فقال لهم : من أنتم قالوا يا محمد نحن عبيد قريش ، قال : كم القوم ؟ قالوا : لا علم لنا بعددهم ؟ قال : كم ينحرون في كل يوم جزورا (1) ؟ قالوا : تسعة إلى عشرة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، القوم تسعمأة إلى ألف ، قال : فمن فيهم من بني هاشم ؟ قالوا : العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم فحبسوا .
وبلغ قريشا ذلك فخافوا خوفا شديدا ، ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال له : أما ترى هذا البغي والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا والله ما أفلح قوم قط بغوا ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كله ولم نسر هذا المسير .
فقال له أبو البختري : إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمل العير التي أصابها محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنخلة ودم (2) ابن الحضرمي فإنه حليفك ، فقال عتبة : أنت تشير عليّ بذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل فسر إليه وأعلمه إني قد تحملت العير التي أصابها محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنخلة ودم ابن الحضرمي .
فقال أبو البختري : فقصدت خبأه وإذا هو قد أخرج درعا له ، فقلت له : إن أبا الوليد بعثني إليك ، برسالة فغضب ، ثم قال : أما وجد عتبة رسولا غيرك ؟ فقلت : أما والله لو غيره أرسلني ما جئت ، ولكن أبا الوليد سيد العشيرة ، فغضب غضبة اخرى ، فقال : تقول سيد العشيرة ؟ فقلت : أنا أقوله وقريش كلها تقول أنه قد تحمل العير ودم ابن الحضرمي .
فقال : إن عتبة أطول الناس لسانا وأبلغهم في الكلام ، ويتعصب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ويريد أن لا يخذله بين الناس لا
____________
(1) الجزور بالفتح وهي من الابل خاصة ما كمل خمس سنين ودخل في السادسة يقع على الذكر والانثى والجمع جزر كرسول ورسل يقال جزرت الجزور من باب قتل أي نحرتها .
(2) ودم بالفتح علم وبطن من كلب في تغلب .

( 277 )

واللآت والعزى حتى نقحم (1) عليهم بيثرب ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة فتسامع العرب بذلك ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه .
وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثرة قريش ففزعوا فزعا شديدا ، وشكوا ، وبكوا ، واستغاثوا ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجنّه (2) الليل ألقى الله تعالى على أصحابه النعاس حتى ناموا فأنزل الله تعالى عليهم السماء .(3)
وكان نزول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موضع لا يثبت فيه القدم . فأنزل الله عليهم السماء ولبد الأرض حتى تثبت أقدامهم ، وهو قول الله تعالى : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ) وذلك أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتلم ( وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) ، وكان المطر على قريش مثل العزالى (4) ، وكان على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رذاذا بقدر ما يلبد به الأرض ، وخافت قريش خوفا شديدا فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، فقال : ادخلا في القوم وأتونا بأخبارهم فكانا يجولان بعسكرهم لا يرون إلا خائفا ذعرا إذا صهل الفرس وثب على جحفلته (5) فسمعوا منبه بن الحجاج يقول :

لا يترك الجوع لنا مبيتا * لابد أن نموت أو يميتنا

____________
(1) قحم في الامر كنصر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية وقحمته تقحيما وأقحمته فانقحم واقتحم .
(2) جنه الليل وعليه حنا وأجنه ستره وكل ما ستر عنك فقد جن عنك وجن الليل وجنونه وجنانه ظلمته .
(3) السماء المطر سمي به لانه ينزل من السماء « منه رحمه الله » .
(4) العزالى جمع عزلاء وهو مصب الماء من الرواية ونحوها والرذاذ المطر الضعيف « منه » .
(5) الجحفلة بمنزلة الشفه للخيل والبغال والحمير .

