في أعلاها درجة ، وأشرفها مكانا في جنات عدن ، فقال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى . وفي الفقيه : في حديث بلال ( جنة عدن ) في وسط الجنان سورها ياقوت أحمر ، حصياتها
اللؤلؤ . ورضوان من الله أكبر : يعني وشيء من رضوانه أكبر من ذلك كله ، لأن رضاه سبب كل سعادة ، وموجب كل فوز ، وبه تنال كرامته التي أكبر أصناف الثواب . ذلك : أي الرضوان . هو الفوز العظيم : الذي يستحقر دونه كل لذة وبهجة .
(73) يا أيها النبي جاهد الكفار : قيل : بالسيف . والمنافقين : قيل : بإلزام الحجة ، وإقامة الحدود .
القمي : عن الباقر عليه السلام جاهد الكفار والمنافقين بإلزام الفرائض . وفي المجمع : في قراءة أهل البيت جاهد الكفار بالمنافقين ، قالوا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقاتل المنافقين ، ولكن كان يتألفهم ، لأن المنافقين لا يظهرون الكفر ، وعلم الله بكفرهم لا يبيح قتلهم إذا كانوا يظهرون الأيمان .
وفيه : في سورة التحريم عن الصادق عليه السلام أنه قرأ ( جاهد الكفار بالمنافقين ) قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل منافقا قط إنما كان يتألفهم .
والقمي أيضا : إنما نزلت ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجاهد المنافقين بالسيف ، قاله هنا .
وفي سورة التحريم عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) هكذا نزلت فجاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكفار ، وجاهد علي المنافقين ، فجاهد علي جهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير .
(74) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا .
القمي : نزلت في الذين تحالفوا في الكعبة أن لا يردوا هذا الأمر في بني هاشم
( 359 )
فهي كلمة الكفر ، ثم قعدوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة وهموا بقتله ، وهو قوله : ( وهموا بما لم ينالوا ) . وقال في موضع آخر : فلما أطلع الله نبيه وأخبره حلفوا له أنهم لم يقولوا ذلك ولم يهموا به حتى أنزل الله : ( يحلفون بالله ما قالوا ) الآية .
وعن الصادق عليه السلام : لما أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا يوم غدير خم كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين ، وهم : أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمغيرة بن شعبة ، قال عمر : ألا ترون عينيه كأنهما عينا مجنون يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم الساعة يقوم ويقول : قال لي ربي ، فلما قام قال : يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم ، قالوا : الله ورسوله ، قال : اللهم فاشهد ، ثم قال ألا من كنت مولاه فعلي مولاه ، وسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، فنزل جبرئيل وأعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقالة القوم فدعاهم وسألهم فأنكروا وحلفوا فأنزل الله : ( يحلفون بالله ما قالوا ) .
وفي المجمع : نزلت في أهل العقبة فإنهم أضمروا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة حين مرجعهم من تبوك وأرادوا أن يقطعوا أنساع (1) راحلته ثم ينخسوا (2) به ، فأطلعه الله على ذلك ، وكان من جملة معجزاته ، لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بوحي من الله فبادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة وحده ، وعمار وحذيفة أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها ، وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي وكان الذين هموا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر عرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماهم بأسمائهم .
قال : وقال الباقر عليه السلام : كانت ثمانية منهم من قريش ، وأربعة من العرب .
أقول : قد مضى بعض هذه القصة عند تفسير ( يا أيها الرسول بلّغ ) من المائدة ، وعند تفسير : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) من هذه السورة .
____________
(1) النسع بالكسر سير بنسج عريضا يشد به الرحال القطعة منه نسعة ويسمى نسعا لطوله وجمعه نسع بالضم وانساع م .
((2) نخس الدابة كنصر وجعل غرز مؤخرها بعود ونحوه م .
