أدوا إلى ذلك الامر الذي تريدون لي .
والقمي : ثم ادعوا علي ولا تنظرون ولا تمهلوني .
(72) فإن توليتم : أعرضتم عن تذكيري فما سألتكم من أجر يوجب توليكم لثقله عليكم ، واتهامكم إياي لأجله إن أجري ما ثوابي على الدعوة والتذكير إلا على الله لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم وأمرت أن أكون من المسلمين المنقادين لحكمه لا اخالف أمره ، ولا أرجو غيره .
(73) فكذبوه فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة ، وكان تكذيبهم له في آخر المدة الطويلة كتكذيبهم في أولها فنجيناه ومن معه في الفلك من الغرق وجعلناهم خلائف خلفاء لمن هلك بالغرق وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا بالطوفان فانظر كيف كان عاقبة المنذرين تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن كذب الرسول عن مثله وتسلية له .
(74) ثم بعثنا من بعده أرسلنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم يعني هودا ، وصالحا ، وإبراهيم ، ولوطا ، وشعيبا ، كلا إلى قومه فجاؤُهم بالبينات بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم فما كانوا ليؤمنوا فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة تصممهم (1) على الكفر بما كذبوا به من قبل يعني في الذر ، وقد مضت الاخبار في هذا المعنى في سورة الاعراف كذلك نطبع على قلوب المعتدين بالخذلان لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف .
(75) ثم بعثنا من بعدهم من بعد هؤلاء الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملائه وحزبه بآياتنا بالآيات التسع فاستكبروا عن اتباعهما وكانوا قوما مجرمين معايدين الاجرام فلذلك تهاونوا رسالة ربهم ، واجترؤا على ردها .
(76) فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه بتظاهر المعجزات القاهرة المزيحة (2) للشك قالوا من فرط تمردهم إن هذا لسحر مبين ظاهر .
____________
(1) أي تصلبهم وتشددهم .
(2) زاح الشيء يزيح زيحا من باب سار ويزوح زوحا من باب قال بعد وذهب ومنه زح عن الباطل اي زال وازاحه غيره .
( 413 )
(77) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر حذف محكي القول لدلالة ما بعده وما قبله عليه ، أو المعنى : أتعيبون الحق وتطعنون فيه . أسحر هذا : استيناف بانكار ما قالوه وليس بمحكي القول لأنهم بتوا (1) القول ولا يفلح الساحرون من تمام كلام موسى .
(78) قالوا أجئتنا لتلفتنا لتصرفنا عما وجدنا عليه آبآءنا من عبادة الاصنام .
وتكون لكما الكبرياء في الأرض : أي الملك فيها لأتصاف الملوك بالكبر . وما نحن لكما بمؤمنين : مصدقين فيما جئتما به .
(79) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم حاذق فيه ، وقريء سحار .
(80) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون .
(81) فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر أي الذي جئتم به ، لا ما سميتموه سحرا ، وقريء السحر بقطع الالف ومدها على الاستفهام ، ف ( ما ) استفهامية . إن الله سيبطله : سيمحقه ويظهر بطلانه إن الله لا يصلح عمل المفسدين لا يثبته ولا يقويه .
(82) ويحق الله الحق يثبته بكلماته بأوامره ، وقضاياه ولو كره المجرمون .
(83) فما آمن لموسى في مبدء أمره إلاّ ذرية من قومه إلا أولاد من قوم موسى يعني بني إسرائيل ، أو قوم فرعون . قيل : دعاهم فلم يجيبوه خوفا من فرعون إلا طائفة من شبانهم على خوف من فرعون وملاءهم أي حزب آل فرعون أن يفتنهم أن يعذبهم فرعون وإن فرعون لعال في الارض لقاهر فيها وإنه لمن المسرفين في الكبر والعتو والظلم والفساد حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الانبياء .
(84) وقال موسى لما رأى تخوف المؤمنين به يا قوم إن كنتم آمنتم به فعليه توكلوا فيه ثقوا وإليه اسندوا أمركم وعليه ، اعتمدوا إن كنتم مسلمين مستسلمين لقضاء الله المخلصين له ، وليس هذا تعليق الحكم بشرطين فإن المعلق بالأيمان وجوب التوكل فإنه
____________
(1) البت القطع أي جزموا به م .
