وصول إحداهما إلى الاخرى . وعلى الأعراف : أعراف الحجاب أي أعاليه . رجال : من الموحدين العارفين المعروفين . يعرفون كلا : من أهل الجنة والنار . بسيماهم : بعلامتهم التي أعلمهم الله بها لأنهم من المتوسمين أهل الفراسة .
في المجمع ، والجوامع : عن أمير المؤمنين عليه السلام نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار ، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار .
وفيهما ، والقمي : عن الصادق عليه السلام الأعراف : كثبان (1) بين الجنة والنار ، والرجال : الأئمة ويأتي تمام الحديث .
وفي الكافي : عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف يوقفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه .
ومثله في البصاير ، والأحتجاج : إلا أنه قال : نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة الحديث .
وزاد في آخره وذلك بأن الله تبارك وتعالى لو شاء عرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده ويأتوه من بابه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله ، وبابه الذي يؤتى منه .
____________
(1) انكثب الرمل أي اجتمع وكل ما انصب في شيء فقد انكثب فيه ومنه سمي الكثيب من الرمل لانه انصب في مكان واجتمع فيه والجمع الكثبان وهي تلال الرمل .
( 199 )
والعياشي : ما يقرب منه .
وعن سلمان : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول لعلي عليه السلام : أكثر من عشر مرات يا علي إنك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة والنار ، ولا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه .
وعن الباقر عليه السلام : هم آل محمد عليهم السلام لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه .
ورواه في المجمع أيضا . وفي البصائر : عنه عليه السلام الرجال : هم الأئمة من آل محمد عليهم السلام ، والأعراف : صراط بين الجنة والنار ، فمن شفع له الأئمة منا من المؤمنين المذنبين نجا ، ومن لم يشفعوا له هوى فيه .
وعنه عليه السلام : قال : نحن أولئك الرجال ، الأئمة منا يعرفون من يدخل النار ، ومن يدخل الجنة كما تعرفون في قبايلكم الرجل منكم يعرف من فيها من صالح أو طالح . والأخبار في هذا المعنى كثيرة وزاد في بعضها لأنهم عرفاء العباد عرفهم الله إياهم عند أخذ المواثيق عليهم بالطاعة فوضعهم في كتابه فقال : ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) وهم الشهداء على الناس والنبيون شهداؤهم بأخذهم (1) لهم مواثيق العباد بالطاعة .
والقمي : عن الصادق عليه السلام كل أمة يحاسبها إمام زمانها ويعرف الأئمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم وهو قوله : ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) فيعطوا (2) أوليائهم كتابهم بيمينهم فيمروا الى الجنة بلا حساب ، ويعطوا أعدائهم كتابهم بشمالهم فيمروا إلى النار بلا حساب .
وفي البصائر ، والقمي : عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال
____________
(1) أي بأخذ النبيين للائمة عليهم السلام .
(2) سقوط النون من يعطوا وما بعده من الافعال لعله من جهة انجزامها جوابا لشرط مقدر أي إذا عرفوا وحوسبوا فيعطوا .
( 200 )
إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال وأنهم لكما قال الله عز وجل .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام إنه سئل عنهم فقال : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته .
وفي رواية العياشي : وإن أدخلهم الله الجنة فبرحمته وإن عذبهم لم يظلمهم .
أقول : لا منافاة بين هاتين الروايتين ، وبين ما تقدمهما من الأخبار كما زعمه الأكثرون ، لأن هؤلاء القوم يكونون مع الرجال الذين على الأعراف وكلاهما أصحاب الأعراف ، يدل على ما قلناه صريحا حديث الجوامع .