( 360 )
والعياش عن الصادق عليه السلام لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما قال في غدير خم ، وصاروا بالأخبية (1) مر المقداد بجماعة منهم يقولون : إذا دنا موته وفنيت أيامه وحضر أجله أراد أن يولينا عليا من بعده ، أما والله ليعلمن ، قال : فمضى المقداد وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : الصلاة جامعة ، قال : فقالوا : قد رمانا المقداد فقوموا نحلف عليه ، قال : فجاؤا حتى جثوا (2) بين يديه فقالوا : بآبائنا وأمهاتنا يارسول الله ، والذي بعثك بالحق ، والذي كرمك بالنبوة ما قلنا ما بلغك والذي اصطفاك على البشر ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( بسم الله الرحمن الرحيم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا ) بك يا محمد ليلة العقبة . وما نقموا : وما أنكروا وما عابوا . إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله : قال : كان أحدهم يبيع الرؤوس ، وآخر يبيع الكراع (3) ويفتل القرامل (4) فأغناهم الله برسوله ، ثم جعلوا حدهم وحديدهم عليهم والمعنى إنهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها ، وكان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر . فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا : بالأصرار على النفاق . يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة : بالقتل ، والنار . وما لهم في الارض من ولى ولا نصير : فينجيهم من العذاب .
(75) ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين .
القمي : عن الباقر عليه السلام هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف ، كان محتاجا فعاهد الله فلما أتاه بخل به .
وفي الجوامع : هو ثعلبة بن حاطب ، قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا
____________
(1) أي دخلوا خيامهم .
(2) أي جلسوا واجتمعوا .
(3) الكرع : محركة من الدابة قوائهما ودقة مقدم الساقين وكغراب من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس وهو مستدق الساق .
(4) القرامل هي ما تشده المرأة في شعرها من الخيوط .
( 361 )
فقال : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأن رزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له فاتخد غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسم المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل ، وقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا ويح ثعلبة .
وفي المجمع : روى ذلك مرفوعا .
(76) فلمآ آتيهم من فضله بخلوا به : منعوا حق الله منه . وتولوا : عن طاعة الله . وهم معرضون .
(77) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم : فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم . إلى يوم يلقونه : يلقون الله .
في التوحيد : عن أمير المؤمنين عليه السلام اللقاء : هو البعث . بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .
(78) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم : ما أسروه في أنفسهم من النفاق . ونجواهم : وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن . وأن الله علاّم الغيوب : لا يخفى عليه شيء .
(79) الذين يلمزون : يعيبون . المطوعين : المتطوعين . من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم : إلا طاقتهم فيتصدقون بالقليل .
وفي الحديث : أفضل الصدقة جهد المقل . فيسخرون منهم : يستهزؤون . سخر الله منهم : جازاهم جزاء السخرية ، كذا في العيون عن الرضا عليه السلام . ولهم عذاب أليم .
القمي : جاء سالم بن عمير الأنصار بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله كنت ليلتي أجر الجرير (1) حتى عملت بصاعين من تمر . فأما أحدهما فأمسكته وأما الآخر فأقرضته ربي ، فأمر
____________
(1) الجرير الحبل الذي يجر به البعير يريد انه استقى للناس على اجرة صناعين ( منه رحمه الله ) .
( 362 )
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينثره في الصدقات ، فسخر منه المنافقون ، فقالوا : والله إن كان الله لغني من هذا الصاع ما يصنع الله بصاعه شيئا ولكن أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه ليعطى من الصدقات فنزلت .
والعياشي : عن الصادق عليه السلام أجر أمير المؤمنين عليه السلام نفسه على أن يستقي كل دلو بتمرة بخيارها فجمع تمرا ، فأتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعبد الرحمن بن عوف على الباب فلمزه ، أي وقع فيه فنزلت هذه الآية ( الذين يلمزون ) .
(80) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم : لا فرق بين الأمرين في عدم الأفادة لهم . إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم : قيل : السبعون جاء في كلامهم مجرى المثل للتكثير . وروت العامة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : والله لأزيدن على السبعين فنزلت : ( سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) . وفي لفظ آخر قال : لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرة غفر لهم لفعلت .
والعياشي عن الرضا عليه السلام إن الله قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فاستغفر لهم مأة مرة ليغفر لهم فأنزل الله : ( سواء عليهم أستغفرت لهم ) الآية ، وقال : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فلم يستغفر لهم بعد ذلك ولم يقم على قبر أحد منهم .