( 414 )
المقتضى له والمشروط بالأسلام حصوله ، فإنه لا يوجد مع التخليط ، ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت .
(85) فقالوا على الله توكلنا لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك اجيبت دعوتهم ربنا لا تجعلنا فتتة موضع فتنة للقوم الظالمين أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا أو يعذبونا .
في المجمع عنهما عليهما السلام ، والعياشي : مقطوعا لا تسلطهم علينا فتفتنهم بنا .
والقمي : عن الباقر عليه السلام إن قوم موسى استعبدهم آل فرعون وقال لو كان لهؤلاء كرامة كما يقولون ما سلطنا عليهم ، وقال موسى لقومه : ( يا قوم إن كنتم آمنتم ) الآية .
أقول : هذه الرواية تفسير الرواية الاولى .
(86) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين من كيدهم واستعبادهم إيانا .
(87) وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا اتخذا مباءة أي مرجعا لقومكما بمصر بيوتا ترجعون إليها للعبادة واجعلوا أنتما وقومكما بيوتكم تلك البيوت قبلة مصلى وأقيموا الصلاة فيها .
القمي : عن الكاظم عليه السلام لما خافت بنو إسرائيل جبابرتها أوحى الله إلى موسى وهارون ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال : امروا أن يصلوا في بيوتهم وبشر المؤمنين بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى .
في العلل ، والعياشي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس فقال : أيها الناس إن الله عز وجل أمر موسى وهارون أن يبنيا لقومهما بمصر بيوتا ، وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ، ولا يقرب فيه النساء إلاّ هارون وذريته ، وأن عليا مني بمنزلة هارون من موسى فلا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ، ولا يبيت فيه جنبا إلا علي
( 415 )
وذريته ، فمن ساءه ذلك فهيهنا وضرب بيده نحو الشام .
وفي العيون : ما يقرب منه .
(88) وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاءه زينة ما يتزين به من اللباس والفرش والمراكب ونحوها وأموالا وأنواعا من المال في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك .
القمي : أي يفتنوا الناس بالأموال ليعبدوه ولا يعبدوك واللام للعاقبة ربنا اطمس على أموالهم أهلكها وامحقها واشدد على قلوبهم واقسها ، واطبع عليها حتى لا تنشرح للأيمان فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم لما لم يبق له طمع في إيمانهم اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ليشهد عليهم أنهم لا يستحقون إلا الخذلان ، وأن يخلى بينهم وبين إضلالهم ، ومعنى الطمس على الاموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها ، قيل صارت جميع أموالهم حجارة .
(89) قال قد أجيبت دعوتكما يعني موسى وهارون ، قيل : كان موسى داعيا وهارون يؤمن فسماهما داعيين .
في الكافي : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا موسى وأمّن هارون وأمنت الملائكة ، قال الله تعالى : ( قد أجيبت دعوتكما ) ومن غزا في سبيل الله استجيب له كما استجيب لكما يوم القيامة . فاستقيما : فأثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة ، وإلزام الحجة ، ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ، ولكن في وقته .
في الكافي ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام كان بين قول الله عز وجل : ( قد اجيبت دعوتكما ) وبين أخذ فرعون أربعون سنة .
وفي الخصال : عن الباقر عليه السلام أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ، ثم أخذه الله نكال الآخرة والاولى ، وكان بين ما قال الله لموسى وهارون : ( قد اجيبت دعوتكما ) وبين أن عرفه الاجابة أربعين سنة ، ثم قال : قال جبرئيل نازلت ربي في فرعون منازلة شديدة فقلت : يا رب تدعه وقد قال : ( أنا ربكم الاعلى ) ؟ فقال : إنما يقول : مثل هذا عبد مثلك .
( 416 )
ولا تتبعآن وقريء بتخفيف النون سبيل الذين لا يعلمون طريق الجهلة في الاستعجال وعدم الوثوق ، والاطمئنان بوعد الله .
(90) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر عبرنا بهم حتى جاوزوه سالمين فأتبعهم لحقهم . فرعون وجنوده بغيا وعدوا : باغين وعادين .