والقمي ، الآيتان في آخر هذه الآيات فإنهما يدلان على أنه يكون على الأعراف الأئمة مع مذنبي أهل زمانهم من شيعتهم ، والوجه في إطلاق لفظ الأعراف على الأئمة كما ورد في عدة من الأخبار التي سبقت : أن الأعراف إن كان اشتقاقها من المعرفة فالأنبياء والأوصياء هم العارفون والمعروفون والمعرفون الله والناس للناس في هذه النشأة وإن كان من العرف (1) بمعنى المكان العالي المرتفع فهم الذين من فرط معرفتهم وشدة بصيرتهم كأنهم في مكان عال مرتفع ينظرون إلى سائر الناس في درجاتهم ودركاتهم ويميزون السعداء عن الأشقياء على معرفة منهم بهم وهم بعد في هذه النشأة ، وكذلك بعض من سار سيرتهم من شيعتهم كما يدل عليه حديث حارثة بن النعمان الذي كان ينظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة ، وإلى أهل النار يتعاوون في النار وكان بعد في الدنيا ، وحديثه مروي في الكافي ونادوا : يعني ونادى أصحاب الأعراف أريد بهم من كان من الأئمة عليهم السلام على الأعراف من مذنبي شيعتهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم . أصحاب الجنة أن سلام عليكم : أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم . لم يدخلوها وهم يطمعون .
____________
(1) العرف الرمل والمكان المرتفعان ويضم راؤه كالعرفة بالضم .
( 201 )
(47) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : تعوذا بالله . ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين : أي في النار .
وفي المجمع : أن في قراءة الصادق عليه السلام قالوا ربنا عائذا بك أن تجعلنا مع القوم الظالمين .
(48) ونادى أصحاب الأعراف : أي الأئمة . رجالا يعرفونهم بسيماهم : من رؤساء الكفار . قالوا ما أغنى عنكم جمعكم : في الدنيا . وما كنتم تستكبرون : عن الحق .
(49) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة : من تتمة قول الأئمة للرجال والأشارة إلى شيعتهم الذين كانوا معهم على الأعراف الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة . ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون : أي فالتفتوا إلى أصحابهم ، وقالوا لهم : ادخلوها لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون .
في الجوامع : عن الصادق عليه السلام الأعراف كثبان بين الجنة والنار يوقف عليها كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنة ، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا إلى الجنة فيسلم عليهم المذنبون وذلك قوله : ( سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأمام عليه السلام وينظر هؤلاء إلى أهل النار فيقولون : ( ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .
وينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء رجالا من أهل النار ورؤساء الكفار يقولون لهم : مقرعين ( ما أغنى عنكم جمعكم ) واستكباركم ( أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ) إشارة لهم إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهن بفقرهم ، ويستطيلون عليهم بدنياهم ، ويقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة ( ادخلوا الجنة ) يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين : عن أمر من أمر الله عز وجل لهم بذلك : ( ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) أي لا خائفين ولا محزونين .
( 202 )
والقمي : عنه عليه السلام الأعراف : كثبان بين الجنة والنار ، والرجال : الأئمة عليهم السلام يقفون على الأعراف مع شيعتهم ، وقد سبق المؤمنون إلى الجنة فيقول الأئمة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنة وقد سبقوا إليها بلا حساب ، وهو قول الله تعالى : ( سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) ثم يقال لهم : انظروا إلى أعدائكم في النار ، وهو قوله : ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ) في النار فقالوا : ( ما أغنى عنكم جمعكم ) في الدنيا ( وما كنتم تستكبرون ) ثم يقولون لمن في النار من أعدائهم هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا ( لا ينالهم الله برحمة ) ، ثم يقول الأئمة لشيعتهم : ( ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) .
(50) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء : أي صبوه وذلك لأن الجنة فوق النار . أو مما رزقكم الله : من الأطعمة والفواكه .
العياشي : عن أحدهما عليهما السلام قال : إن أهل النار يموتون عطاشا ، ويدخلون قبورهم عطاشا ، ويدخلون جهنم عطاشا ، فيرفع لهم قراباتهم من الجنة فيقولون : ( أفضيوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) . وعن الصادق عليه السلام : يوم التناد : يوم ينادي أهل النار أهل الجنة ( أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) . قالوا إن الله حرمهما : حرم شراب الجنة وطعامها . على الكافرين .