أقول : لا يبعد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن يرجو إيمانه من الكفار ، وإنما لا يجوز استغفاره لمن يئس من إيمانه وهو قوله عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) إلى قوله : ( تبرأ منهم ) ويأتي تمام الكلام في هذا المقام عن قريب إنشاء الله ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله : إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا لقصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها . والله لا يهدي القوم الفاسقين : المتمردين في كفرهم .
( 363 )
(81) فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله : بقعودهم عن الغزو ، وخلفه يقال : أقام خلاف القوم ، أي : بعدهم وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله : إيثارا للدعة والخفض (1) على طاعة الله . وقالوا لا تنفروا في الحر : قاله بعضهم لبعض ، وقد سبق قصة الجد بن قيس في ذلك عند تفسير ( ومنهم من يقول إئذن لي ) وهذا تفضيح له من الله سبحانه . قل نار جهنم أشد حرا : وقد آثرتموها بهذه المخالفة . لو كانوا يفقهون : أن ما بهم إليها وانها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة .
(82) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا : إما على ظاهر الأمر ، وإما أخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة ، يعني : فيضحكون قليلا ويبكون كثيرا ، أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب ، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم . جزاء بما كانوا يكسبون : من الكفر والتخلف .
(83) وإن رجعك الله إلى طائفة منهم : فإن ردك إلى المدينة ، وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم ممن لم يتب ولم يكن له عذر صحيح في التخلف . فاستأذنوك للخروج : إلى غزوة اخرى بعد تبوك . فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا : إخبار في معنى النهي للمبالغة . إنكم رضيتم بالقعود أول مرة : تعليل له ، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم أول مرة وهي الخرجة إلى غزوة تبوك . فاقعدوا مع الخالفين : أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان .
(84) ولا تصل على أحد منهم مات أبدا : لا تدعو له وتستغفر . ولا تقم على قبره : للدعاء .
في المجمع : فإنه عليه السلام كان إذا صلى على ميت يقف على قبره ساعة ويدعو له فنهاه الله عن الصلاة على المنافقين والوقوف على قبرهم والدعاء لهم ثم بين سبب الأمرين . إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .
____________
(1) الخفض الراحة والسكون يقال هو في خفض من العيش أي في سعة وراحة ومنه عيش خافض وعيش خفيض أي واسع م .
( 364 )
القمي : في آية الأستغفار السابقة إنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ومرض عبد الله بن اٌبي وكان ابنه عبد الله مؤمنا فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه يجود بنفسه ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وامي إنك إن لم تأت على أبي كان ذلك عارا علينا ، فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمنافقون عنده .
فقال ابنه عبد الله بن عبد الله : يا رسول الله استغفر له ، فاستغفر فقال عمر : ألم ينهك الله يا رسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم .
فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعاد عليه ، فقال له : ويلك إني خيرت فاخترت إن الله يقول : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته ، فحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام على قبره ، فقال له عمر : يا رسول الله أولم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدا وأن تقوم على قبره .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ويلك وهل تدري ما قلت إنما قلت : اللهم احش قبره نارا ، وجوفه نارا ، واصله (1) النار ، فبدا من رسول الله ما لم يكن يحب .
والعياشي : عن الباقر عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن عبد الله بن اُبي : إذا فرغت من أبيك فأعلمني ، وكان قد توفي فأتاه فأعلمه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعليه للقيام ، فقال له عمر : أليس قد قال الله : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) ؟ فقال له : ويحك أو ويلك إنما أقول : اللهم إملأ قبره نارا ، واملأ جوفه نارا ، وأصله يوم القيامة نارا . وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد ابنه في الجنازة ومضى فتصدى له عمر ثم قال : أما نهاك ربك عن هذا أن تصلي
____________
(1) والصلاء ككساء الشواء لانه يصلى بالنار والصلاء أيضا النار قال الجوهري فان فتحت الصاد قصرت وقلت صلا النار والاصطلاء بالنار التسخن بها وفلان لا يصطلى بناره اي شجاع لا يطاق م .