العياشي مرفوعا : لما صار موسى في البحر أتبعه فرعون وجنوده ، قال : فتهيب فرس فرعون أن يدخل البحر فتمثل له جبرئيل على رمكة فلما رأى فرس فرعون الرمكة أتبعها فدخل البحر هو وأصحابه فغرقوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه وقد قريء بالكسر على الاستيناف لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين كرر المعنى الواحد ثلاث مرات بثلاث عبارات حرصا على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته ، وقاله في وقت الالجاء ، وكانت المرة الواحدة كافية وقت الاختيار ، وبقاء التكليف .
(91) الآن تؤمن وقد آيست من نفسك ولم يبق لك إختيار وقد عصيت قبل قبل ذلك ، مدة عمرك وكنت من المفسدين الضالين المضلين عن الايمان .
القمي : عن الصادق عليه السلام ما أتى جبرئيل عليه السلام رسول الله إلا كئيبا حزينا ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون فلما أمره الله بنزول هذه الآية ( وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) نزل عليه وهو ضاحك مستبشر ، فقال رسول الله ما أتيتني يا جبرئيل إلا وتبينت الحزن من وجهك حتى الساعة ، قال : نعم يا محمد لما غرق الله فرعون ( قال آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، فأخذت حمأة فوضعتها في فيه ثم قلت له : ( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) وعملت ذلك من غير أمر الله عز وجل ثم خفت أن يلحقه الرحمة من الله عز وجل ويعذبني الله على ما فعلت ، فلما كان الآن وأمرني الله عز وجل أن اؤدي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت وعلمت أن ذلك كان لله تعالى رضا .
(92) فاليوم ننجيك ببدنك ننقذك عاريا عن الروح مما وقع فيه قومك من
( 417 )
البحر ، أو نلقيك على نجوة من الارض ، وهي المكان المرتفع ليراك بنو إسرائيل لتكون لمن خلفك وراك وهم بنو إسرائيل . اية : علامة يظهر لهم عبوديتك ومهانتك ، وإن ما كنت تدعيه من الربوبية محال وكان في أنفسهم أن فرعون أجل شأنا من أن يغرق .
القمي : أن موسى أخبر بني إسرائيل أن الله قد أغرق فرعون فلم يصدقوه فأمر الله البحر فلفظ به على ساحل البحر حتى رأوه ميتا ، ويأتي تمام الكلام فيه وإن كثيرا من الناس عن ايتنا لغافلون لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون .
في العيون : عن الرضا عليه السلام أنه سئل لأي علة غرق الله تعالى فرعون وقد آمن به وأقر بتوحيده ؟ قال : لأنه آمن عند رؤية البأس ، والايمان عند رؤية البأس غير مقبول ، وذلك حكم الله تعالى ذكره في السلف والخلف قال الله تعالى : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) ، وقال عز وجل : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) ، وهكذا فرعون لما أدركه الغرق قال : ( آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، فقيل له : ( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) وقد كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد قد لبس على بدنه فلما غرق ألقاه الله تعالى على نجوة من الارض ببدنه ليكون لمن بعده علامة فيرونه مع تثقله بالحديد على مرتفع من الارض ، وسبيل الثقيل أن يرسب ولا يرتفع ، فكان ذلك آية وعلامة ، ولعلة أخرى أغرقه الله عز وجل وهي : أنه استغاث بموسى لما أدركه الغرق ولم يستغث بالله تعالى فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى لم تغث فرعون لأنك لم تخلقه ولو استغاث بي لأغثته .