( 278 )

قال : قد والله كانوا شباعا ولكنهم من الخوف قالوا : هذا ، وألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى : ( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) . فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبّأ (1) أصحابه ، وكان في عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسان : فرس للزبير بن العوام ، وفرس لمقداد ، وكان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون عليها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على جمل يتعاقبون عليه ، والجمل لمرثد ، وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس . فعبّأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بين يديه ، فقال : غضو أبصاركم ولا تبدؤهم بالقتال ، ولا يتكلمن أحد . فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال أبو جهل : ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد .
فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا ومددا ؟ فبعثوا عمرو بن وهب الجمحي ، وكان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم صعد في الوادي وصوت ، ثم رجع إلى قريش فقال : ما لهم كمين ولا مدد ولكن نواضح (2) يثرب قد حملت الموت الناقع ، أما ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم ، وما أريهم يولون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى تقتلوا بعددهم فارتأوا (3) رأيكم ، فقال أبو جهل : كذبت وجبنت وانتفخ سحرك حين نظرت إلى سيوف أهل يثرب .
وفزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نظروا إلى كثرة
____________
(1) عبأ المتاع والامر كمنع هيأه والجيش جهزه كعبأه تعبية وتعبيئا فيهما والطيب صنعه وخلطه .
(2) نضح البعير الماء حمله من نهر وبئر لسقي الزرع فهو ناضح سمي بذلك لانه ينضح الماء أي يصبه والانثى ناضحة وسانية ايضا والجمع نواضح وهذا اصله ثم استعمل الناضح في كل بعير وان لم يحمل الماء .
(3) رتأ العقدة كمنع رتأ شدها وفلانا خنقه وأقام وانطلق .

( 279 )

قريش وقوتهم فأنزل الله تعالى على رسوله ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) وقد علم الله أنهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السلم وإنما أراد الله تعالى بذلك لتطيب قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش فقال :
يا معشر قريش ما أجد من العرب أبغض إليّ من أبدأكم فخلوني والعرب فإن أك صادقا فأنتم أعلا بي عينا ، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا .
فقال عتبة : والله ما أفلح قوم قط ردوا هذا ، ثم ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجول في العسكر وينهي عن القتال ، فقال : إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن تطيعوه ترشدوا فأقبل عتبة يقول : يا معشر قريش اجتمعوا واسمعوا ، ثم خطبهم فقال :
يمن مع (1) رحب ، ورحب مع يمن ، يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور وعانقوا الحور ، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلّ (2) وذمة وهو ابن عمكم فارجعوا ولا تردوا رأيي وإنما تطالبون محمدا بالعير التي أخذها محمد بنخله ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلي عقله .
فلما سمع أبو جهل ذلك غاضه وقال : إن عتبة أطول الناس لسانا ، وأبلغهم في الكلام ولئن رجعت قريش بقوله ليكونن سيد قريس إلى آخر الدهر ، ثم قال : يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك (3) وتأمر الناس بالرجوع وقد رأينا آثارنا بأعيننا ، فنزل عتبة عن جمله وحمل على أبي جهل ، وكان على فرس فأخذ بشعره ، فقال الناس : يقتله فعرقب فرسه ، فقال : أمثلي يجبن ؟ وسيعلم قريش اليوم أينا الألئم والأجبن وأينا المفسد لقومه ، لا يمشي إلا أنا وأنت بالموت عيانا ، ثم قال هذا جناى وخياره
____________
(1) رحب ككرم وسمع رحبا بالضم ورحابة فهو رحب ورحيب ورحاب بالضم اتسع .
(2) الال بالكسر العهد والحلف والامان والقرابة
(3) السحر ويحرك ويضم الرية ج سحور وأسحار واثر دبرة البعير وانتفخ سحره ومساحره عدا طوره وجاوز قدره وانقطع منه سحري يئست منه .