(51) الذين اتخذوا دينهم : الذي كان يلزمهم التدين به لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا : فحرموا ما شاؤا واستحلوا ما شاؤا . فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا : في العيون : عن الرضا عليه السلام : في حديث أي نتركهم كما تركوا الأستعداد للقاء يومهم هذا ، وقال : إنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم كما قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) .
وفي التوحيد : عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسيره يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياء الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به ، وبرسله وخافوه في الغيب ، وقد يقول العرب في باب النسيان : قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لهم
( 203 )
بخير ولا يذكرهم به . وما كانوا بآياتنا يجحدون : وكما كانوا منكرين لآياتنا .
(52) ولقد جئناهم بكتاب فصلناه : بينا معانيه من العقائد ، والأحكام ، والمواعظ ، مفصلة . على علم : عالمين بوجه تفصيله حتى جاء (1) حكيما . هدى ورحمة لقوم يؤمنون .
(53) هل ينظرون : هل ينتظرون . إلا تأويله : ما يؤل إليه أمره من تبيين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد . يوم يأتي تأويله : قيل : يوم القيامة . والقمي : ذلك في قيام القائم ويوم القيامة . يقول الذين نسوه من قبل : تركوه ترك الناسي . قد جاءت رسل ربنا بالحق : قد تبين أنهم جاؤوا بالحق . فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنآ : اليوم . أو نرد : إلى الدنيا . فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم : بصرف أعمالهم في الكفر . وضل عنهم ما كانوا يفترون : بطل عنهم فلم ينفعهم .
(54) إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام القمي : قال : في ستة أوقات .
وفي الأحتجاج : عن أمير المؤمنين عليه السلام ولو شاء أن يخلقها في أقل من لمح البصر لخلق ولكنه جعل الأناة والمداراة مثالا لأمنائه وإيجابا للحجة على خلقه .
وفي العيون : عن الرضا عليه السلام : وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين ، ولكنه عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر على الملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء فيستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام : إن الله خلق الخير يوم الأحد ، وما كان ليخلق الشر قبل الخير ، وفي الأحد والأثنين خلق الأرضين ، وخلق أقواتها يوم الثلاثاء ، وخلق السموات يوم الأربعاء ويوم الخميس ، وخلق أقواتها يوم الجمعة ، وذلك قوله تعالى : ( خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) .
أقول : هذه الآية مشتملة على قوله : ( وما بينهما ) إنما هي في سورة الفرقان ، وفي سورة
____________
(1) أي محكما وخالصا من كل خلل وقدح ومعجزا ثابتا باقيا على وجه الدهر .
( 204 )
السجدة التالية للقمان ويستفاد منها ومن هذا الحديث وأمثاله مما ورد من هذا القبيل أن ما بينهما أيضا داخل في المقصود من الآية التي نحن بصدد تفسيرها .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام : أن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا في ستة أيام ثم اختزلها (1) عن أيام السنة ، والسنة ثلاثمأة وأربعة وخمسون يوما .
وفي الفقيه ، والتهذيب : عنه عليه السلام إن الله تعالى خلق السنة ثلثمأة وستين يوما ، وخلق السموات والأرض في ستة أيام فحجزها (2) من ثلاثمأة وستين يوما فالسنة ثلاثمأة وأربعة وخمسون يوما ، الحديث .
وفي الخصال والعياشي عن الباقر عليه السلام ما يقرب منه أن قيل ان الأيام إنما تتقدر وتتمايز بحركة الفلك فكيف خلقت السموات والأرض في الأيام المتمايزة قبل تمايزها . قلنا : مناط تمايز الأيام وتقدرها إنما هو حركة الفلك الأعلى دون السموات السبع والمخلوق في الأيام المتمايزة إنما هو السموات السبع والأرض وما بينهما دون ما فوقهما ، ولا يلزم من ذلك خلاء لتقدم الماء الذي خلق منه الجميع على الجميع .
وليعلم إن هذه الآية وأمثال هذه الأخبار من المتشابهات التي تأويلها عند الراسخين في العلم . ثم استوى على العرش : في الأحتجاج : عن أمير المؤمنين عليه السلام استوى تدبيره وعلا أمره .