والقمي : عن الباقر عليه السلام في هذه الآية إن بني إسرائيل قالوا : يا موسى ادع الله أن يجعل لنا مما نحن فيه فرجا ، فدعا فأوحى الله إليه أن سر بهم ، قال : يا رب البحر أمامهم ، قال : امض فإني آمره أن يطيعك فينفرج لك ، فخرج موسى ببني إسرائيل وأتبعهم فرعون حتى إذا كاد أن يلحقهم ونظروا إليه قد أظلهم قال موسى للبحر : انفرج لي ،
( 418 )
قال : ما كنت لأفعل ، وقالت بنو إسرائيل لموسى غررتنا وأهلكتنا فليتك تركتنا يستعبدنا آل فرعون ولم نخرج الآن نقتل قتلة ، قال : ( كلا إن معي ربي سيهدين ) ، واشتد على موسى ما كان يصنع به عامة قومه ، وقالوا : يا موسى ( إنا لمدركون ) ، زعمت أن البحر ينفرج لنا حتى نمضي ونذهب وقد رهقنا فرعون وقومه وهم هؤلاء تراهم قد دنوا منا ، فدعا موسى ربه فأوحى الله إليه ( أن اضرب بعصاك البحر ) فضربه فانفلق البحر فمضى موسى وأصحابه حتى قطعوا البحر وأدركهم آل فرعون فلما نظروا إلى البحر قالوا لفرعون : أما تعجب مما ترى ؟ قال : أنا فعلت هذا فمروا وأمضوا فيه فلما توسط فرعون ومن معه أمر الله البحر فأطبق عليهم فغرقهم أجمعين فلما أدرك فرعون الغرق ، قال : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ) يقول الله عز وجل : ( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) يقول : كنت من العاصين ( فاليوم ننجيك ببدنك قال : إن قوم فرعون ذهبوا جميعا في البحر فلم ير منهم أحد هووا في البحر إلى النار ، وأما فرعون فنبذه الله عز وجل فألقاه بالساحل لينظروا إليه وليعرفوه ليكون لمن خلفه آية ولئلا يشك أحد في هلاكه أنهم كانوا اتخذوه ربا فأراهم الله عز وجل إياه جيفة ملقاة بالساحل ليكون لمن خلفه عبرة وعظة ، يقول الله : وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون.
(93) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوء صدق منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر .
القمي : ردهم إلى مصر وغرق فرعون ورزقناهم من الطيبات من اللذائذ فما اختلفوا في أمر دينهم وما تشعبوا شعبا حتى جاءهم العلم بدين الحق وقرؤا التورية وعلموا أحكامها ، أو في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظافر معجزاته إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فيميز المحق من المبطل بالأنجاء والاهلاك .
(94) فإن كنت (1) في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرؤُن الكتاب من
____________
(1)قيل المعنى إذا وقع لك شك فرضا وتقديرا فاسأل علماء اهل الكتاب فانهم يحيطون علما بصحة ما انزل اليك =
( 419 )
قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .
(95) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين .
في العلل ، والعياشي : عن الهادي عليه السلام أنه سأله أخوه موسى عن هذه الآية حين كتب إليه يحيى بن أكثم يسأله عن مسائل فيها أخبرني من المخاطب بالآية فإن كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس قد شك فيما أنزل الله وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذن أنزل الكتاب ، قال موسى : فسألت أخي علي بن محمد عليهم السلام عن ذلك فقال : المخاطب بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن في شك مما أنزل الله ولكن قالت الجهلة كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة ليفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب في الاسواق فأوحى الله إلى نبيه : ( فأسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلكم ) بمحضر من الجهلة هل بعث الله رسولا قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ولك بهم اسوة وإنما قال : ( فإن كنت في شك ) ولم يكن ولكن ليتبعهم كما قال : ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) ، ولو قال : ( تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم ) لم يكن يجيبون للمباهلة وقد عرف أن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مؤد عنه رسالته ، وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه .
وفي العلل : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أشك ولا أسأل .
والقمي : عن الصادق عليه السلام لما اُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ، وأوحى الله إليه في علي عليه السلام ما أوحى : من شرفه ، ومن عظمته عند الله ، ورد إلى البيت المعمور ، وجمع له النبيين وصلوا خلفه عرض في نفس رسول الله
____________
= وقيل بل خوطب رسول الله صلى الله عليه وآله والمراد امته والمعنى فان كنتم في شك وقيل الخطاب للسامع ممن يجور عليه الشك كقولهم إذا عز اخوك فهن ولا يخفى ما في هذه الاقوال من التهافت فان اهل الكتاب كيف يصدقونه وهو في شك من امره وان لم يصدقوه فهو اذن يدعونه الى دينهم وما انزل من الوحي انما انزل إليه ولم ينزل الى الامة فكيف تخاطب به الامة « منه رحمه الله » .
( 420 )
صلى الله عليه وآله وسلم من عظم ما أوحى إليه في علي عليه السلام فأنزل الله : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فأسأل الذين يقرؤن الكتب من قبلك ) . يعني الانبياء ، فقد أنزلنا إليهم في كتبهم من فضله ما أنزلنا إليك في كتابك ( لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ) فقال الصادق عليه السلام : فو الله ما شك وما سأل .