( 280 )

فيه ، وكل جان يده إلى فيه ، ثم أخذ بشعره يجره فاجتمع إليه الناس فقالوا :
يا أبا الوليد الله الله لا تفت في أعضاد الناس ، تنهى عن شيء تكون أوله . فخلصوا أبا جهل من يده .
فنظر عتبة إلى أخيه شيبة ، ونظر إلى ابنه الوليد فقال : قم يا بني فقام ، ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته فاعتم بعمامتين ، ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه ، ونادى يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار : عوذ ، ومعوذ ، وعون بني عفراء ، فقال عتبة : من أنتم ؟ انتسبوا لنعرفكم ؟ فقالوا : نحن بنو عفراء أنصار الله وأنصار رسول الله ، فقال : ارجعوا فإنا لسنا إياكم نريد ، إنما نريد الأكفاء من قريش ، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أرجعوا فرجعوا ، و كره أن يكون أول الكرة بالأنصار فرجعوا وواقفوا موقفهم .
ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، وكان له سبعون سنة فقال له : قم يا عبيدة ، فقام بين يديه بالسيف ، ثم نظر إلى حمزة بن عبد المطلب فقال له : قم يا عم ، ثم نظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : قم يا علي ، وكان أصغر القوم - سنا - فقاموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيوفهم فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفي نور الله ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره .
ثم قال رسول الله : يا عبيدة عليك بعتبة ، وقال لحمزة : عليك بشيبه ، وقال لعلي : عليك بالوليد بن عتبة ، فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقال عتبة : من أنتم ؟ انتسبوا لنعرفكم ، فقال : أنا عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، فقال : كفو كريم ، فقال : فمن هذان ؟ فقال : حمزة ابن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، فقال : كفوان كريمان ، لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا الموقف ، فقال : شيبة لحمزة من أنت ؟ فقال : أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، فقال له شيبة : لقد لقبت أسد الحلفاء (1) فانظر كيف يكون صولتك يا أسد الله .
____________
(1) الحلفة والحلفاء والحلف محركة النبت المعروف ولعل المراد بأسد الحلفاء الاسد الساكن تحت شجرتها لانها تغطيه =
( 281 )

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلق هامته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه وقطعها وسقطا جميعا ، وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما وكل واحد منهما يتقي بدرقته ، وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد بن عتبة فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه ، فقال علي عليه السلام : فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض .
ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا علي أما ترى الكلب قد نهر عمك فحمل عليه علي عليه السلام ثم قال : يا عم طأطيء رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه فطير نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه ، وحُمِل عبيدة بين حمزة وعلي حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست شهيدا ؟ قال : بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي ، فقال : أما لو أن عمك حي لعلم أني أولى بما قال منه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : وأي أعمامي تعني ؟ قال : أبو طالب حيث يقول :

كذبتم وبيت الله نبري محمـدا * ولما نطـاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نضرع حــوله * ونذهل عن أبنائنا والـحلائل

فقال رسول الله أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد أعداء الله بأرض الحبشة ، فقال : يا رسول الله أسخطت علّ في هذه الحالة ؟ فقال : ما سخطت عليك ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك .
وقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر ابنا ربيعة عليكم بأهل يثرب فأجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي كانوا عليها ، وكان فئة من قريش أسلموا بمكة فأحبسهم آباؤهم فخرجوا
____________
= وهو يكمن فيها ويستأنس بها ويتوطن عندها فحاصل مراد القائل انك ملقب بالاسد تشبيها وانا اسد حقيقة نظير قول الشاعر اسد دم الاسد الهزبر خضابه .
( 282 )