( 365 )
على أحد مات منهم أبدا ؟ أو تقوم على قبره ؟ فلم يجبه ، فلما كان قبل أن ينتهوا به إلى القبر أعاد عمر ما قاله أولا .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر عند ذلك : ما رأيتنا صلينا له على جنازة ولا قمنا على قبر ، ثم قال : إن ابنه رجل من المؤمنين وكان يحق علينا أداء حقه ، فقال عمر : أعوذ بالله من سخط الله ، وسخطك يا رسول الله .
أقول : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا كريما كما قال الله عز وجل ، ( فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) ، فكان يكره أن يفتضح رجل من أصحابه ممن يظهر الأيمان ، وكان يدعو على المنافقين ويوري (1) أنه يدعو لهم وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر : ما رأيتنا صلينا له على جنازة ولا قمنا له على قبر ، وكذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القمي : خيرت فاخترت ، فورى صلى الله عليه وآله وسلم باختيار الأستغفار ، وأما قوله فيه : ( فاستغفر له ) فلعله استغفر لابنه لما سأل لأبيه الاستغفار ، وكان يعلم أنه من أصحاب الجحيم ، ويدل على ما قلناه قوله عليه السلام : ( فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن يحب ) ، هذا .
إن صح حديث القمي فإنه لم يستند إلى المعصوم ، والاعتماد على حديث العياشي هنا أكثر منه على حديث القمي ، لأستناده إلى قول المعصوم دونه ، لأن سياق كلام القمي تارة يدل على أنه كان سبب نزول الآية قصة ابن اُبي ، واخرى تدل على نزولها قبل ذلك .
وفي الكافي : عن الصادق عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبر على قوم خمسا ، وعلى قوم آخرين أربعا فإذا كبر على رجل أربعا أتهم يعني بالنفاق .
وفيه ، والعياشي : عنه عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا
____________
(1) وريت الخبر بالتشديد تورية إذا سترته وأظهرت غيره حيث يكون للفظ معنيان احدهما اشيع من الآخر فتنطق به وتريد الخفي م .
( 366 )
صلى على ميت كبر وتشهد ، ثم كبر وصلى على الأنبياء ، ثم كبر ودعا للمؤمنين ، ثم كبر الرابعة ودعا للميت ، ثم كبر وانصرف فلما نهاه الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين كبر وتشهد ، ثم كبر وصلى على النبيين ، ثم كبر ودعا للمؤمنين ، ثم كبر الرابعة وانصرف ولم يدع للميت .
(85) ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم في الدنيا : بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم وبما يشق عليهم إخراجها من الزكوات والأنفاق في سبيل الله . وتزهق أنفسهم وهم كافرون : قد مر تفسير الاية ، وإنما كررت للتأكيد ، أو هذه في فريق غير الأول .
(86) وإذا أنزلت سورة آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم : ذو الفضل والسعة . وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين : الذين قعدوا لعذر .
(87) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف : جمع خالفة .
العياشي : عن الباقر عليه السلام قال : مع النساء . وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون : ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة ، وما في التخلف عنه من الشقاوة .
(88) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم : إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم . وأولئك لهم الخيرات : منافع الدين والدنيا النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة ونعيمها في الآخرة . وأولئك هم المفلحون : الفائزون بالمطالب .
(89) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم .
(90) وجاء المعذرون من الاعراب : أهل البدو . ليؤذن لهم : المعذرون والمقصرون من عذر في الأمر ـ إذا توانى ، ولم يجد فيه ، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ، ولا عذر له .
ويجوز أن يكون من إعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ، ونقل حركتها
( 367 )
إلى العين ، وهم الذين يعتذرون بالباطل . وقعد الذين كذبوا الله ورسوله : في ادعاء الأيمان فلم يجيبوا ولم يعتذروا . سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم : بالقتل والنار .
(91) ليس على الضعفاء ولا على المرضى : كالهرمى (1) والزمنى . ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون : لفقرهم . حرج : إثم في التأخير . إذا نصحوا لله ورسوله : بالأيمان والطاعة في السر والعلانية . ما على المحسنين من سبيل : لا جناح ولا عتاب . والله غفور رحيم .