والعياشي : ما يقرب منه ، وفي معناه أخبار أخر ويأتي نظيرها في سورة الزخرف إنشاء الله ، وعلى كلتا الروايتين فالخطاب من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة .
(96) إن الذين حقت عليهم ثبتت كلمت ربك بأنهم يموتون على الكفر لا يؤمنون إذ لا يكذب كلامه ، ولا ينتقص قضاؤه .
(97) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم وحيث لا ينفعهم كما لم ينفع فرعون .
القمي : الذين جحدوا أمير المؤمنين عليه السلام عرضت عليهم الولاية وفرض الله عليهم الايمان بها فلم يؤمنوا بها .
(98) فلولا كانت قرية آمنت فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون إلى أن أدركه الغرق فنفعها إيمانها بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها إلاّ قوم يونس لكن قوم يونس لما آمنوا أول ما رأوا إمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ويجوز أن يكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التخصيص معناه فيكون الاستثناء متصلا كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس .
في الجوامع : وكان يونس قد بعث إلى نينوى (1) من أرض الموصل فكذبوه
____________
(1) نينوى بكسر اوله موضع بالكوفة وقرية بالموصل ليونس . ق .
( 421 )
فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا وبكوا فصرف الله عنهم العذاب ، وكان قد نزل وقرب منهم .
والعياشي : عن أبي عبيدة الحذاء ، عن الباقر عليه السلام قال : كتب أمير المؤمنين عليه السلام قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل حدثه أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة وكان رجلا تعتريه الحدة وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم ، عاجزا عما حمل من ثقل حمل أوقار (1) النبوة وأعلامها وانه تفسخ تحتها كما يتفسخ الجذع تحت حمله وأنه أقام فيهم يدعوهم إلى الايمان بالله والتصديق به واتباعه ثلاثا وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به ولم يتبعه من قومه إلا رجلان اسم أحدهما روبيل ، واسم الآخر تنوخا ، وكان روبيل من أهل بيت العلم والنبوة والحكمة ، وكان قديم الصحبة ليونس بن متى عليه السلام من قبل أن يبعثه الله بالنبوة ، وكان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة ، وليس له علم ولا حكم ، وكان روبيل صاحب غنم يرعاها ويتقوت منها ، وكان تنوخا رجلا حطابا يحتطب على رأسه ويأكل من كسبه ، وكان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا لعلم روبيل وحكمته ، وقديم صحبته ، فلما رأى يونس أن قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون ضجر وعرف من نفسه قلة الصبر فشكا ذلك إلى ربه وكان فيما شكا أن قال : يا رب إنك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة ، فلبثت فيهم أدعوهم إلى الايمان بك ، والتصديق برسالتي ، وأخوفهم من عذابك ونقمتك ثلاثا وثلاثين سنة ، فكذبوني ولم يؤمنوا بي ، وجحدوا نبوتي واستخفوا برسالتي ، وقد توعدوني وخفت أن يقتلوني ، فأنزل عليهم عذابك فإنهم قوم لا يؤمنون ، قال : فأوحى الله إلى يونس أن فيهم الحمل والجنين والطفل ، والشيخ الكبير ، والمرأة الضعيفة ، والمستضعف المهين ، وأنا الحكم العدل ، سبقت رحمتي غضبي ، لا اعذب الصغار بذنوب الكبار من قومك ، وهم يا يونس عبادي وخلقي وبريتي في بلادي ، وفي عيلتي أحب أن أتأناهم وأرفق بهم وأنتظر توبتهم ، وإنما بعثتك إلى قومك لتكون حفيظا عليهم تعطف عليهم بسجال الرحمة
____________
(1) الوقر بالكسر الجمل الثقيل أو اعم ج اوقار ق .