مع قريش إلى بدر وهم على الشك والأرتياب والنفاق منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكهة ، والحارث بن ربيعة . وعليّ بن أمية بن خلف ، والعاص بن المنبه ، فلما نظروا إلى قلة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : مساكين هؤلاء غرهم دينهم فيقتلون الساعة فأنزل الله على رسوله ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) .
وجاء إبليس عليه اللعنة إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : أنا جار لكم إدفعوا إليّ رايتكم فدفعوها إليه ، وجاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخيل إليهم ويفزعهم ، وأقبلت قريش يقدمها إبليس مع الراية فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : غضوا أبصاركم ، وعضوا على النواجذ ، ولا تسلوا سيفا حتى آذن لكم ، ثم رفع يديه إلى السماء فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شيءت أن لا تعبد ، لا تعبد ، ثم أصابه الغشي فسرى (1) عنه وهو يسلت العرق عن وجهه وهو يقول : هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين .
قال : فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لايح قد وقعت على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقائل يقول : إقدم حيزوم ، (2) قدم حيزوم وسمعنا قعقعة السلاح من الجو ونظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ، ثم قال : ويلك يا سراقة تفت (3) في أعضاد الناس فركله (4) إبليس ركلة في صدره ، وقال : ( إنى بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) وهو قول الله : ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف
____________
(1) سرى عنه انكشف ويسلت العرق أي يمسحه ويميطه « منه رحمه الله » .
(2) وحيزوم اسم فرس كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وفي التفسير اسم جبرئيل اراد اقدم يا حيزوم على الحذف وفي ص حيزوم فرس من خيل الملائكة .
(3) أي تورد الضعف والانكسار فيهم وتذهب بقوتهم وشوكتهم .
(4) الركل ضربك الفرس برجلك ليعدو والضرب برجل واحدة .

( 283 )

الله والله شديد العقاب ) ، ثم قال عز وجل : ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ) .
وحمل جبرئيل على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر ، وقال : رب أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم الدين .
وروي في خبر أن إبليس التفت إلى جبرئيل ، وهو في الهزيمة فقال : يا هذا بد لكم فيما أعطيتمونا ؟ فقيل لأبي عبد الله عليه السلام : أترى كان يخاف أن يقتله ؟ فقال : لا ، ولكنه كان يضربه ضربة يشينه منها إلى يوم القيامة ، وأنزل الله على نبيه : ( إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) ، قال : أطراف الأصابع فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفيء نور الله ويأبي الله إلا أن يتم نوره .
وخرج أبو جهل من بين الصفين فقال : اللهم إن محمدا أقطعنا الّرحم وآتانا بما لا نعرفه فأهنه الغداة ، فأنزل الله على رسوله أن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفا من حصى فرمى به في وجوه قريش ، وقال : شاهت الوجوه فبعث الله رياحا تضرب وجوه قريش فكانت الهزيمة .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم لا يغلبنك فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام ، فقتل منهم سبعين وأسر منهم سبعين ، والتقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه وضرب أبو جهل عمرا على يده فأبانها من العضد فتعلقت بجلده فاتكى (1) عمرو على يده برجله ثم تراخى في السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده .
وقال عبد الله بن مسعود : انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحط بدمه فقلت : الحمد
____________
(1) أي وضع رجله على يده المبانة وتأخر في جهة العلو حتى انقلعت الجلدة وأراد بعبد ابن ام عبد ابن مسعود و مرتقى صعبا أي يعسر ارتقاؤه وليس أمرا سهلا .
( 284 )

لله الذي أخزاك ، فرفع رأسه .
فقال : إنما أخزى الله عبدا ابن أم عبد لمن الدين ؟ ولمن الملك ، ويلك ؟ قلت : لله ولرسوله وإني قاتلك ووضعت رجلي على عنقه ، فقال : لقد ارتقيت مرتقا صعبا يا رويعي الغنم أما إنه ليس شيء أشد من قتلك إياي في هذا اليوم ألا يتولى قتلي رجل من المطلبيين أو رجل من الأحلاف ، فانقلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام . فسجد لله شكرا .
وأسر أبو بشر الأنصاري العباس بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب ، وجاء بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : هل أعانك عليهما أحد ؟ قال : نعم رجل عليه ثياب بيض .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذاك من الملائكة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس : أفد نفسك وابن أخيك ، فقال : يا رسول الله قد كنت أسلمت ، ولكن القوم استكرهوني ، فقال رسول الله : الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك عليه ، فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا ، ثم قال : يا عباس إنكم خاصمتم الله فخصمكم ، ثم قال : أفد نفسك وابن أخيك ، وقد كان العباس أخذ معه أربعين اوقية من ذهب فغنمها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما قال رسول الله للعباس : أفد نفسك قال يارسول الله أحسبها من فدائي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك ، فأفد نفسك وابن أخيك ، فقال العباس : فليس لي مال غير الذي ذهب مني ، قال : بلى المال الذي خلفته عند أم الفضل بمكة ، وقلت لها : إن حدث علي حدث فاقسموه بينكم ، فقال له : أتتركني وأنا أسأل الناس بكفي ؟ فأنزل الله على رسوله في ذلك ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما اخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) .