(92) ولا على الذين إذا ما أتوك : يعني معك . لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع : أي يسيل دمعها فإن ( من ) للبيان كأن العين كلها دمع فائض . حزنا أن لا يجدوا : لئلا يجدوا . ما ينفقون : في مغزاهم .
العياشي : عنهما عليهما السلام عبد الله بن يزيد بن ورقاء الخزاعي أحدهم .
والقمي : في قصة غزوة تبوك ، وجاء البكاؤن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم سبعة نضر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير قد شهد بدر الاختلاف فيه ، ومن بني واقف هرمي بن عمير ، ومن بنى حارثة علية بن زيد ، وهو الذي تصدق بعرضه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالصدقة فجعل الناس يأتون بها فجاء علية فقال : يا رسول الله ما عندي ما أتصدق به وقد جعلت عرضي حلالا .
فقال له رسول الله : قد قبل الله صدقتك ، ومن بني مازن ابن النجار أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، ومن بني سلمة عمرو بن غنيمة ، ومن بني زريق سلمة بن صخر ، ومن بني المعز ماضرة بن سارية السلمي هؤلاء جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكون ، فقالوا : يا رسول الله ليس بنا قوة أن نخرج معك فأنزل الله فيهم ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) إلى قوله : ( ألا يجدوا ما ينفقون ) قال : وإنما سأل هؤلاء البكاؤن نعلا يلبسونها .
(93) إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع
____________
(1) الهرم محركة والمهرم والمهرمة أقصى الكبر .
( 368 )
الخوالف : قال : كانوا ثمانين رجلا من قبائل شتى ، والخوالف : النساء . وطبع الله على قلوبهم : حتى غفلوا عن وخامة (1) العاقبة . فهم لا يعلمون : مغيبه .
(94) يعتذرون إليكم : في التخلف . إذا رجعتم إليهم : من الغزوة . قل لا تعتذروا : بالمعاذير الكاذبة . لن نؤمن لكم : لن نصدقكم . قد نبأنا الله من أخباركم : أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم ، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد . وسيرى الله عملكم ورسوله : أتتوبون عن الكفر ؟ أم تثبتون عليه ؟ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة : أي إليه ، فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم ، لا يفوت عن علمه شيء من ضمايرهم وأعمالهم .فينبئكم بما كنتم تعملون : بالتوبيخ ، والعقاب .
(95) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم : فلا تعاتبوهم . فأعرضوا عنهم : ولا توبخوهم . إنهم رجس : لا ينفع فيهم التوبيخ والنصح والعتاب ، لا سبيل إلى تطهيرهم . ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون .
(96) يحلفون لكم لترضوا عنهم : بحلفهم فتستديموا عليهم بما كنتم تفعلون بهم . فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين : ولا ينفعهم رضاكم إذا كان الله ساخطا عليهم .
في المجمع : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إلتمس رضى الله بسخط الناس ، رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس ، ومن إلتمس رضى الناس بسخط الله ، سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس .
القمي : لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرضون للمنافقين ويؤذونهم ، وكانوا يحلفون لهم أنهم على الحق وليسوا هم بمنافقين لكي تعرضوا عنهم وترضوا عنهم فأنزل الله ( سيحلفون بالله لكم ) الآية .
____________
(1) وخامة العاقبة سوؤها وعدم موافقتها وثقلها وردائها .
( 369 )
(97) الاعراب : أهل البدو . أشد كفرا ونفاقا : من أهل (1) الحضر ، لتوحشهم ، وقساوتهم ، وجفائهم ، ونشوهم في بعد من مشاهدة العلماء وسماع التنزيل . وأجدر أن لا يعلموا : وأحق بأن لا يعلموا . حدود ما أنزل الله على رسوله : من الشرايع وفرائضها وسننها . والله عليم : يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر . حكيم : فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا .
(98) ومن الأعراب من يتخذ : يعد . ما ينفق : يصرفه في سبيل الله ويتصدق مغرما : غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه عند الله ، ولا يرجو عليه ثوابا ، وإنما ينفق رياء وتقية ويتربص بكم الدوآئر : دوائر الزمان ، وعقباته ، وحوادثه ، لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الأنفاق . عليهم دائرة السوء : اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصونه ، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم ، والله سميع : لما يقولون عند النفاق . عليم : بما يضمرون .
(99) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات : سبب قربات . عند الله وصلوات الرسول : وسبب دعواته لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم . ألا إنها قربة لهم : شهادة من الله لهم بصحة معتقدهم ، وتصديق لرجائهم . سيدخلهم الله في رحمته : وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم . إن الله غفور رحيم : تقرير لهم .
(100) والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار .
القمي : هم النقباء ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان ، وعمار ، ومن آمن وصدق وثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام . وفي نهج البلاغة : لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض ، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر . والذين اتبعوهم بإحسان : بالأيمان والطاعة إلى يوم القيامة .
في الكافي ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام في حديث فبدأ بالمهاجرين
____________
(1) ومعناه ان سكان البوادي إذا كانوا كفارا ومنافقين فهم أشد كفرا من أهل الحضر لبعدهم عن مواضع العلم وعن استماح الحجج ومشاهدة المعجزات وبركات الوحي م ن .
( 370 )
الأولين على درجة سبقهم ، ثم ثنى بالأنصار ، ثم ثلث بالتابعين باحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده . رضي الله عنهم : بقبول طاعتهم وإرتضاء أعمالهم . ورضوا عنه : بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية . وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار : وقرء من
تحتها كما هو في سائر المواضع . خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (1) .
(101) وممن حولكم : ممن حول بلدتكم يعني المدينة . من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة : عطف على ممن حولكم . مردوا على النفاق : صفة للمنافقين ، أي تمهروا (2) فيه وتمرنوا (4) . لا تعلمهم : لا تعرفهم بأعيانهم ، وهو تقرير لمهارتهم فيه ، يعني يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك (4) لفرط تحاميهم مواقع الشك في أمرهم . نحن نعلمهم : ونطلع على أسرارهم . سنعذبهم مرتين : في الجوامع : هو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، وعذاب القبر (5) . ثم يردون إلى عذاب عظيم : عذاب النار .
(102) وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم .
القمي ، وفي المجمع : عن الباقر عليه السلام نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، وقد سبقت قصته عند تفسير ( لا تخونوا الله والرسول ) من سورة الأنفال .
____________
(1) قيل نزلت هذه الآية فيمن صلى إلى القبلتين وقيل نزلت فيمن بايع بيعة الحديبية ومن اسلم بعد ذلك وهاجر فليس من المهاجرين الاولين وقيل وهم اهل بدر وهم الذين اسلموا قبل الهجرة « مجمع البيان » .
(2) المتمهر الاسد الحاذق بالافتراس وتمهر حذق ق .
(3) مرن على الشيء يمرن مرونا ومرانة تعود واستمر عليه ص .
(4) في الحديث اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله الفراسة بالكسر الاسم من قولك تفرست فيه خيرا وهي نوعان احدهما ما يوقعه الله قي قلوب أوليائه فيعلمون بعض احوال الناس بنوع من الكرامات واصابة الحدس والظن وهو ما دل عليه ظاهر الحديث اتقوا آه وثانيهما نوع يعلم بالدلائل والتجارب والاخلاق م .
(5) فيه اقوال احدها ما ذكره المصنف رحمه الله والثاني معناه نعذبهم في الدنيا بالفضيحة فان النبي صلى اله عليه وآله ذكر رجالا منهم واخرجهم من المسجد الحرام يوم الجمعة في خطبته وقال اخرجوا فانكم منافقون ونعذبكم في القبر والثالث مرة في الدنيا بالسبي والقتل ومرة في الآخرة بعذاب القبر وروى عذبوا بالجوع مرتين والرابع اخذ الزكاة منهم وعذاب القبر الخامس غيظهم من اهل الاسلام وعذاب القبر السادس اقامة الحدود عليهم وعذاب القبر وكل ذلك محتمل وهاتان المرتان قبل ان يردوا الى عذاب النار .