( 422 )
الماسة عنهم ، وتأناهم برأفة النبوة ، وتصبر معهم بأحلام الرسالة ، وتكون لهم كهيئة الطبيب المداوي العالم بمداواة الدواء ، فخرجت بهم ولم تستعمل قلوبهم بالرفق ولم تسسهم بسياسة المرسلين ، ثم سألتني عن سوء نظرك العذاب لهم عند قلة الصبر منك ، وعبدي نوح كان أصبر منك على قومه ، وأحسن صحبة وأشد تأنيا في الصبر عندي ، وأبلغ في العذر ، فغضبت له حين غضب لي ، وأجبته حين دعاني ، فقال يونس : يا رب إنما غضبت عليهم فيك ، وإنما دعوت عليهم حين عصوك ، فوعّزتك لا أتعطف عليهم برأفة أبدا ولا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم وتكذيبهم إياي وجحدهم نبوتي فأنزل عليهم عذابك فإنهم لا يؤمنون أبدا ، فقال الله تعالى : يا يونس إنهم مأة ألف أو يزيدون من خلقي يعمرون بلادي ويلدون عبادي ومحبتي إن أتأناهم للذي سبق من علمي فيهم وفيك ، وتقديري وتدبيري غير علمك وتقديرك وأنت المرسل ، وأنا الرب الحكيم ، وعلمي فيهم يا يونس باطن في الغيب عندي لا يعلم ما منتهاه وعلمك فيهم ظاهر لا باطن له ، يا يونس قد أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم وما ذلك يا يونس بأوفر لحظك من عندي ولا أحمد لشأنك وسيأتيهم عذاب في شوال يوم الاربعاء وسط الشهر بعد طلوع الشمس فأعلمهم ذلك ، قال : فسر ذلك يونس ولم يسؤه ولم يدر ما عاقبته فانطلق يونس إلى تنوخا العابد وأخبره بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم ، وقال له : إنطلق حتى أعلمهم بما أوحى الله إلي من نزول العذاب ، فقال تنوخا : فدعهم في غمرتهم ومعصيتهم حتى يعذبهم الله ، فقال له يونس : بل نلقى روبيل فنشاوره فإنه رجل عالم حكيم من أهل بيت النبوة فانطلقا إلى روبيل فأخبره يونس بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في شوال يوم الاربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس ، فقال له : ما ترى ؟ إنطلق بنا حتى أعلمهم بذلك ، فقال له روبيل : ارجع إلى ربك رجعة نبي حكيم ، ورسول كريم ، واسأله أن يصرف عنهم العذاب فإنه غني عن عذابهم ، وهو يحب الرفق بعباده وما ذلك بإصر (1) لك عنده ، ولا أسرى لمنزلتك لديه ، ولعل قومك بعد ما سمعت ورأيت
____________
(1) الاصر الذنب والثقل والاصر ايضا الكسر يقال اصرت الامر اصرا أي كسرته م ص .
( 423 )
من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما فصابرهم وتأناهم ، فقال له تنوخا : ويحك يا روبيل ما أشرت على يونس وأمرته به بعد كفرهم بالله وجحدهم لنبيه وتكذيبهم إياه وإخراجهم إياه من مساكنه وما هموا به من رجمه ، فقال روبيل لتنوخا : اسكت فإنك رجل عابد لا علم لك ، ثم أقبل على يونس فقال : أرأيت يا يونس إذا أنزل الله العذاب على قومك أنزله فيهلكهم جميعا أو يهلك بعضا ويبقي بعضا ، فقال له يونس : بل يهلكهم جميعا وكذلك سألته ما دخلتني لهم رحمة تعطف فاراجع الله فيهم وأسأله أن يصرف عنهم ، فقال له روبيل : أتدري يا يونس لعل الله إذا أنزل عليهم العذاب فأحسوا به أن يتوبوا إليه ويستغفروا فيرحمهم فإنه أرحم الراحمين ، ويكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن الله تعالى أنه ينزل عليهم العذاب يوم الاربعاء فتكون بذلك عندهم كذابا ، فقال له تنوخا : ويحك يا روبيل لقد قلت عظيما يخبرك النبي المرسل أن الله أوحى إليه أن العذاب ينزل عليهم ، فترد قول الله تعالى وتشك فيه ، وفي قول رسوله إذهب فقد حبط عملك ، فقال روبيل لتنوخا : لقد فسد رأيك ثم أقبل على يونس فقال : أنزل الوحي والامر من الله فيهم على ما أنزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم ، وقوله الحق أرأيت إذا كان ذلك فهلك قومك كلهم وخربت قريتهم أليس يمحو الله اسمك من النبوة وتبطل رسالتك وتكون كبعض ضعفاء الناس ، ويهلك على يدك مأة ألف من الناس ؟ فأبى يونس أن يقبل وصيته فانطلق ومعه تنوخا إلى قومه فأخبرهم أن الله أوحى إليه أنه منزل العذاب عليهم يوم الاربعاء في شوال وسط الشهر بعد طلوع الشمس فردوا عليه قوله وكذبوه وأخرجوه من قريتهم إخراجا عنيفا . فخرج يونس ومعه تنوخا من القرية وتنحيا عنهم غير بعيد ، وأقاما ينتظران العذاب وأقام روبيل مع قومه في قريتهم حتى إذا دخل عليه شوال صرخ روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم أنا روبيل الشفيق عليكم الرحيم بكم إلى ربه قد أنكرتم عذاب الله هذا شوال قد دخل عليكم وقد أخبركم يونس نبيكم ورسول ربكم أن الله أوحى إليه أن العذاب ينزل عليكم في شوال في وسط الشهر يوم الاربعاء بعد طلوع الشمس ، ولن يخلف الله وعده رسله . فانظروا ماذا أنتم صانعون ؟ فأفزعهم كلامه فوقع في قلوبهم تحقيق نزول العذاب فأجفلوا نحو روبيل ، وقالوا له : ماذا
( 424 )
أنت مشير به علينا يا روبيل ؟ فإنك رجل عالم حكيم لم نزل نعرفك بالرقة علينا والرحمة لنا ، وقد بلغنا ما أشرت به على يونس فمرنا بأمرك وأشر علينا برأيك ، فقال لهم روبيل : فإني أرى لكم وأشير عليكم أن تنظروا وتعمدوا إذا طلع الفجر يوم الاربعاء في وسط الشهر أن تعزلوا الاطفال عن الامهات في أسفل الجبل في طريق الاودية ، وتقفوا النساء في سفح الجبل ، ويكون هذا كله قبل طلوع الشمس فعجوا عجيج الكبير منكم والصغير بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله والتوبة إليه والاستغفار له ، وارفعوا رؤوسكم إلى السماء ، وقولوا : ربنا ظلمنا وكذبنا نبيك وتبنا إليك من ذنوبنا وإن لا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين ، فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين ، ثم لا تملوا من البكاء والصراخ والتضرع إلى الله ، والتوبة إليه حتى توارى الشمس بالحجاب أو يكشف الله عنكم العذاب قبل ذلك ، فأجمع رأي القوم جميعا على أن يفعلوا ما أشار به عليهم روبيل ، فلما كان يوم الاربعاء الذي توقعوا العذاب تنحى روبيل عن القرية حيث يسمع صراخهم ويرى العذاب إذا أنزل ، فلما طلع الفجر يوم الاربعاء فعل قوم يونس ما أمرهم روبيل به فلما بزغت الشمس أقبلت ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير وحفيف (1) فلما رأوها عجوا جميعا بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله وتابوا إليه واستغفروه ، وصرخت الاطفال بأصواتها تطلب أمهاتها ، وعجت سخال البهائم تطلب الثدي ، وسعت الانعام تطلب الرعا فلم يزالوا بذلك ، ويونس وتنوخا يسمعان صيحتهم وصراخهم ويدعوان الله بتغليظ العذاب عليهم ، وروبيل في موضعه يسمع صراخهم وعجيجهم ويرى ما نزل وهو يدعو الله بكشف العذاب عنهم ، فلما أن زالت الشمس وفتحت أبواب السماء وسكن غضب الرب تعالى رحمهم الرحمن ، فاستجاب دعاءهم ، وقبل توبتهم ، وأقالهم عثرتهم ، وأوحى إلى إسرافيل أن اهبط إلى قوم يونس فإنهم قد عجوا إلى بالبكاء والتضرع وتابوا إليّ واستغفروني فرحمتهم وتبت عليهم وأنا الله التواب الرحيم ، أسرع الى قبول توبة عبدي
____________
(1) حف الفرس حفيفا سمع عند ركضه صوت والافعى فح فحيحا الا ان الحفيف من جلدها والفحيح من فيها وكذلك الطاير والشجر إذا صوتت ق .