( 285 )

ثم قال الله : ( وإن يريدوا خيانتك ) في علي ( فقد خانوا الله من قبل ) فيك ( فأمكن منهم ) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعقيل : قد قتل الله يا أبا يزيد أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومنبه ، ونبيه ابني الحجاج ، ونوفل بن خويلد ، وأسر سهيل بن عمرو ، والنضر بن الحرث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط ، وفلان وفلان ، فقال عقيل : إذا لا تنازعون في تهامة فإن كنت قد أثخنت القوم وإلا فاركب أكتافهم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان القتلى ببدر سبعين ، والأسرى سبعين ، قتل منهم أمير المؤمنين عليه السلام سبعة وعشرين ولم يؤسر أحدا ، فجمعوا الأسارى وفرقوهم في الجمال وساقوهم على أقدامهم ، وجمعوا الغنائم ، وقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة رجال فيهم سعد بن خيثمة ، وكان من النقباء ، فرحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بدر ونزل الأثيل عند غروب الشمس وهو من بدر على ستة أميال فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عقبة ابن أبي معيط وإلى النضر بن الحرث بن كلدة وهما في قران واحد ، فقال النضر لعقبة : يا عقبة أنا وأنت مقتولان ، فقال عقبة : من بين قريش ؟ قال نعم ، لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي عليَّ بالنضر وعقبة .
وكان النضر رجلا جميلا عليه شعر فجاء علي عليه السلام فأخذه بشعره فجره إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال النضر : يا محمد أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني ، وإن فاديتهم فاديتني ، وإن أطلقتهم أطلقتني .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا رحم بيني وبينك قطع الله الرحم بالأسلام ، وقدمه يا عليّ فاضرب عنقه ، فقال عقبة : يا محمد ألم تقل لا تصبر قريش ، أي لا يقتلون صبرا ، قال : وأنت من قريش ؟ إنما أنت علج من أهل صفورية لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له ليس منها ، قدمه يا علي فاضرب عنقه ، فقدمه فضرب عنقه .


( 286 )

فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النضر وعقبة ، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم ، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : يا رسول الله قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين وهم قومك وأساراك هبهم لنا يا رسول الله وخذ منهم الفداء وأطلقهم ، فأنزل الله عليهم : ( ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ) ، فأطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم وشرط أن يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذوا منهم الفداء فرضوا منه بذلك ، وتمام الحديث مضى في سورة آل عمران .
(15) يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا كثيرا بحيث يرى كثرتهم كأنهم يزحفون ، أي يدنون . القمي : أي يدنو بعضهم من بعض . فلا تولوهم الادبار : بالأنهزام .
(16) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال : لأن يكر بعد الفر لان يخيل عدوه أنه منهزم وهو من مكايد الحرب . أو متحيزا إلى فئة : أو منحازا إلى فئة اخرى من المسلمين ليستعين بهم . فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير : العياشي : عن الكاظم عليه السلام إلا متحرفا لقتال قال : متطردا ، يريد الكرة عليهم أو متحيزا يعني متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة فمن انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله .
(17) فلم تقتلوهم : بقوتكم ، يعني إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم . ولكن الله قتلهم : بأن أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم . وما رميت : أنت يا محمد . إذ رميت ولكن الله رمى : حيث أثرت الرمية ذلك الأثر العظيم . القمي : يعنى الحصى الذي حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورمى به في وجوه قريش ، وقال : شاهت الوجوه (1) .
____________
(1) اي قبحت يقال شاه يشوه شوها وشوه شوها ورجل اشوه وامرأة شوهاء .
( 287 )