وعن الكاظم عليه السلام : استولى على ما دق وجل . وفي الكافي عن الصادق عليه السلام استوى على كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء ، وفي رواية اخرى استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء .
وفي اخرى استوى في كل شيء فليس أقرب إليه من شيء لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب استوى في كل شيء .
أقول : قد يراد بالعرش الجسم المحيط بجميع الأجسام ، وقد يراد به ذلك الجسم
____________
(1) انخزل الشيء أي انقطع والاختزال الانقطاع .
(2) أي فصلها عنها وجعل في طرف منها كالحاشية للشيء .
( 205 )
مع جميع ما فيه من الأجسام أعني العالم الجسماني بتمامه ، وقد يراد به ذاك المجموع مع جميع ما يتوسط بينه وبين الله سبحانه من الأرواح التي لا تتقوم الأجسام إلا بها أعني العوالم كلها بملكها وملكوتها وجبروتها .
وبالجملة ما سوى الله عز وجل ، وقد يراد به علم الله سبحانه المتعلق بما سواه ، وقد يراد به علم الله سبحانه الذي اطلع عليه أنبياءه ورسله وحججه وقد وقعت الأشارة إلى كل منها في كلامهم ، وربما يفسر بالملك والأستواء بالإحتواء كما يأتي في سورة طه ، ويرجع إلى ما ذكر . ثم أقول : فسر الصادق عليه السلام الإستواء في روايات الكافي : باستواء النسبة والعرش بمجموع الأشياء وضمن الأستواء في الرواية الاولى ما يتعدى بعلى كالأستيلاء والأشراف ونحوهما لموافقة القرآن فيصير المعنى استوى نسبته إلى كل شيء حال كونه مستوليا على الكل ففي الآية دلالة على نفي المكان عنه سبحانه خلاف ما يفهمه الجمهور منها ، وفيها أيضا إشارة إلى معيته القيومية واتصاله المعنوي بكل شيء على السواء على الوجه الذي لا ينافي أحديته وقدس جلاله وإلى إفاضة الرحمة العامة على الجميع على نسبة واحدة وإحاطة علمه بالكل بنحو واحد وقربه من كل شيء على نهج سواء وأتى بلفظة ( من ) في الرواية الثانية تحقيقا لمعنى الأستواء في القرب والبعد وبلفظة في الثالثة تحقيقا لمعنى ما يستوي فيه ، وأما اختلاف المقربين كالأنبياء والأولياء مع المبعدين كالشياطين والكفار في القرب والبعد فليس ذلك من قبله سبحانه بل من جهة تفاوت أرواحهم في ذواتها .
وفي التوحيد : عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الجاثليق قال : إن الملائكة تحمل العرش وليس العرش كما يظن كهيئة السرير ، ولكنه شيء محدود مخلوق مدبر وربك عز وجل مالكه لا أنه عليه ككون الشيء على الشيء . يغشى الليل النهار : يغطيه به ، وقرء بالتشديد . يطلبه حثيثا : يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره : وقرء برفع الكل . ألا له الخلق : عالم الأجسام . والأمر : عالم الأرواح . تبارك الله رب العلمين : تعالى بالوحدانية في الالوهية ، وتعظم بالفردانية في الربوبية .
(55) أدعوا ربكم تضرعا وخفية ذوي تضرع وخفية فإن الأخفاء أقرب إلى
( 206 )
الأخلاص ، وقرء بكسر الخاء . إنه لا يحب المعتدين : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره .
في المجمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان في غزاة فأشرف على واد فجعل الناس يهللون ويكبرون ويرفعون أصواتهم ، فقال : يا أيها الناس اربعوا (1) على أنفسكم أما أنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم . وفي مصباح الشريعة : عن الصادق عليه السلام استعن بالله في جميع امورك متضرعا إليه آناء الليل والنهار ، قال الله تعالى : ( ادعوا ربك تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) والأعتداء من صفة قراء زماننا هذا وعلامتهم .
(56) ولا تفسدوا في الارض : بالكفر والمعاصي . بعد إصلاحها : ببعث الأنبياء ، وشرع الأحكام .