روي : أن قريشا لما جاءت بخيلائها أتاه جبرئيل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فقال لعلي : أعطني قبضة من حصاة الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل : قتلت وأسرت فنزلت آية الرمي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه وجد منه صورة ونفاه عنه معنى لأن أثره الذي لا يدخل في قدرة البشر فعل الله سبحانه فكأنه فاعل الرمية على الحقيقة وكأنها لم توجد من الرسول وفيه وجه آخر غامض .
وفي الأحتجاج : عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال : في هذه الآية سمي فعل النبي فعلا له ألا ترى تأويله على غير تنزيله .
العياشي : عن الصادق ، والسجاد عليهما السلام إن عليا عليه السلام ناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القبضة التي رمى بها في وجوه المشركين ، فقال الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) .
وفي الخصال : في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وتعدادها قال : وأما الخامسة والثلاثون فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهني يوم بدر ، فقال : أئتني بكف حصياة مجموعة من مكان واحد ، فأخذتها ثم شممتها فإذا هي طيبة يفوح منها رائحة المسك فأتيته بها فرمى بها وجوه المشركين ، وتلك الحصيات أربع منها كن من الفردوس ، وحصاة من المشرق ، وحصاة من المغرب ، وحصاة من تحت العرش ، مع كل حصاة مأة ألف ملك مددا لنا ، لم يكرم الله عز وجل بهذه الفضيلة أحدا قبلنا ولا بعدنا . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا : ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات ، فعل ما فعل . إن الله سميع : لاستغاثتهم ودعائهم . عليم : بنياتهم وأحوالهم .
(18) ذالكم : أي الغرض ذالكم . وأن الله موهن كيد الكافرين : يعني أن المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين ، وقريء موهن كيد بالأضافة والتشديد .
(19) إن تستفتحوا فقد جائكم الفتح : قيل : الخطاب لأهل مكة على سبيل


( 288 )

التهكم إذ روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة ، وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين .
وفي المجمع : في حديث أبي حمزة قال أبو جهل : ( اللهم ربنا ديننا القديم ، ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم .
وروي أنه قال : أينا أهجر وأقطع للرحم فأهنه اليوم فأهلكه .
وقيل : خطاب للمؤمنين وكذا القولان فيما بعده . وإن تنتهوا : عن الكفر ومعاداة الرسول والتكاسل في القتال ، والرغبة عما يستأثره الرسول . فهو خير لكم : لتضمنه سلامة الدارين ، وخير المنزلين . وإن تعودوا : للمحاربة والتكاسل . نعد : لنصره والأنكار . ولن تغني عنكم فئتكم : ولن تدفع عنكم جماعتكم . شيئا : من الأغناء والمضار . ولو كثرت : فئتكم . وأن الله مع المؤمنين : بالنصر والمعونة .
(20) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه : عن الرسول . وأنتم تسمعون : القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق .
(21) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا : ادعوا السماع . وهم لا يسمعون : سماعا ينتفعون به .
(22) إن شر الدواب عند الله الصم عن الحق البكم الذين لا يعقلون : الحق (1) .
(23) ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم : سماع تفهم . ولو أسمعهم : وقد علم أن لا خير فيهم . لتولوا : ولم ينتفعوا به . وهم معرضون : لعنادهم (2) .
في المجمع : عن الباقر عليه السلام نزلت في بني عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير ، وحليف لهم يقال له : سويط .
____________
(1) يعني هؤلاء المشركين الذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحق ولا يتكلمون به ولا يعتقدونه ولا يقرون به فكأنهم صم بكم لا يتفكرون ايضا فيما يسمعون فكأنهم لم ينتفعوا بعقولهم أيضا وصاروا كالدواب .
(2) وفي هذا دلالة على أن الله تعالى لا يمنع أحدا من المكلفين اللطف وإنما لا يلطف لمن يعلم أنه لا ينتفع به .