في الكافي ، والعياشي : عن الباقر عليه السلام أن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيه ، فقال : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) .
والقمي : أصلحها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام فأفسدوها حين تركوا أمير المؤمنين عليه السلام . وادعوه خوفا وطمعا : ذوي خوف من الرد لقصور أعمالكم ، وعدم استحقاقكم ، وطمعا في إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته . إن رحمت الله قريب من المحسنين : ترجيح للطمع ، وتنبيه على ما يتوسل به إلى الأجابة .
في الفقيه : في وصية النبي لعلي ( صلوات الله وسلامه عليهما ) يا علي من يخاف ساحرا أو شيطانا فليقرأ ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ) الآية .
وفي الكافي : عن أمير المؤمنين عليه السلام من بات بأرض قفر فقرأ هذه الآية ( ان ربكم الله إلى قوله : ( تبارك الله رب العالمين ) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين ، قال : فمضى الرجل فإذا هو بقرية خراب فبات فيها ولم يقرء هذه الآية فتغشاه الشياطين فإذا
____________
(1) ربع كمنع وقف وانتظر وتحبس ومنه قولهم أربع عليك أو على نفسك أو على ظلعك .
( 207 )
هو أخذ بخطمه (1) فقال له صاحبه : انظره واستيقظ الرجل فقرأ الآية فقال الشيطان لصاحبه : أرغم الله أنفك أحرسه الآن حتى يصبح فلما أصبح رجع إلى أمير المؤمنين فأخبره ، وقال له رأيت في كلامك الشفاء والصدق ، ومضى بعد طلوع الشمس فإذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض ، الحديث .
(57) وهو الذي يرسل الرياح نشرا جمع نشور بمعنى ناشر ، وقرء بالتخفيف وبفتح النون ، وبالباء مخففة جمع بشير . بين يدي رحمته : قدام رحمته يعني المطرفان الصبا (2) تثير السحاب ، والشمال تجمعه ، والجنوب يجلبه ، والدبور يفرقه . حتى إذا أقلت : حملت . سحابا : سحائب . ثقالا : بالماء . سقناه لبلد ميت : لأحيائه ، وقرء بتخفيف الياء . فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات : من كل أنواعها . كذلك نخرج الموتى : نحييهم ونخرجهم من الأجداث . لعلكم تذكرون : فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا .
(58) والبلد الطيب : الأرض الكريمة التربة . يخرج نباته بإذن ربه : بأمره وتيسره ، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة (3) نفعه بقرينة المقابلة . والذي خبث : كالحرة (4) والسبخة (5) . لا يخرج : نباته . إلا نكدا : قليلا عديم النفع . كذلك نصرف الآيات : نرددها ونكررها . لقوم يشكرون : نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها .قيل : الآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها ، ولمن لم يرفع إليها رأسا ولم يتأثر بها .
والقمي : مثل للأئمة يخرج علمهم بإذن ربهم ولأعدائهم لا يخرج علمهم إلا كدرا
____________
(1) الخطم من كل دابة مقدم أنفه وفمه ومن كل طاير منقاره .
(2) الصبا كعصا ريح تهب من مطلع الشمس وهي احد الارياح الاربعة وقيل الصبا التي من ظهرك إذا استقبلت القبلة والدبور عسكها والعرب تزعم أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه فإذا علا كشف عنه واستقبلته الصبا فوزعت بعضه على بعض حتى يصير كسفا واحدا والجنوب تلحق روادفه وتمده والشمال تزق السحاب وعن بعض أهل التحقيق الصبا محلها ما بين مطلع الشمس والجدي في الاعتدال والشمال محلها من الجدي الى مغرب الشمس في الاعتدال والدبور من سهيل الى المغرب والجنوب من مطلع الشمس إليه .
(3) غزر الماء بالضم غزارا غزارة كثر فهو غزير أي كثير .
(4) الحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها احرقت بالنار والجمع الحرار والحرات .
(5) السبخة بالفتح واحدة السباخ وهي ارض مالحة يعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الاشجار .